في ظل حكم السلطان صلاح الدين الأيوبي حدثت فاجعة للمتنورين وطالبي الحكمة، أصدر السلطان فرماناً بمعاقبة الفيلسوف الإشراقي الشهير.."شهاب الدين يحي السهروردي"..بالقتل جوعاً وعطشا، فتم حبسه إلى أن لقى ربه.
ولد الشيخ السهروردي في سهرورد شمال العراق، وهي إحدى مدن الأكراد عام 549هــ، أي لم يكن عربياً، ويُشبهه في الإسم شهاب الدين عمر السهروردي أحد أقطاب الصوفية ومؤلف كتاب.."عوارف المعارف"..أما فيلسوفنا الإشراقي فهو مؤلف كتاب.."حكمة الإشراق"..وقد تم تمييزه عن الآخر بوصفه.."بالمقتول"..نسبةً إلى نهايته الحزينة على أيدي السلطة السياسية الحاكمة في هذا الوقت.
ولأن صلاح الدين كان كردياً وكذلك السهروردي فلا أستبعد خصومة سياسية مباشرة بينهما، ولأن صلاح الدين كان متعصباً للمذهب السني وطريقته الشافعية، والسُنيون بالمجمل لديهم موقف من الفلسفة والعرفان، فأكثر علماء السنة على ذم الفلسفة وقهر أصحابها وقمع من يُنادي بها، وقد اكتسبوا هذه النزعة من الأمويين وصراعهم مع فلاسفة المعتزلة والقدرية، وعززها التوجه العباسي باستكمال الخط الأموي في قهر المفكرين وحرية الرأي والتعبير.
وتتلخص الفلسفة الإشراقية التي أسسها -أو أحياها- السهروردي في أن الطريق إلى الحقائق يأتي بالكشف وليس بالعقل، ويأتي الإسم"الإشراق" من شروق أنوار الحقائق في ذهن الحكيم، وقلت أحياها لأن هناك من يقول أن أفلاطون هو المؤسس لهذا الفكر، وعلى شهرة أفلاطون في فلسفة المثال فتُعد حكمة الإشراق هي صنف أو جانب من هذه الفلسفة ، وهي نوع من التفكير يتجنب المادة والواقع، وقد أضاف لها السهروردي بُعدها العرفاني الذي يُشبه طُرق الصوفية في التأمل والسلوك.
وفي قصة مقتله يروى ابن شداد في كتابه.."النوادر السلطانية"..في سيرة صلاح الدين قال وهو يحكي أحداث عام 587هــ: "وفيها قتل أبو الفتح يحيى الملقب شهاب الدين السهروردي الحكيم الفيلسوف بقلعة حلب محبوساً أمر بخنقه الملك الظاهر غازي بأمر والده السلطان-يقصد صلاح الدين- قرأ المذكور الأصولين والحكمة بمراغة على مجد الدين ثم سافر إلى حلب وكان علمه أكبر من عقله، فنسب إلى انحلال العقيدة وأنه يعتقد مذهب الفلاسفة فأفتى الفقهاء بإباحة دمه لما ظهر من سوء مذهبه واشتهر عنه، وكان أشدهم في ذلك زين الدين ومجد الدين ابنا جهبل.... كان عمره لما قتل ثمانية وثلاثين سنة وله عدة مصنفات في الحكمة منها التلويحات والتنقيحات والمشارع والمطارحات وكتاب الهياكل وحكمة الإشراق وكان يزعم أنه يعرف السيمياء وله نظم حسن"..انتهى
وابن شداد كان معاصراً لصلاح الدين والسهروردي، وكتابه في النوادر السلطانية يعتبر من أوثق الكتب التي كشفت حقيقة مقتل ذلك الفيلسوف، وإذا تأملنا في عنوان الكتاب.."النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية"..ثم مضمون الكتاب سنرى أن ابن شداد جعل كتابه خصيصاً في مدح صلاح الدين، وبالطبع سيذم خصومه أو من يعتقدهم صلاح الدين معاندين للشريعة أو زنادقة، وحين مقتل السهروردي سنرى أن ابن شداد يبرر ذلك العمل الأرعن في النص التالي:
"وكان رحمة الله عليه-يعني صلاح الدين- كثير التعظيم لشعائر الدين يقول ببعث الأجسام ونشورها ومجازاة المحسن بالجنة والمسيء بالنار مصدقاً بجميع ما وردت به الشرائع منشرحاً بذلك صدره مبغضاً للفلاسفة والمعطلة ومن يعاند الشريعة ولقد أمر ولده صاحب حلب الملك الظاهر أعز الله أنصاره بقتل شاب نشأ يقال له السهروردي قيل عنه أنه كان معانداً للشرائع مبطلاً وكان قبض عليه ولده المذكور لما بلغه من خبره وعرف السلطان به فأمره بقتله فطلبه أياماً فقتله"..(النوادر السلطانية 1/37)
على هذا المدح وسيرة ابن شداد نفسه سنرى العلاقة الوثيقة بين صلاح الدين وابن شداد، حيث عينه صلاح الدين قاضياً للعسكر، وهذا منصب كبير-آنذاك-في الدولة.
وأعتقد أنه لولا تلك المكانة التي حظى بها ابن شداد في دولة صلاح الدين لأرّخ لمقتل السهروردي بطريقة مختلفة، أو لو كان يدين بمذهب آخر سيكتب كلاماً مختلفاً على شاكلة الحاكم الطاغية الذي كان يكره الفكر ويقمع الأحرار ويقتل الإبداع وما إلى ذلك.
