التمهيد لكتاب (التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )
بين الزهد والتصوف

آحمد صبحي منصور في الإثنين ٢٤ - نوفمبر - ٢٠١٤ ١٢:٠٠ صباحاً

التمهيد :  بين الزهد والتصوف

التمهيد لكتاب (التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )

  التمهيد : لمحة عن التصوف تاريخاً

( بين الزهد والتصوف ـ بداية التصوف ـ انتشاره ـ سيطرته على العصر المملوكي)

بين الزهد والتصوف:

1 ــ اعتبر الكثيرون  أن الزهد مرحلة انتقالية أدت إلى ظهور التصوف في القرن الثالثالهجري ومنهم ابن الجوزي الذي فرق بين الزهد  والتصوف (.. إلا أن الصوفية انفردواعن الزهاد  بصفات وأحوال - .. والتصوف طريقة كان ابتداؤها الزهد الكلى )(33)و التفتازاني ـ الصوفي والباحث المعاصر - جعل للزهد مراحل ووصل بها إلى مرحلةاعتبرها بين الزهد والتصوف ، عد من روادها إبراهيم بن ادهم والفضيل بن عياضورابعة العدوية ، ولم يعتبرهم  صوفية بالمعنى الدقيق للتصوف  الذي ظهر في القرنالثالث(34).

2 ــ ومع تمسكنا بوجود فروق أساسية بين الزهد والتصوف ، إلا أننا نعتقد في أن لكلمن الزهد والتصوف عوامله الخاصة التي ساعدت على نشأته وتطوره منفردا عن الآخر.

3 ــ ودليلنا في استقلالية نشأة الزهد عن التصوف هو استمرار الزهاد. بمعزل عن الصوفية ،وقد عاب الغزالي علي زهاد عصره مغالاتهم في الصلاة والصوم والأمر بالمعروف والنهيعن المنكر احتسابا وتشديدهم في أعمال الجوارح (36)،وفى نفس الوقت الذي هاجم فيهالصوفية المعاصرين له بصفات تناقض ما اشتهر به الزهاد فرمى الصوفية المنكرينللفرائض بدعوى وصولهم. للحق واتحادهم به (37)، مما يدل على أن الفارق جوهري بين الطائفتين في المعتقدات والسلوك . فالزهاد يتشددون في الصلاة ، والصوفية  ينكرونها لأنهمجزء من الله .

وقد تميز عصر الغزالي بتقرير التصوف ، ولو كان الزهد حركة انتقالية أدت للتصوفلذاب الزهاد في الحركة الصوفية الجديدة المعترف بها ولأنتقلت حركة الزهد إلى متحفالتاريخ عندما توطدت حركة التصوف ، وتاريخيا فقد استمر الزهد منفصلا عن تيار التصوف  الآخذ في الانتشار . ومع تناقض الزهاد بمرور الزمن فقد ظل وجودهم قائما حتى بعد أنتمت للتصوف السيادة المطلقة في العصر العثماني، فالجبرتي مثلا يذكر زاهدا في القرنالثاني عشر الهجري هو الشيخ مصطفى العزيزي ت1154 ، وقال فيه ( كان ازهد أهل زمانه في الورع والتقشف في المأكل والملبس والتواضع وحسن الأخلاق ولا يرى لنفسهمقاما .. ولا يرضي للناس بتقبيل يده، ويكره ذلك ، فإذا تكامل حضور الجماعة وتحلقواحضر من بيته ودخل إلى محل جلوسه بوسط الحلقة فلا يقوم لدخوله أحد..  وإذا تمالدرس قام في الحال ، وذهب إلي داره )(38) . وكان أغلب الزهاد في العصر المملوكي منالعلماء الفقهاء الذين كانت لهم سمات تخالف الصفات الكلاسيكية للشيخ الصوفي.

ثم إن الزهد لم يلق في مولده ما لاقاه التصوف من إنكار مما يدل على اختلاف طبيعتهما إلى درجة لا يقبل معها أن يكون أحدهما حركة انتقالية للآخر، فقد بدأ التصوف بالشطح أو إعلان الكفر الصوفي مما أدى لاضطهاد رواد التصوف ، بينما حظي رواد الزهد بإعجابالعامة وعطف الخاصة حيث تركوا متاع الدنيا الذي تقاتل حوله الجميع .

4 ــ والصوفية الأوائل هم سبب الخلط بين التصوف والزهد، إذ أنهم في اندفاعهم لتقرير مذهبهم وحمايتهم من المجتمع الذي يضطهدهم جعلوا من أوائل الزهاد المسلمين رواداللتصوف ، مع أنه لم تحفظ عن أولئك الزهاد شطحات ، مثل الحسن البصري وسفيانالثوري وسعيد بن جبير، وأولئك كانوا يتمتعون بتقدير؛ طمع الصوفية في أن ينالهم منهشيء.

