كتاب ( التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )
الجزء الأول : العقائد الدينية فى مصر المملوكية بين الاسلام والتصوف .
الباب الأول : مراحل العقيدة الصوفية وتطورها في مصر المملوكية من خلال الصراع السنى الصوفى
الفصل الثانى : ( المرحلة الثانية للعقيدة الصوفية من بعد الغزالي ( 505 ) إلى ابن عربي ت 638 هـ):
ازدهار التصوف في عصر الغزاليمدخل :
1 ـ استطاع " الجنيد" وتلاميذه الحفاظ على رمق للتصوف عاش به وسط النفوذ الحنبلي الذي سيطر على الخلافة العباسية منذ عهد المتوكل العباسي ، ذلك الخليفة التي أوسع للحنابلة في سلطانه فاضطهدوا الشيعة والصوفية وأهل الكتاب ، ثم ضعفت قبضة الخلافة العباسية ، وظهرت ولايات مستقلة في إطار الدولة العباسية ، وتكاثر الأمراء والمتغلبون داخل بغداد وخارجها ،وانتشرت الاضطرابات السياسية ، وتكاثر الظلم ، وبنفس القدر ازداد أتباع التصوف وكثرت مدارسهم وتشابكت وسائل الاتصال بينهم عبر الأقطار والولايات ، فازدهرت السياحة الصوفية تنشر المبادئ والأفكار والأخبار والمنامات والكرامات ، وتجتذب طوائف العوام ، وأصبح المتغلب على الحكم في الولايات والدويلات يضيق بالفقيه الحنبلي الذي يقول هذا حرام وهذا مكروه ، وأضحى يميل إلى الشيخ الصوفي الذي يحرق له البخور ويرى كل الأفعال ( صالحة أو طالحة ) مصدرها من الله ولا سبيل للاعتراض عليها ، ومن هنا بدأ التحالف بين الصوفية والحكام ، ونمى تيار التصوف برعاية الحكام ودخول أفراد العوام ليصيروا شيوخاً بدون تعب في طلب العلم الظاهر ، وإنما بمجرد إدعاء الولاية وترديد أقوال الشطح وعقائد التصوف . ويكفيهم أن الغزالي شيخ الفقهاء والمتكلمين والصوفية هزم الفقهاء والمتكلمين ، ويكفيهم أن المرحلة الأولى بدأت بنفاق " الجنيد " ، ثم تحول النفاق – بالغزالي – إلى وفاق بين السّنة والتصوف ، وقبلها فى العصر العباسى الأول تم أسلمة ( السنة ) بالجمع بين مقولتى ( الكتاب والسنة ) ، أى نفس الثنائية المعهودة لدى المسلمين فى اديانهم الأرضية التى لا تكتفى بالقرآن الكريم وحده مصدرا لدين الاسلام ، مع أن كل رسول نزلت عليه رسالة الاهية واحدة وبكتاب واحد وليس بكتاب وسنة أو كتاب و ( عترة ) أو كتاب وتصوف .!! لكننا هنا لا نتحدث عن الاسلام ولكن عن المسلمين وتصوفهم وصراعه مع دين السنة .
إنكار الغزالى على صوفية عصره
1 ــ مر بنا أن القشيري أنكر على عوام الصوفية مقالتهم في الاتحاد بالله وإتيانهم المحرمات مع تركهم المفروضات .. وإن ذلك دفعه لكتابة ( الرسالة القشيرية ) لهم حتى يدافع عن مبدأ التصوف الذي يواجه إنكار الأعداء من الفقهاء ..
2 ــ وعلى نفس الطريق سار الغزالي ينكر على أوباش الصوفية في عهده أن يتشبهوا بالأولياء السابقين في دعاويهم ويهمنا أن هذا التيار الصوفي كان في ازدياد في عصر الغزالي إلى درجة أجبرته على أن يتصدى له بالإنكار في كتابه ( الإحياء) ، مع أن الغزالي وهو الفيلسوف الحصيف يدرك أنه بذلك يناقض نفسه ، إذ كيف يقرر عقائد الصوفية في صفحة ثم ينكر على بعض الصوفية التلفظ بتلك العقائد في صفحة أخرى ..
3 ــ ومعنى ذلك أن الغزالي قد أختار أهون الشرين ففضل الوقوع في التناقض مع نفسه- وهو ينكر على الصوفية تطبيق عقيدته - على أن يدع غيره من الأخصام يتولى الإنكار عليهم وعلى التصوف فيتجاوز بالإنكار إلى حد يخشى من الوصول إليه ، وهكذا بادر الغزالي فسحب البساط من تحت أرجل الفقهاء ، وأنكر على طائفة من الصوفية في عدة أسطر ، بينما ملأ صفحات من كتابه في الإنكار على الزهاد والعباد والفقهاء والمتكلمين وأصحاب الحديث في أمور سلوكية لا تمس العقيدة ولا ينجو منها أي إنسان مهما كان .