والغريب أن كل من نقل قصة مقتل السهروردي اعتمد بشكل أساسي على كلام ابن شداد، فنرى ابن الوردي ينقل كلام ابن شداد بالحرف في تاريخ ابن الوردي(2/102) أي كان ابن شداد هو المصدر الوحيد لمعرفة الرجل، وتبعاً للتقليد السائد في هذا الزمان انتقلت رؤية ابن شداد بالوراثة حتى أصبحت ديناً وسنة معتبرة ، فلم يُجهد ابن الوردي نفسه ليتفكر كيف حال الرجل، وهل ذلك يصح أم لا، ولكن ولأن كتب الفقهاء في معظمها بطريقة.."قال فلان وعلان"..فلا مساحة للعقل تُذكر في أدبياتهم.
لكن أبي العباس ابن أصيبعة نقل قصة مقتل السهروردي بطريقة أخرى تكشف جانباً مهماً غفل عنه ابن شداد، أو تناساه عمداً حسب تقديري، قال في كتابه.."عيون الأنباء في طبقات الأطباء"..:
"شهاب الدين السهروردي هو الإمام العالم الفاضل أبو حفص عمر كان أوحدا في العلوم الحكمية جامعا للفنون الفلسفية بارعا في الأصول الفلكية مفرط الذكاء جيد الفطرة فصيح العبارة لم يناظر أحدا إلا بزه ولم يباحث محصلا إلا أربى عليه وكان علمه أكثر من عقله.
حدثني الشيخ سديد الدين ابن عمر قال كان شهاب الدين السهروردي قد أتى إلى شيخنا فخر الدين المارديني وكان يتردد إليه في أوقات وبينهما صداقة وكان الشيخ فخر الدين يقول لنا ما أذكى هذا الشاب وأفصحه ولم أجد أحدا مثله في زماني إلا أني أخشى عليه لكثرة تهوره واستهتاره وقلة تحفظه أن يكون ذلك سببا لتلافه.
قال فلما فارقنا شهاب الدين السهروردي من الشرق وتوجه إلى الشام أتى إلى حلب وناظر بها الفقهاء ولم يجاره أحد فكثر تشنيعهم عليه فاستحضره السلطان الملك الظاهر غازي ابن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب واستحضر الأكابر من المدرسين والفقهاء والمتكلمين ليسمع ما يجري بينهم وبينه من المباحث والكلام فتكلم معهم بكلام كثير بان له فضل عظيم وعلم باهر وحسن موقعه عند الملك الظاهر وقربه وصار مكينا عنده مختصا به.
فازداد تشنيع أولئك عليه وعملوا محاضرة بكفره وسيروها إلى دمشق إلى الملك الناصر صلاح الدين وقالوا إن بقي هذا فإنه يفسد اعتقاد الملك الظاهر وكذلك إن أطلق فإنه يفسد أي ناحية كان بها من البلاد وزادوا عليه أشياء كثيرة من ذلك فبعث صلاح الدين إلى ولده الملك الظاهر بحلب كتابا في حقه بخط القاضي الفاضل وهو يقول فيه إن هذا الشهاب السهروردي لا بد من قتله ولا سبيل أنه يطلق ولا يبقى بوجه من الوجوه ولما بلغ شهاب الدين السهروردي ذلك وأيقن أنه يقتل وليس جهة إلى الإفراج عنه اختار أن يترك في مكان مفرد ويمنع من الطعام والشراب إلى أن يلقى الله تعالى ففعل به ذلك"..انتهى..(عيون الأنباء في طبقات الأطباء 1/642)
ومعنى كلام ابن أصيبعة أن السهروردي لم يكن بهذه الصورة التي رسمها ابن شداد من أنه معانداً للشريعة أو زنديق، فالرجل أفحم فقهاء السلطان، حتى أعُجب به الظاهر غازي ابن صلاح الدين، لكن لقوة ومكانة هؤلاء الفقهاء عند السلطان الأب-صلاح الدين- ضغطوا عليه كي يقتله بعد ما أفحمهم في المناظرة، ولكي تكون دعوتهم مقبولة عند الأب زعموا أن عقيدة السهروردي خطر على الإبن ..
وهذا يدل على خطر رجال الدين وأنهم يعملون لسمعتهم ومكانتهم، وأن أكثرهم على هذه الشاكلة لديها استعداد لإراقة الدماء في سبيل الحفاظ على هذه السمعة والمكانة الدنيوية.
تأتي استجابة صلاح الدين لهؤلاء الفقهاء ربما في تقديري أنها لحفظ الدولة وضمان تأييد الشعب في مواجهة الصليبيين، فموقعة حطين الشهيرة حدثت قبل مقتل السهروردي بعام أو بعد مقتله بعام، وقيل قبل مقتله بثلاثة أعوام، أي أن الظرف السياسي عند صلاح الدين لم يكن يسمح بانشقاق الدولة أو الاختلاف حول شاب يقول آرائه بتهوّر حسب كلام المؤرخين، وهذا ليس تبريراً لصلاح الدين ولكن إدانة له، حيث لا يجوز الاستهتار بأرواح الناس بهذه الكيدية، فلو استمع السلطان لكلام الخصوم في بعضهم لقتل جميع الناس.
إن مقتل السهروردي سيظل حدثاً شائناً في حق صلاح الدين وفقهاء السلطة في هذا الزمان، فالرأي -أياً كان مزعجاً -له رأي آخر على نقيضه أو خلافه، وربما كان يعي صلاح الدين ذلك فما الذي دعاه إلى قتله وكان بإمكانه أن يحتويه ضمن منظومة فكر وعمل رائعة ستأتي في النهاية لصالح دولته، لكن ذلك لم يحدث وظل كلما ذُكر صلاح الدين ذكرت دماء السهروردي المقتول ورحم الله الجميع.