لعل القليل يسمع عن جماعة.."شباب محمد"..التي انشقت عن جماعة الإخوان عام 1939، وكان قائد الانشقاق هو .."محمود أبو زيد"..أحد الإخوان الناقمين على توجه الجماعة الأم للعمل السياسي، قائلاً أنه لا سياسة في ظل نظام حكم كافر يعمل بالقانون الوضعي، فكانت هذه الجماعة هي ما يُطلق عليها البعض أنها البذرة الأولى لجماعات التكفير والعنف في السبعينات والثمانينات، وهي التي سار بظلها التنظيم الخاص لجماعة الإخوان، حيث برفض حسن البنا لمعارضة أبو زيد أدى به إلى إنشاء تنظيماً مسلحا جهادياً يُرضي عقائد المتشددين والراغبين في التغيير العنيف.
لكن ولأن هذا التنظيم الخاص كان عُرضة لتوريط الجماعة فجعل حسن البنا نفسه مسئولاً عاماً عليه، حيث لا عمل للتنظيم خارج إمرته وتعاليمه.
كان في خُلد البنا أنه لا حياة بدون خلافة وحُكم للجماعة، ليس فقط في مصر ولكن على العالَم أجمع، ومع ذلك كان يمتلك قدراً من الحكمة جعله لا يتورط في صراع مباشر مع الدولة، وهذا يعني أنه كلما كانت الدولة قوية كلما كان البنا بعيداً عن أي صراع داخلي على السلطة، وبالكاد لو ضَعُفَت الدولة يعني أن الإخوان مُطالبون بالتمكين والظهور ،وبالتالي عليهم أن يطالبوا بحقهم في السلطة .
وهو ما حدث بالفعل أواخر الأربعينيات..حيث انتهت الحرب العالمية الثانية بتدمير لندن وإنهاك الجيش البريطاني في معارك هتلر وروميل، وقتها ضعفت السلطة المركزية للاحتلال في مصر، وـأصبح نفوذ الملك أقل ما كان عليه قبل الحرب، وبتمدد السوفييت في الحرب العالمية الثانية أغرى التيار اليساري بالظهور، فقامت المظاهرات، ومعها نشط حسن البنا في الدفاع عن السلطة ضد اليسار، ومع ذلك كان التنظيم الإخواني يحتفظ بالحد الأدنى من رغبته في السلطة، فعقد الندوات والمؤتمرات ونشطت الجماعة حينها في التواصل مع الشعب.
لكن كل ما سبق لا يساوي شيئاً ،ويبدو أن الجماعة استعجلت قطف الثمرات ، عجّلت بضرباتها العسكرية للنظام أملاً في صعودهم إلى قصر عابدين، اغتالت رئيس الوزراء أحمد ماهر عام 1945، ثم القاضي الخازندار عام 48، تخلله عدة أحداث مارست فيها الجماعة كل أشكال العنف اللفظي والبدني في الشوارع والجامعات، مروراً بتفجير بعض المحلات التجارية الكبيرة والشهيرة ، والصدامات مع الوفديين واليسار في الجامعات، حتى ختمتها الجماعة باغتيال رئيس الوزراء فهمي النقراشي في ديسمبر 48، ثم جاء الرد سريعاً باغتيال حسن البنا بعد النقراشي بشهر ونصف..
ما سبق يؤكد أن الجماعة الأم لكل تنظيمات الجهاد ، لا تختلف كثيراً عن الجماعة المنشقة.."شباب محمد"..ولكن جماعة الشباب كانت متحدة مع نفسها وصادقة أكثر في تمثيل المذهب الإخواني، الفارق أن جماعة الشباب رأت عدم تأجيل العنف، لكن الإخوان رأوا ضرورة التأجيل، وهم مع ذلك يؤمنون بضرورة التغيير بالعنف مع فارق الزمن، وقد رأى الشعب المصري أحداث الأربعينيات تتكرر الآن بالحرف والصورة، حيث وبعد سقوط الإخوان وفشل رئيسها في الاتحادية لجأت كوادر الجماعة إلى ممارسة العنف والإرهاب في الشارع، فقتلوا رجال الأمن ومعارضيهم من المتظاهرين، وخرّبوا وهدموا منشآت الدولة، وأشاعوا الفتنة بين الشعب، وعملوا على هدم مؤسسات الدولة دون استثناء، حيث جنّدوا كوادرهم وأعضائهم للتحريض على الجيش وإشاعة الأخبار الكاذبة.
