(قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)آل عمران
تبدأ الآيات الكريمة بكلمة قل " التي ندري أنها جاءت كي تعبر عما يجب أن يرد به الرسول الكريم على من يسأل ، ولاشك أن السؤال كان ولايزال مطروحا فيما تم طرحه من قضايا أو موضوعات خلافية نوقشت في قضايا قل ، والعجيب أنه مايزال حولها خلاف بين الناس إلى الآن... فسبحانه العليم بخلقه ،الخبير بطباعهم :
(أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)الملك) ، بدأت بالإجابة ( قل اللهم مالك الملك ... ) ،ولم تبدأ بالسؤال .. تطرح نتيجة مجملة ، ثم التفصيل : تؤتي الملك .. وتنزع .. وتعز .. وتذل .. ، بصيغة الفعل المضارع الذي يدل على التجدد والاستمرار ، إلى أن ناتي لخلاصة الخلاصة والفيصل والحقيقة المؤكدة التي لا تقبل الشك ما هي : ( بيدك الخير) وهذا هو موضوعنا الأساس ، إذ ان الخير هنا في هذه الآيات تحديدا والمعرفة بالألف واللام (والله أعلم ) تأتي من الخيار ... فالآية الكريمة تجمع خيارات عدة جميعها يملكها الله فـ ( تؤتي ، تنزع ) ، (تعز وتذل ) فهو بيده الملك أي : أن الله سبحانه وتعالى وهوالمالك لكل هذه الخيارات المطروحة في الآيات ، وبرأيي المتواضع أن بيدك الخير مساوية تماما لـ (مالك الملك)...
( تؤتي الملك من تشاء )،العدل أساس الملك من أسباب بقاء الملك تحقيق العدل، ويستمر ملكه وسيطرته إلى أن يأتي بظلم ولا يتحقق العدل ، وينتشرالفساد والإفساد ، فينفض الناس عنه تدريجيا ويعزل :( وتنزع الملك ممن تشاء ) ..
ماأسباب العزة عند البشر ؟ توضح الآية الكريمة شروط العزة :
(مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)فاطر ) الالتزام بقواعد العزة ومقوماتها التي أوضحتها الآيات ،في طاعة الله وإذا أخل المرء في طاعته لله ، وحاد عن طريقه تحولت عزته إلى ذل وهوان ,, ، وسوف نضرب أمثلة لملوك آتاهم الله الملك ، أولا داوود عليه السلام ، وقد تعرض لفتنة اختبار ، لكنه عاد وأناب لربه :
(يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)ص
سليمان عليه السلام الله، وعندما انشغل بعض الوقت بالخيول وترك ذكر ربه قد وضعه الله سبحانه في اختبار صعب فرأى جسدا يجلس مكانه على كرسي الحكم وقدأخذ منه ملكه أما عينيه ، فأناب واستغر ربه طالبا منه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده :
(فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ (33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35)
وطالوت قد آتاه الله الملك أيضا ، وكانت آية ملكه التابوت ، وبما فيه من سكينة ورحمة ، وبقية مما ترك آل موسى هارون :
(وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنْ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)البقرة...)
ملكة سبأ قد ذكرها القرآن بأن لها ملكا عظيما :
(إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (24) النمل وقومها يطيعونها فيما تأمرهم به ، لكن تأمل موقفها عندما آثرت السلامة مع سليمان ، ولم تشأ أن تعرض قومها للحروب مع قوتهم هذا يدل على حكمة ، وتميز :
(قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (
فقط كان ينقصها ان تكون على عقيدة سليمة ولا يعبدها قومها من دون الله وقد آمنت مع سليمان وحلت هذه القضية وأكيد قد بقي ملكها لبقاء العدل والقسط فيه :
(قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44النمل
. وكذا كل ملوك الأرض يتحقق ملكهم ثباتا إذا ماالتزموا بالعدل وبعدوا عن الظلم والفساد
وتتابع الآية : ( إنك على كل شيء قدير ) والدليل على أن هذا الخيار بيد الله وحده وفي تمام سيطرته ما جاءت به الآية الثانية من قول الله سبحانه:
(تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ)
فكل هذه الأمور من اختصاص الله سبحانه وحده ، وكذلك الرزق :
(وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) وهذا لا يتعارض مع قضية إرادة الإنسان و مشيئته في أن يختار بين الهداية والضلال ،او يختار بين استخدام العقل أو الاتباع الأعمى .. فحرية الاختيار مكفولة للإنسان في هذا المجال ، إذ أنه من غير المعقول أن يجبر على اختيار طريق معين ، ثم يحاسب يوم القيامة و قد كان مجبرا في الدنيا ، لأن هذا يتعارض والعدل الإلهي ... (حاشا لله ) .. ، ولذلك كان المكره الذي تسلب منه حريته له غذره المقبول :
( مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)النحل
وقول سحرة فرعون لفرعون هذه الحقيقة
( إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنْ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73)طه
وقد اختلفت مدارس البشر في هذه القضية ما بين مؤيد لحرية الإنسان ومشيئته وبين من يقول أنه مسير فأصبحت من القضايا الفلسفية الخطيرة فقد أخذت وقتا وجهدا خطيرين ، وكانت من عوامل الفرقة الكثيرة التي ابتلي بها المسلمون .. وما أقصده تحديدا ،قضية الاختيار ، هل الإنسان مسير أم مخير ..؟ أتدركون معي حجم القضية .. على أساس الاختلاف في هذه القضية رأينا معارك طاحنة امتزج...فيها التكفير مع الاختلاف وتناغما.. فمن يقول بأن الإنسان مسير ،وآخر يؤكد على اختياره ، وثالث يمتنع عن المشاركة ..مرجئا رأيه في القضية .. وضاع المسلمون بين كل تلك الآراء وضاع معهم قربهم من الكتاب الوحيد : (القرآن الكريم ) لأنهم يأخذون بمرجعية ثانية تفسد كل اختيارتهم ، ويقولون: إن الخلاف لا يفسد للود قضية .. و أنا أرى أن خلافهم لا يفسد لودهم قضية صحيح .. لكن لسبب بسيط أن الود ليس موجودا من الأساس ...
وبعد .. لكل منا خياره يبدأ صباح كل يوم ( صباح الخير) هو صباح الخيار، والاختيار ... خيارات مطلوب منه وحده أن يختار لنفسه ما يريده منها ، طالما أنه مازال حيا أمامه اختبارات واختيارات أهمها على الإطلاق : أيكون متبعا لسلفه سائرا على طريقهم أو مهتديا لربه ، طائعا لأوامره مبتعدا عن نواهيه سبحانه .. أما فيما يخص رب العزة فيكون على الإنسان المسلم التسليم والإذعان له سبحانه ، لأنه بيده الخير كله سبحانه فيقول:
( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69) القصص
ودائما ، صدق الله العظيم