كتاب (التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )
الجزء الأول : العقائد الدينية فى مصر المملوكية بين الاسلام والتصوف
الباب الأول : مراحل العقيدة الصوفية وتطورها في مصر المملوكية من خلال الصراع السنى الصوفى
الفصل الأول : المرحلة الأولى للعقيدة الصوفية : من بداية التصوف في القرن الثالث الهجري إلى وفاة الغزالي سنة 505
مدرسة الجنيد الصوفية:
1- وفيها كان اضطهاد الصوفية على أشده خصوصا في عصر الجنيد والحلاج ، وواجه الصوفية هذا الاضطهاد بمبدأ التقية الشيعية ، أي إظهار الإسلام وإبطان التصوف ، وهو نفس ما فعله المنافقون وقد قال تعالى فيهم : ( وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ،اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ :البقرة 14، 15)
وعن هذا الطريق استقر في الأذهان أن هناك تصوفاً معتدلاً يتزعمه الجنيد وأعيان مدرسته يخالفون بذلك متطرفي الصوفية كالحلاج ومدرسته ، والواقع أنه لا خلاف هناك في العقيدة ، وإنما في صراحة الحلاج ونفاق الجنيد ، ويكفي أن الجنيد خدع الكثيرين من المنكرين على الصوفية كابن تيمية وابن الجوزي و البقاعي .
2- وقيل في ترجمة ( الجنيد) أنهم شهدوا عليه ( حين كان يقرر في علم التوحيد ( يقصد عقيدة التصوف ) ثم أنه تستر بالفقه واختفى ) [1]، أي أن محاكمة عقدت " للجنيد " فاضطر للتستر بالفقه وأخفى اجتماعاته مع الصوفية .. وفي هذه الأثناء بلغ اضطهاد الصوفية ذروته بصلب الحلاج فكان الجنيد ( يقول كثيرا للشبلي .. لا تُفش سر الله تعالى بين المحجوبين ) [2]. يعني أنه كان يأمر الشبلي – وهو أشبه بالحلاج – بألا يصرح بعقيدته بين المسلمين . وأصدر أوامره لأتباعه بأنه ( لا ينبغي للفقير ( يقصد الصوفي ) قراءة كتب التوحيد الخاص ( يقصد التصوف ) إلا بين المصدقين لأهل الطريق أو المسلمين لهم ) [3] ، يقصد المعتقدين فيهم ..
وطبق الجنيد هذا المبدأ على نفسه فكان ( لا يتكلم قط في علم التوحيد إلا في قعر بيته بعد أن يغلق أبواب داره ويأخذ مفاتيحها تحت وركه ويقول : أتحبون أن يكذب الناس أولياء الله تعالى وخاصته ويرمونهم بالزندقة والكفر ) [4]، ومعنى ذلك أنه كانت للصوفية في هذا الوقت اجتماعات سرية متفرقة ، تؤمها خلايا من مريدين وشيخ ، وفيها كانوا يقرءون (كتب التوحيد الخاص).أي أن عقائد التصوف قد دونت منذ عهدها المبكر ، إلا أننا لم نعثر على مؤلف كامل للجنيد إذ أنه في غمرة تمسكه بالتقية أوصى حين الموت بأن (يدفن معه جميع ما هو منسوب إليه من عمله)[5] ، فلم يحفظ عن الجنيد إلا القليل من الآراء الصوفية مع أنه " سيد الطائفة "، حتى أن كل الطرق الصوفية المتأخرة تنتهي إليه بالخرقة.
3- وإذا كان للجنيد كلام خاص مع أتباعه في اجتماعاتهم السرية فإنه حرص على إعلان تمسكه بالاسلام الذى كان يعنى وقتها ( الكتاب والسنة )، وشاع عنه إعلانه التقيد بالكتاب والسنة فقال ( مذهبنا هذا مقيد بأصول الكتاب والسنة ) ، ( ومن لم يحفظ القرآن ولم يكتب الحديث لا يُقتدى به في هذا الأمر) [6] ، أي التصوف ، وانخدع خصوم التصوف بكلام الجنيد وأبرزهم ابن الجوزي الذي ردد كلمات الجنيد وهو يقول ( وقد كان أوائل الصوفية يقرون بأن التعويل على الكتاب والسنة ) [7].