5 ـــ  ومع انتشار الزهد فقد ظل سلوكا مجردا حتى جاء الصوفية فاهتموا بتقعيدهوتعريفه ليصلوه بالتصوف ، فكان أن حلت لعنة الخلاف والاختلاف على مفاهيم الزهد طبقا لعادة الصوفية في ( الاتفاق على الاختلاف ) حول كل شيء، يقول القشيري أن الصوفيةتكلموا في معنى الزهد ( فكل نطق عن وقته وأشار إلي حده )(39)، وجاء الغزالي فأوردبعض أقاويلهم ثم حاول أن يوفق بينها، ثم قال كالمتعب (.. وفى الزهد أقاويل وراء مانقلناه فلم نر في نقلها فائدة ، فإن من طلب كشف حقائق الأمور من أقاويل الناس رآهامختلفة فلا يستفيد إلا الحيرة )(39) ، وليصل الغزالي بين الزهد والتصوف قام بتقسيم الزهدإلى درجات ، الأولى : زهد الخائفين من العذاب ، والثانية : زهد الراغبين في الجنة ، ثم جعلالدرجة العليا : الزهد فيما عدا الله ، فلا يلتفت إلى جنة أو نار بل يستغرق في الله تعالى ويزهد ما عداه (40). وذلك التقسيم الصوفي ينافي الأساس الذي قام به الزهد الذي يعنىالخوف من النار والأمل في الجنة ، مما يؤكد الفارق الأصيل بين المذهبين .

6 ــ على أن هناك عوامل تربط بين الزهاد والصوفية ، أهمها في أن الرواد في الحركتينمن الموالى الذين تأثروا بالثقافة القومية لأوطانهم ، ومع ذلك يبقى الخلاف قائما بين مولدالحركتين وطبيعتهما.

7 ــ والواقع أن أسباب قيام حركة الزهد في العصر الأموى ترجع للظروف السياسية والاقتصادية والثقافية ، فقد عانت البلاد المفتوحة من مظالم الخلفاء الأمويين  وظلمهم للموالى، فاعتبر الموالى الخلفاء الأمويين لا يفترقون عن ملوك ما قبل الفتح العربى ، وقابلوا الوضع الجديد بما تعوده أسلافهم في الماضي، فقام الزهد الفلسفي المنظم كنوع من المقاومةالسلبية والاحتجاج الصامت ، وزاده ما تميز به الموالى من تفوق في العلم والثقافة بينماانشغل العرب فى العصر الأموى بالحكم والسياسة والحرب ، وليس من قبيل المصادفة بعد هذا أن يزدهر الزهد في الكوفة والبصرة بينما تنعم دمشق بالحكم والثروة ، ثم تمتلئ دمشق زهدا فى العصر العباسى بعدتحول الحكم والثروة عنها إلى بغداد. وظل الزهد قائما بعدها باستمرار الأسباب التي بعثته وهى استمرار الظلم والملك العضوض في الدولة العباسية ، وحتى مع تمتع بعض الموالى بوضع أفضل فى العصر العباسى فإن من شأن الملك العضوض القهر والبطش وسوء توزيعالثروة وحرمان الأكثرية ومعاناتهم .

8 ــ وقد حاولوا إضفاء المشروعية على الزهد، فانتشرت الأحاديث الموضوعة تبشربالمذهب الجديد، وأورد الغزالي بعضها في دعوته للزهد مثل ( من أراد أن يؤتيه الله علمابغير تعلم وهدى بغير هداية فليزهد في الدنيا)(ا4) ثم تطوع الغزالي بتأويل بعض الآياتلتتمشى مع مفهوم الزهد(42) وجعل عيسى ويحيى عليهما السلام من رواد الزهد، ولم يعد محمدا عليه السلام منهم لأنه كان يصوم ويفطر ويصلى وينام ويتزوج النساء، وفى القرآن آيات تفيد ذلك .

9 ــ ودين الإسلام ليس مسئولا عن الظروف التي سببت قيام الزهد. ولا علاقة بينالإسلام والزهد، فلم يرد لفظ الزهد في القرآن الكريم إلا مرة واحدة (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنْ الزَّاهِدِينَ (20) يوسف  ). ولا تعبر هذه الآية عن اصطلاح الزهد الديني، ولو كان الزهد رافدا من مناهج الإسلام لفصّله القرآن الكريم ، إلا أن الزهديخالف صريح القرآن الذي ينفى أساس الزهد في قوله تعالى () قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) الأعراف ). فهنا إنكار على من حرم الطيبات على نفسه تمسكا بالزهد، وذلك هو ما نهى الله تعالى النبى عنه حين قال له : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ) التحريم1) وقوله تعالى للمؤمنين (ا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ  :لمائدة 87) بيد أن المؤمن مطالب بالاعتدال وعدم الإسراف { يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ }  الأعراف31).

10 ــ ثم إن التطورات السياسية الأموية لم تخترع حركة الرهبنة ولم تزرعها في العراق والشام ومصر، فتلك مناطق تعودت على الزهد قبل الفتح العربى ، بل إنهم بابتداعهمالزهد خرجوا عن رسالة المسيح عليه السلام ، يقول تعالى ( ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ }الحديد27) فالزهد أو الرهبنة ابتداع في السلوك لا في العقيدة .

11 ــ ونعود للتصوف ، فقد بدأت جماعات الزهاد منتشرة بين الموالى تتمتع بعطف المجتمعوإعجابه ، فاتصل رواد التصوف بالزهاد واستفادوا منهم مع استقلالية كل حركة ، وليس هناك صدام بين الزهد والتصوف ، وإنما الصدام هو بين الإسلام والتصوفلأنهما دينان متناقضان .

اجمالي القراءات 42996