4 ــ يقول الغزالي عن بعض الصوفية ( طائفة أدعت علم المعرفة ( الاتحاد) ومشاهدة الحق ومجاوزة المقامات والأحوال والملازمة في عين الشهود والوصول إلى القرب ( تلك اصطلاحات الصوفية عن الاتحاد بالله ) ، ولا يعرف هذه الأمور إلا بالأسامي والألفاظ ، لأنه تلقف من ألفاظ الطامات ( يقصد الشطح ) كلمات ، فهو يرددها ، ويظن أن ذلك أعلى من علم الأولين والآخرين ، فهو ينظر إلى الفقهاء والمفسرين والمحدثين وأصناف العلماء بعين الازدراء فضلاً عن العوام ، حتى أن الفلاح ليترك فلاحته والحائك يترك حياكته فيلازمهم أياماً معدودة ، ويتلقف منهم تلك الكلمات المزيفة فيرددها كأنه يتكلم عن الوحي ويخبر عن سر الأسرار ، ويستحقر بذلك جميع العُبَّاد والعلماء ، فيقول في العُبَّاد ( جمع عابد) إنهم أجراء مُتْعَبون ( يعني يعملون بأجر هو الجنة فاتعبوا أنفسهم بالعبادات ولو أدعو الاتحاد لسقط عنهم التكليف واستراحوا ) ( ويقول في العلماء أنهم بالحديث عن الله محجوبون ( يعني أن العلم الظاهر حجاب يعوق العلم اللدني الذي يصل للصوفي من الله بلا واسطة ) ، ويدعي لنفسه أنه الواصل إلى الحق وأنه من المقربين ، وهو عند الله من الفُجَّار المنافقين )[1] ..
دخول العوام فى التصوف والشطح الصوفى
1 ــ أي أن عصر الغزالي شهد كثرة من الأولياء الصوفية جاهروا بعقيدتهم وتكاثر حولهم الأتباع من جميع الطوائف (حتى أن الفلاح ليترك فلاحته والحائك يترك حياكته ) ويردد كلامهم ، وإن الأمر استشرى حتى آثار الاستياء والإنكار فاضطر الغزالي للتصدي لهم منكراً عليهم أن يصلوا إلى هذا المستوى الذي هو قصر على الأعيان دون الأوباش ..
2 ــ والشطح الذي قُتل به الحلاج في القرن الثالث واضطهد بسببه أعيان الصوفية الأوائل انتشر وأصبح ظاهرة في عصر الغزالي إلى درجة أجبرته على التعرض له ، مع ما في ذلك من تحرج مبعثه اشتهار بعض أئمة التصوف السابقين بقول الشطحات ، ونكاد نحس بالغزالي ماشياً على الشوك وهو يقول ( الشطح : نعني به صفتين من الكلام أحدثه بعض الصوفية ، أحدهما : الدعاوى الطويلة العريضة في العشق مع الله تعالى والوصال المغني عن الأعمال الظاهرة ( يعني دعوى الاتحاد التي تسقط التكاليف التعبدية )، حتى ينتهي قوم إلى دعوى الاتحاد بالله وارتفاع الحجاب والمشاهدة بالرؤية والمشافهة بالخطاب ، فيقولون : قيل لنا كذا أو قلنا كذا ( يعني ادعاء الوحي والعلم اللدني والكشف ) ويتشبهون فيه بالحسين بن منصور الحلاج الذي صُلب لأجل أطلاقه كلمات من هذا الجنس ، ويستشهدون بقوله : أنا الحق . وما حُكي عن أبي يزيد البسطامي أنه قال : سبحاني سبحاني ، وهذا فن من الكلام عظيم ضرره في العوام ، حتى ترك جماعة من أهل الفلاحة فلاحتهم وأظهروا مثل هذه الدعاوى ، فإن هذا الكلام يستلذه الطبع إذ فيه البطالة عن الأعمال مع تزكية النفس بدرك المقامات والأحوال ، فلا تعجز الأغبياء عن دعوى ذلك لأنفسهم ، ولا عن تلقف كلمات مخبطة مزخرفة ، ومهما أنكر عليهم ذلك لم يعجزوا عن أن يقولوا هذا إنكار مصدره العلم والجدل ، والعلم حجاب والجدل عمل النفس ، وهذا الحديث (يعني الاتحاد ) لا يلوح إلا من الباطن بمكاشفة نور الحق ، فهذا ومثله مما قد استطار في البلاد شرره ، وعظم في العوام ضرره ، حتى من نطق بشيء منه فقتله أفضل في دين الله من إحياء عشرة ، وأما أبو يزيد البسطامي رحمه الله فلا يصح عنه ما يحكى ، وإن سمع ذلك منه فلعله كان يحكيه عن الله عز وجل في كلام يردده في نفسه . كما لو سمع وهو يقول : إنني أن الله لا إله إلا أنا فاعبدني ، فإنه ما كان ينبغي أن يفهم منه إلا على سبيل الحكاية ، الصنف الثاني من الشطح : كلمات غير مفهومة لها ظواهر رائقة وفيها عبارات هائلة وليس وراءها طائل ، وذلك إما أن تكون غير مفهومة عند قائلها بل يصدرها عن خبط في عقله وتشويش في خياله لقلة إحاطته بمعنى كلام قرع سمعه وهذا هو الأكثر ، وإما أن تكون مفهومة له ولكنه لا يقدر على تفهيمها وإيرادها بعبارة تدل على ضميره لقلة ممارسته للعلم وعدم تعلمه طريقة التعبير عن المعاني بالألفاظ الرشيقة ) [2] . أي أن القسم الأول من الشطح أحدثه الصوفية ، والقسم الثاني تابعهم فيه غيرهم ( بكلمات غير مفهومة ) لقائلها أو يفهمها ولكن (لا يقدر علي تفهيمها وإيرادها ) بنفس ما يفعل الغزالي في تقريره لعقائد الاتحاد في كتاب الإحياء ..
