التطرف كأي حالة إنسانية تصيب مجتمع البشر، لا فرق بين عربي وأعجمي، أو بين أسود وأبيض، أو بين غني وفقير، أو بين رجل وامرأة ، حالة تعتمد في مضمونها على الغوغائيةـ.. تخفي ورائها حقائق مشوهة بعيدة عن فكر الإنسان المتحضر وأسلوب الكائن المُسالم، ترفض التروّي كأـسلوب في البحث عن الحقائق ولديها سرعة غير عادية في الأحكام والاتهامات..
ورغم وضوح التطرف في أذهان العرب ..إلا أن الصورة العامة له مشوّهة إلى حد كبير، وتعني التعامل معه كحالة مؤقتة لها ظروف بيئية أو اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية، فتعمل الحكومات على معالجة تلك الجوانب وهي تظن أنها تهزم التطرف..
هذا غير صحيح
أوروبا هي قارة غنية ونصيب الفرد فيها يتعدى ال50 دولاراً في اليوم، بينما في مصر لا يتعدى 4 دولارات، والتطرف في مصر كالتطرف في أوروبا، بل معدل المنضمين لداعش من بريطانيا –مثلاً-هو أعلى نسبياً من مصر، رغم أن بريطانيا ليست دولة مسلمة.
فالتطرف إذن ليس نتاج فقر ، ويكفي نموذج .."أسامة بن لادن"..لفهم طبيعة التطرف الغير مادية، فأسامة كان مليارديراً سعودياً اعتنق التشدد والجهاد، والرجل بحُكم منزلته المالية والاجتماعية جلب معه ألوفاً من الأنصار والمتعاطفين..
التطرف حالة مستمرة وليست مؤقتة تنتهي بمجرد مواجهة أمنية هنا أو هناك،ـ له قواعد مغذية دائمة نتكلم فيها كثيراً وهي التراث الديني، وله جوانب ينشط منها كالاستبداد أو الفراغ المجتمعي..ومعنى الفراغ المجتمعي يعني عدم وجود مجتمع يفهم معنى التطرف وأساليب علاجه، أو طاقة شبابية معطلة وغير مثقفة تدفع بنفسها في آتون الهدم كونها تجهل العواقب بجهلها طبيعة الحدث نفسه.
يوجد مشروع ناديت به منذ أكثر من عام طالبت فيه الدولة والمجتمع المدني .."بتثقيف القرية المصرية"..ولكون مصر جزءاً من العرب وتتأثر بهم فجميع القُرى العربية مُستهدفة ضمن هذا المشروع الذي أراه عماد التنوير وأصل الأصول..
النهضة ستبدأ من القرية كونها هي المؤثر الحقيقي على الشخصية العربية، وأبرز دليل أن التمدن الذي عاش فيه العرب لعقود في القرن العشرين انتهى بعد الانفتاح وهجرة القرويين للمدن، جلبوا معهم كل ثقافة القرية الرجعية والواقعة تحت تأثير المشايخ والدراويش، هذه القرية ظلت لقرون متواصلة بعيدة عن أي نهج إصلاحي للمماليك أو العثمانيين أو الاستعمار بشكل عام، وفور وجود مساحة ضيقة للحرية والهجرة انطلقوا وانقلبت معها المدن العربية لوباء متفش من التطرف وسيادة الدين الشكلي وإهمال الدين الروحي.
ليس انتقاصاً من القرويين أو الفلاحين فلديهم أصول عُرفية وأخلاقية واجتماعية أفضل كثيراً من مجتمع المدن، ولكن جوهر مشكلة التطرف يكمن فيهم باعتقادهم ولاية المشايخ وحقهم في الوكالة عن الله، وعليه شاع في القرية أن عدو الشيخ هو عدو الدين بالضرورة ...رغم أنه لا رابط بين هذا وذاك، وهو ما كان يفقهه مجتمع المدينة خصوصاً في بدايات القرن العشرين حتى زمن الانفتاح.
كان المدنيون يرون الشيخ ممثلاً لحالة من التدين وليس.."كل"..التدين، حالة في أغلب الأحوال كانت مسار سخرية من الكتاب والمثقفين، وظهر واضحاً في الأعمال السينمائية في القرن العشرين بتصوير رجل الدين كشخص انتهازي ومادي وكذاب ودرويش، عدا ما كان عليه مجتمع القرية بتصوير رجل الدين ككبير العائلة والقائم على شئون المجتمع ورياسته لأهل الحل والعقد.
هذه الصورة القروية هي التي انتقلت لمجتمع المدينة فور انتشار الدين الوهابي السلفي الذي غزا مجتمعات العرب بعد عصر الانفتاح، ولكون رجل الدين مادي في عقيدة أهل المدن رأوا لا فارق بينه وبين الحالة المادية الرأسمالية المرافقة للانفتاح، فظنوا أن الشيخ بالعموم هو حالة دينية وانتفاضة إصلاحية اكتسبت كل عناصر ثورة الانفتاح..ومن هنا جاءت شعبية رجل الدين.
ألف باء إصلاح....أنه لا إصلاح دون علم، ولا علم دون قناعة، وهذا يعني أن فرض العلم فرضاً من أعلى الهرم أسلوب لن يجدي، وعليه كان قاع الهرم وجذور المجتمع هي الحل..إنها القرية ياعزيزي