كل ذلك لم يفت من عضد الدولة
ويبدو أن هناك تصميماً على مواجهة كل تيارات الإسلام السياسي وجماعات التكفير مهما بلغت النتائج، وهو قرار ذو حدين بتطلب أولاً رغبة شعبية وتحالفاً مع الدولة، ثانياً يتطلب إنجازات على الأرض تُغطي على أفعال هؤلاء الهَمَج وتُشغل الشعب في البناء.. وتُثبت أن قيادتهم لمصر كانت فاشلة وعليهم أن يُعيدوا النظر، لكن الإخوان ليست لديهم القدرة على إعادة النظر فانساقوا وراء العنف والتكفير والتحريض، فزاد عليهم السخط الشعبي، ونجحت السلطة في كبح جماح كل الجماعات، حتى رأينا جُرأة لم يسبق لها مثيل باعتقال كل قيادات الجماعة بمن فيهم المرشد، وهي جرأة يُحسد عليها النظام لم تحدث منذ زمان عبدالناصر.
في ظل هذا الوضع يقبع تيار التنوير وراء خطوط ليست مرئية، وكلما حاول الظهور لاستغلال العاطفة الشعبية ضد الإخوان.. تصدى له دعاة التخلف والدروشة من أنصار الشجاع الأقرع ورضاعة الكبير وبول البعير والمهدي والمسيخ الدجال...وهذا يعني أن تيار التنوير يُحارب في اتجاهين ومتورط في معركتين، الأولى مع الإرهاب والثانية مع الخرافة، مما يُوحي بعلاقة غير مباشرة بين الإرهاب والخرافة، وهي العلاقة التي ساعدت في شيوع الإرهاب بين أوساط الشباب على وعد أن معاركهم هي من معارك آخر الزمان بين الحق والباطل، ولعل بظهور المهدي أو الدجال ينتهي كل شئ.
رأينا ذلك واضحاً في حركة جهيمان العتيبي وغزوته في الحرم المكي أوائل الثمانينيات في القرن العشرين، حيث اعتقد الرجل أن هذا الزمن هو زمان المهدي الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلأت جوراً وظلما، وأن كل صفات المهدي وزمانه تنطبق عليه وأقربائه فزعم أن واحداً منهم هو المهدي المنتظر..وأن على الجميع مبايعته وإلا سُيقتل، فتدخل الجيش السعودي وحاصر الحرم المكي ودكت صواريخه وقنابله مآذن الحرم، في سابقة تاريخية تعيد للأذهان ما حدث للمسجد الحرام على أيدي القرامطة والحجاج بن يوسف الثقفي..
إن ظهور جهيمان وتسببه في فتنة عظيمة قُتل على إثرها مئات الشباب المغيب يُثبت أن الإرهاب والخرافة وجهين لعملة واحدة، وأن أي مجتمع خرافي هو عُرضة للإرهاب من غيره.
لذلك كانت ضرورة التنوير ضرورة ملحة لاستبقاء الأحداث ومواجهة أي خطر إرهابي في مهده، علاوة على علاج قصر عقل الشباب وتفاهته وفراغه القاتل وإشغاله بما يُفيد، فما أكثر من تسبب في ضياع الشباب وانحرافه نحو التطرف إلا ذلك الفراغ القاتل، لا فكر ولا رؤية ولا إرادة ولا معنى من وراء الحياة، وبينما هو كذلك يظهر بيننا من يسرق ويقتل ويمارس كل فجور باسم السياسة..حتى يرى هؤلاء الشباب ذلك فيكفرون بالمجتمع وبكل قيمه، ويُصبح ردهم سريعاً أنهم سيكونون حطباً لكل فتنة تعصف بالوطن، وما سوريا والعراق ببعيدة، حيث تمثل هاتان الأزمتان في هذين البلدين العزيزين كل أوجه القصور المعرفي والديني والسياسي بين الشباب، ويُثبت أن الضرورة الآن أكثر مما مضى لتيار تنويري يخلع هؤلاء الشباب من وحل الجهل والخرافة والجريمة، إلى نور العلم والثقافة والسلام.