3 ــ والمهم أن عصر الغزالي أصيب بوباء الشطح حتى( ترك جماعة من أهل الفلاحة فلاحتهم ) وتصوفوا بمجرد نطق كلمات منه .. وواجهوا الإنكار عليهم بنفس مقولة الغزالى وأئمة التصوف في الرد على المنكرين من أن ( العلم حجاب و الجدل عمل النفس ) وأن الاتحاد ( لا يلوح إلا من الباطن بمكاشفته نور الحق )..
موقف الغزالى من العوام الداخلين فى التصوف
1 ـ ولأن وباء الشطح ( استطار في البلاد شرره وعظم في العوام ضرره ) فقد اضطر الغزالي إلى الإفتاء بأن قتل الواحد منهم أفضل ( من إحياء عشرة ) ولم يفته مع ذلك الاعتذار عن البسطامي بعذر هو أقبح من الذنب ..
2 ــ وقد صنف الغزالي كتابه ( الإحياء ) وهو شاهد على عصره الذي استشرت فيه عقائد التصوف ، وانطلقت فيه الألسنة بالشطح تعبر عن الاتحاد بالله وعشقه إلى درجة أفزعت الغزالي نفسه ، فهب يدعو لقتلهم في سبيل المصلحة العليا ، وهي ( أسلمة التصوف ) والصلح والاتفاق بين السنة والتصوف تحت شعار ( التصوف السنى ) والذى من أجله حشا الغزالى كتابه ( الإحياء ) بأحدايث سنية موضوعة وتأويلات لآيات القرآن الكريم . ولكل صلح ضحايا . والغزالي كعالم وفيلسوف وأحد الخاصة المقربين من الحكام ، لا يرى بأساً في التضحية ببعض أجلاف الصوفية على مذبح معاهدة الصلح التي ينشدها فى تقرير ( التصوف السنى ).
3 ــ ومعنى ذلك أن رصيد التصوف من طائفة العامة قد كثر وفاض إلى حد أزعج الغزالي نفسه ، فاستنكف أن يوضع في خندق واحد مع طُغام الفلاحين والحائكين وأرباب الحرف الذين صاروا أشياخا فى التصوف ، وظلوا يحملون لقب حرفتهم الأصلية . وفي نفس الوقت – ويا للمفارقة – فقد جعل هذا الرصيد من الغزالي متحدثاً باسم هذا القطيع من البشر يفلسف لهم عقائدهم ويؤسلمها أو يضفي عليهم أواصر الصلة بالإسلام .. ولا أدل على ذلك من أن الغزالي انتصر بهم على خصومه من الفقهاء الذين ثاروا عليه بعد كتابه ( الإحياء) ، فأصبح الغزالي بالعامة أكثر جرأة . ولا أدل على ذلك من أنه صنف فى التصوف كتابا خاصا هو ( مشكاة الأنوار )، الذي أعلن فيه بصراحة عقائد التصوف من خلال وحدة الوجود. وتتابعت كتاباته ، ولولا العامة ما كانت شهرته وشهرة مصنفاته حتى اليوم ..
4 ــ ثم انقلبت الآية وتوجه الغزالي نحو العامة ، وعمل على أن تضيق الفجوة الثقافية بينه وبينهم ، فعمل على إلغاء الاجتهاد وأنه ( ليس في الإمكان أبدع مما كان) ، وبإنكار الاجتهاد فقد زالت الفوارق بين العوام والعلماء ، وأصبح وأد الاجتهاد من مصلحة العوام . وطبق الغزالى ذلك عملياً في ( طوس) حين أبتنى مدرسة للفقهاء بالمفهوم الجديد إلى جانب خانقاة للصوفية ، وعاش بقية عمره يشرف على المدرسة والخانقاة ليصبح الفقه والفقهاء في خدمة التصوف المعبر عن دين العامة الجديد . وإذا دخل العوام في التصوف وانقرض كبار الفقهاء بتقرير التقليد وبنفي الاجتهاد وتضاؤل الفارق بين العالم و العامي – فمعنى ذلك كله دخول التصوف بالغزالي إلى عصر الازدهار المضطرد ، خاصة إذا كان ذلك التصوف لا يناقض الإسلام كما أشاع الغزالي فصدقوه ، وكيف لا .. والاجتهاد محرم والتقليد سيد الأخلاق .