التمهيد : هل يمكن أن يكون الإسلام مصدرا للتصوف عند المسلمين ؟
التمهيد لكتاب (التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )
( 648 ـ 921 هـ / 1250 ـ 1517 م )
التمهيد : التصوف عقيدة وتاريخاً
هل يمكن أن يكون الإسلام مصدرا للتصوف عند المسلمين ؟
1ـ شاع بين الناس أن التصوف فرع من الإسلام ، أو هو الإسلام ، أو هو ذروةالإسلام ، ويقول تعالى (..الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً.. المائدة 3) ومعناه أن دين الله قد اكتمل بنزول القرآن وتمامه ، فلا مجال لأيبشر في أن يضيف لدين أكمله الله وحياً من السماء وإكتمل بإنتهاء القرآن الكريم نزولا وموت النبى عليه السلام ، فالتصوف إن كان يضيف للإسلامشيئا فذلك غير مقبول ، لأن تلك الإضافة إن كانت ضمن ما قرره القرآن فلا تعد إضافةلأنها موجودة من قبل ، وإن كانت تلك الإضافة مختلفة عما قرره القرآن فهي مرفوضةوليست من الإسلام في شيء. إن التصوف إذا اتفق مع الإسلام في شيء فلا حاجة بناللتصوف لأن لدينا الأصل وهو الإسلام دين الله ، والله سيحاسبنا على ذلك الأصل الذيأنزله ( وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ الأنعام 135).
وإن كان التصوف يختلف مع الإسلام فلا حاجة بنا لذلك التصوف الذي يبعدنا عنديننا الذي ارتضاه لنا ربنا . إنها قضية واضحة لا تحتمل التوسط ، فإما إسلام فقط وإماتصوف ، إما حق وإما باطل ، ولا وسطية . (فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ ؟.. يونس 32 ) إما قرآن فقط وإما أتباع للضلال (اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء ..الأعراف3).
2ـ وبداية الاختلاف بين الإسلام والتصوف تكمن في أساس التشريع ففي الإسلامأساس التشريع لله وحده والقرآن الكريم يحكم على النبي والمسلمين ، أما التصوففالشيخ الصوفي هو المشرع لأتباعه حسبما يوجهه هواه أو ذوقه أو حاله . وهم حين يضفونعلى ذلك التشريع البشرى سمة الشرعية يدعون أن الصوفي أوتى الكشف أو العلماللدني من الله أو الوحي الإلهي، مع أنه لا وحى في الدين بعد اكتمال نزول القرآن.
وإضفاء الوحي والكشف والكرامة إلى الصوفي معناه الدعوة إلى تقديسه والتماس بركتهفي الدنيا وشفاعته في الآخرة ، وتلك سمة الاختلاف الرئيسية بين التصوفوالإسلام ، حيث يكون لله وحده علم الغيب والشفاعة والتصريف في الدنيا والآخرة ، إلا أننا لا نجد صوفياً إلا وادعى لنفسه أو لشيخه لوازم التصوف من الولاية والكرامات والعلماللدني ودعا الآخرين للاعتقاد فيه ، مع أن الاعتقاد لا يكون إلا في الله وحده إلها ووليامقدسا. نطلب منه المدد والعون ، نطلب ذلك منه وحده ،لا شريك له جل وعلا.
وذروة الاختلاف بين الإسلام والتصوف تكمن في العقيدة الأساسية في كل منهما ،فعقيدة الإسلام لا إله إلا الله (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.. محمد 19 ) والله الإله الواحد، لا يشبه أحدا من خلقه ، ولا يشبهه احد من خلقه (..لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ..الشورى 11 ) وصفات الله لايوصف بها غيره ، فالله واحد في ذاته ، واحد في صفاته ، إذا هو أحد متفرد عن باقي خلقه ( قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد). أما عقيدة التصوفالحقيقية فهي (لا موجود إلا الله ) أو ما يعرف بوحدة الوجود والتي تعنى أن العالم جزء
من الله، وانه لا فارق بين الخالق والمخلوق ، وأن الخلق امتداد وفيض من الخالق ، وأن علاقة الخالق والمخلوق كمثل البحر وأمواجه ، والصوفي الحق هو الذي يدرك ذلك ويهتكالحجاب ويعلن اتحاده بالله أو حلول الله فيه . وبالقطع فهذه العقيدة تناقض عقيدة القرآن .
3ـ ولفظ التصوف لم يرد في القرآن الكريم ، اللهم إلا إشارة للرهبنة ليست فيصالح المتصوفة الذين يحاولون ربط التصوف بالرهبنة والزهد، يقول تعالى : (.. وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ .. الحديد 27 )، ولم يجرؤ وضاع الأحاديث المزيفة على كتابة حديثفيه لفظ التصوف ، لعلمهم أن ذلك لم يكن معروفا في الجزيرة العربية وقت ظهور الإسلام ،واكتفوا بوضع أحاديث فيها لفظ الفقر والفقراء، حيث كان الفقر يدل عُرفا على التصوففي عصرهم ، مع دلالة الفقر على الاحتياج للمال في كل عصر.وورد لفظ التصوف لأول مرة في تراث المسلمين في كتاب الجاحظ ( البيانوالتبيين)(27). وقد كان ابن خلدون أقرب للصواب حين قال عن التصوف أنه ( من العلومالحادثة في الملة )(30)، وخطأ ابن خلدون في أنه اعتبر التصوف علما ، وليس التصوفبعلم ، حيث لا عقل فيه ولا منهج ، وإنما هو ذوق وهوى، ودين جديد يخالف الإسلام ، وقدظهر بعده بقرنين .