4- ومن خلال الأقوال القليلة التي حفظت عن الجنيد في عقيدة التصوف يمكن أن نتعرف على طبيعة هذه المرحلة من مراحل العقيدة الصوفية ، يقول الجنيد عن التوحيد ( إفراد الموحد بتحقيق وحدانيته بكمال أحديته ، بأنه الواحد الذي لم يلد ولم يولد ، وينفي الأضداد والأنداد والأشباه ،و ماعُبد من دونه بلا تشبيه ولا تكييف ولا تصوير ولا تمثيل ، إلها واحدا صمدا فردا ليس كمثله شيء وهو السميع البصير" ، وقال مرة أخرى " معنى تضمحل فيه الرسوم وتندرج فيه العلوم ، ويكون الله تعالى كما لم يزل " ، قال أبو نصر الطوسي : فالجوابان اللذان لذي النون والجنيد رحمهما الله في التوحيد ظاهران ، أجابا عن توحيد العامة ، وهذا الجواب الذي ذكرناه أشار إلى توحيد الخاصة ،وقد سئل الجنيد رحمه الله عن توحيد الخاصة ، فقال أن يكون العبد شبحا بين يدي الله عز وجل وتجري عليه تصاريف تدبيره في مجارى أحكام قدرته في لُجِّج بجار توحيده بالفناء عن نفسه وعن دعوة الخلق له وعن استجابته بحقائق وجود وحدانيته في حقيقة قربه بذهاب حسه وحركته ، لقيام الحق له فيما أراد منه ، وهو أن يرجع آخر العبد إلى أوله ، فيكون كما كان من قبل أن يكون ، وقال أيضا . التوحيد هو الخروج من ضيق رسوم الزمانية إلى سعة فناء السرمدية .) [8]
5 ــ وهذا النص أوردته كاملا من كتاب ( اللمع ) للطوسي ، وقد عني بتحقيقه الدكتور /عبد الحليم محمود لأنهما – أي الكتاب والمؤلف – يعبران عن التصوف المعتدل .. وبالتمعن في النص تبدو لنا درجات للعقيدة الصوفية ، فقد اضطر الجنيد – خوف الاضطهاد – إلى أن يعترف بالعقيدة الإسلامية فقال عن التوحيد ( إفراد الموحد بتحقيق وحدانيته .. الخ ).
وعلق الطوسي بأن ذلك هو توحيد العامة ، ويقصد به عقيدة الاسلام ، أما عن توحيد الخاصة الذي يتردد في الاجتماعات السرية فيقول فيه الطوسي ( وقد سئل الجنيد عن توحيد الخاصة ) أي سأله أتباعه في مجلس سري ، وقد قال فيه أكثر من تعريف وبعضها يعبر عن الاتحاد مثل قوله ( أن يكون العبد – أي الصوفي – شبحا بين يدي الله عز وجل .. الخ ) والتعمق في هذا التعريف يظهر أن غاية الاتحاد في أن يذوب الصوفي بنفسه في خالقه بحيث يصبح جسده شبحاً تتحكم فيه " روح الله وقدرته " ، وقال ( التوحيد هو الخروج من ضيق رسوم الزمانية ) يقصد أحكام البشرية وحدودها ( إلى سعة فناء السرمدية ) أي إلى الألوهية الباقية بلا نهاية .
6 ــ وعبًر الجنيد عن وحدة الوجود بقوله ( معنى تضمحل فيه الرسوم )، ويقصد بالرسوم مظاهر الكون المادية من إنسان وحيوان وجماد فكلها تضمحل في ذات الله ( وتندرج فيه العلوم ) أي أن كل العلوم والمعارف البشرية والكونية مظاهر إلهية ( ويكون الله تعالى كما لم يزل ) أي أن الله مع ذلك – مع وجود هذا التعدد في المظاهر المادية والعقلية – هو كما كان وسيظل – وجوداً واحداً يشمل الرسوم المادية والأفكار المعنوية ..
7 ــ واضطهد ذو النون المصري وحمل إلى بغداد معتقلاً مهدداً بالموت متهماً بالزندقة [9] ، فأضطر إلى أن يجعل التوحيد الإسلامي درجة في العقيدة الصوفية فقال الطوسي عن التعريف الذي نقله عن ذي النون ( فالجوابان اللذان لذي النون والجنيد في التوحيد ظاهران ، أجابا عن توحيد العامة )[10]. أي جعلوا دين الله (توحيد العامة) ،أو الدرجة الدنيا من العقيدة ..
[1] الطبقات الكبرى للشعراني بالترتيب جـ 1 ، 13 ، 14 ، 10 طبعة صبيح .
[2] الطبقات الكبرى للشعراني بالترتيب جـ 1 ، 13 ، 14 ، 10 طبعة صبيح.
[3] الطبقات الكبرى للشعراني بالترتيب جـ 1/ 140 ، 10 طبعة صبيح .
[4] الطبقات الكبرى للشعراني بالترتيب جـ 1/ 140 ، 10 طبعة صبيح .
[5] الطبقات الكبرى للشعراني 1/ 73 طبعة صبيح .
[6] الرسالة القشيرية 32 ط صبيح .
[7] تلبيس إبليس 162 ط . المنيرية.
[8] اللمع لأبي نصر الطوسي 49 .
[9] الشعراني : المرجع السابق 13
[10] المرجع السابق اللمع 49