4- والتصوف نوعان : (احدهما ديني والآخر فلسفي ) كما يقول التفتازاني، وإذاكان التصوف الديني يناقض دين الإسلام الذي لا مجال فيه لتقديس غير الله ، فإنالتصوف الفلسفي مرفوض أيضاً، لأن الفلسفة الدينية للتصوف تعزز بالجدل أفكارالتصوف الديني ، والتصوف الديني أدخل مصطلحات دينية مستحدثة في الحياة الدينيةللمسلمين لم يعرفها المسلمون الأوائل حين كان الإسلام نقيا في الجزيرة العربية .
ومن المصطلحات الدينية الجديدة التي استحدثها دين التصوف : الكرامة ، المريد، المقام ،الوقت الحال ، القبض ، الصحو والسكر ، الذوق الشرب ، المحو والإثبات ، الستر والتجلي،المحاضرة والمكاشفة ، الحقيقة والطريقة ، الوارد، الشاهد، السر، المجاهدة ، الخلوة ، الزهد،الولاية ، .. الخ ، ولكل منها مدلول في دين التصوف ، وسطرت في ذلك الكتب ،وبالطبع هم مختلفون في معناها وعددها.
وبعض هذه الألفاظ كان مستعملاً في الإسلام بغير ما يقصده الصوفية ، إلا أنهمأولوها واستحدثوا لها مدلولات جديدة تخرج عن الإسلام مثل (الولي والولاية ). وموضوعات التصوف الديني والفلسفي تتمثل في الشطحات ، وأحوال الفناء والحلولوالاتحاد والتحقق بالحق ، والإشراق ، وهى تخرج عن نطاق الإسلام عقيدة وعلما وفكرا.
5 - وقد وضح من عرض مصادر التصوف أنه تأثر بمصادر مجوسية وهنديةومسيحية ويونانية ، فكيف يكون ذلك الوليد ذو الآباء الكثيرين ابنا للإسلام الذي لا مصدر له إلا القرآن الكريم ؟ وهل كان الإسلام في حاجة إلى أن يكمله المجوس وعباد البقر والوثنيون ؟
6- ويرى أبو العلا عفيفي أن القرآن الكريم - عن طريق تأويل آياته - والأحاديث،مع علم الكلام ، من مصادر التصوف الإسلامي(31) أي اصطناع مصدر للتصوف يكونإسلاميا، بتأويل القرآن وتأليف الأحاديث ونظريات الفلسفة أو علم الكلام، وكل ذلك جهدبشرى يحاول ربط التصوف بالإسلام . وتأويل القرآن وزر يقع علي من ارتكبه وهناك منالأحاديث الموضوعة لخدمة التصوف ما يملأ حمل بعير، ولا يصح أن تكون حجة لمن يستشهد بها ، وأماجهد علماء الكلام البشرى فليست حجة على الإسلام في شيء ، وعلم الكلام في حقيقته يدينللفلسفة اليونانية أكثر مما يدين للإسلام . والغريب أن أبا العلا عفيفي يعود و يعترف أنالإسلام لا يمكن أن يكون دينا صوفيا ( وما كان ليصير دينا صوفيا لو أنه ظل محصورافي الجزيرة العربية ، لأنه دين يخاطب العقل أكثر مما يخاطب الوجدان ، ويدعو للنظر فيخلق السماوات والأرض ليستدل الناظر بما يشاهده على قدرة الله ووحدانيته ، لا ليؤديهتأمله في العلم وفى نفسه إلى إنكار ذاته وفنائه في الله والاتحاد به عن طريق الفناء، كمايقول الصوفية )، ويرى أن الإسلام ( بعقيدته البسيطة في الوحدانية التي يقتنع بها العقلبفطريته لم يكن ليظهر عنه تصوف وما في التصوف من نظريات معقدة .. فلم يلق الإسلامداخل الجزيرة العربية تأويلاً فلسفياً ولا صوفياً. ولكن بدخول أهل الحضارات والدياناتتناولوه بالتفسير والتأويل )(32). ومبعث التناقض لدى أبى العلا عفيفي هو في الخلط بينالإسلام كدين إلهي وبين المسلمين كأشخاص ، وواضح أن الإسلام شيء والشعوب التياعتنقته شيء آخر، وأرى أنه من الأنسب أن يقال ( تصوف المسلمين ) لا (التصوفالإسلامي ) لأن التصوف والإسلام نقيضان لا يمكن الجمع يبنهما .