مقدمة كتاب ( التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )
( 648 ـ 921 هـ / 1250 ـ 1517 م )
( فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) غافر )
لمحة عن الكتاب :
1 ــ الجزءالأول من هذا الكتاب ( التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية ) ، سبق أن نشرته الهيئة العامة للكتاب ، ضمن منشورات ( تاريخ المصريين ) تحت رقم 186 عام 2000، وكان ذلك برعاية استاذ التاريخ الراحل د . عبد العظيم رمضان ، المشرف وقتها على إصدار سلسلة ( تاريخ المصريين ) والذى تحدى خصومى فى الأزهر والإعلام المصرى ونشر الجزء الأول تحت عنوان ( العقائد الدينية فى مصر المملوكية بين الاسلام والتصوف ) . بل إنه كتب مقدمة تعتبر جريئة وقتها حيث أثنى على المؤلف المغضوب عليه من الأزهر والأوقاف والنظام الحاكم . كتب رحمه الله جل وعلا فى تقديم الكتاب : ( يسرنى أن أقدم للقارىء الكريم هذا العمل العلمى المهم عن العقائد الدينية فى مصر المملوكية بين الاسلام والتصوف ، الذى كتبه الدكتور أحمد صبحى منصور ، وهو عالم ومفكر إسلامى مثير للجدل ، وله بحوث عديدة فى التاريخ الاسلامى إتسمت بقوة الحجة والبحث والاطلاع والتدقيق . وقد تعرض بسبب بحوثه الجريئة لكثير من الاضطهاد والمضايقات من التيار المتحجر الذى يخلط بين الدين الذى نزل من السماء لاصلاح أهل الأرض وبين " تدين " اهل الأرض الذى يتأثر بظروف كل منطقة . وقد قادته بحوثه الى أن مصر بتاريخها وحضارتها كان لها نوع من التدين الخاص بها ساعد على وجود تشابه هائل بين ملامح التدين العقيدى والسلوكى فى مراحل التاريخ المصرى الفرعونى والقبطى والاسلامى .) وبعد أن اعطى د عبد العظيم رمضان لمحة عن محتوى كتاب ( العقائد الدينية فى مصر المملوكية بين الاسلام والتصوف ) قال فى نهاية التقديم : (.. والكتاب يرتاد لأول مرة طريقا جديدا فى البحث التاريخى ، هو بحث الحياة الدينية للمسلمين فى العصر المملوكى ، لتوضيح الفجوة بين الدين الحنيف والمعتقدات الدينية البعيدة عن الدين. وهو يستعين بالدين الحقيقى فى محاربة الأوهام الدينية والسلوكيات الضالة التى أخّرت المسلمين . وهو بذلك من كتب التنوير المهمة التى تحارب الأباطيل ، وهو جدير بالقراءة ) . انتهى .
جدير بالذكر أن كتاب ( العقائد الدينية فى مصر المملوكية بين الاسلام والتصوف ) أحدث هزة فى الماء الراكد ، حين إستشهد به عضو فى مجلس الشعب مطالبا بمصادرة مؤلفات ابن عربى وابن الفارض، ورددت ذلك الصحف المصرية وقتها .
لم تنشر الهيئة العامة للكتاب الجزئين الآخرين من كتاب ( التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )، وهما عن أثر التصوف فى ( العبادات ) وفى ( الانحلال الخلقى )، ولم تنشر أيضا المقدمة الى كتبتها للأجزاء الثلاثة أو الكتاب الذى يجمعها.
2 ــ وفى عام 2002 قامت شركة المحروسة للنشر بنشر الكتاب كاملا فى ثلاثة أجزاء مع مقدمته الأصلية . وتعريفا بالكتاب قال الناشر:(" هذا الكتاب " : أخطر رسالة دكتوراه نوقشت فى جامعة الأزهر " قسم التاريخ والحضارة " كانت للمؤلف تحت عنوان " أثر التصوف فى مصر العصر المملوكى " وتتناول أثر التصوف السياسى والثقافى والحضارى والاجتماعى فى مصر المملوكية ، ولم تناقشها جامعة الازهر إلا بعد حذف أهم فصول الرسالة ، وهى التى تتحدث عن أثر التصوف فى الحياة الدينية والحياة الخلقية .ـ وخلال خمسة عشر عاما أعاد المؤلف صياغة الأجزاء المحذوفة من الرسالة لتكون كتابا فريدا فى بابه هو هذا الكتاب " التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية " وهو يناقش أثر التصوف الدينى والأخلاقى فى المجتمع المصرى المملوكى فى العقائد والعبادات الدينية والسلوكيات الخلقية ، وذلك لأول مرة وبصورة علمية منهجية موثقة . والعادة أن يهتم الباحثون بالتأريخ للسلاطين والحكام والمشاهير ، ولا يهتمون بأحوال المجتمع ، والعادة أن يهتم باحثوا التصوف بالجانب النظرى الفلسفى فيه دون أن يناقشوا تأثيره فى المجتمع وأحواله السياسية والحضارية ، والعادة أيضا أن يتجاهل الباحثون مناقشة الأحوال الدينية للمجتمعات الدينية كما لو أن تلك المجتمعات تمسكت بالإسلام الحنيف كما هو دون أى زيف أو تحريف ، ولكن الباحث فى هذا الكتاب خرج عن كل تلك العوائد ، وقام بالتأريخ للشعب المصرى فى العصر المملوكى من خلال ظاهرة التصوف التى سيطرت عليه، وقدم لنا صورة تاريخية للعقائد الدينية الصوفية السائدة وكيفية تأدية الفرائض الإسلامية والصوفية ، والسلوكيات الخلقية وما فيها من إنحلال وإنحراف ، وربط الظواهر التاريخية بجذورها الفكرية العقيدية ، ولم ينس ـ كباحث مسلم ـ من أن يوضح الفجوة بين تلك الوقائع التاريخية وبين الإسلام الحنيف وعزز كل أقواله بالأسانيد والأدلة . ومع أنه أول بحث فى هذا الطريق الشائك الوعر..إلا أن المؤلف لم يترك لغيره مجالا للإضافة أو الابتكار .. فهو بحث فريد وأصيل وسابق .. ولم يترك شىء للاحقين إلا أن يسيروا على خطاه منبهرين أو غاضبين . ) انتهى .
ونحن ننشر هنا الكتاب كاملا مع مقدمته ضمن موسوعة ( التصوف المملوكى ) . سبق أن نشرنا من موسوعة التصوف المملوكى كتاب ( السيد البدوى بين الحقيقة والخرافة ) وكتاب ( المجتمع المصرى فى عصر السلطان قايتباى ) ، والآن مع هذا الكتاب بأجزائه الثلاثة ، وبعده أبحاث تالية نرجو إكمالها ونشرها لتكتمل موسوعة التصوف المملوكى .
وفى نشرنا لموسوعة التصوف ـ بعد تأليفها الأول من حوالى ربع قرن كان لا بد من بعض التنقيحات ، فلا زلنا كما قال الامام محمد عبده ( ننظف عقولنا من وساخات الأزهر ) وكانت تلك الوساخات كثيرة من ربع قرن . والحمد لله جل وعلا أن هدانا الى الاحتكام الى كتابه الكريم لنتطهر به من رجس التراث .
والله جل وعلا هو المستعان .
أحمد صبحى منصور
فرجينيا / الولايات المتحة الأمريكية نوفمبر 2014
مقدمة كتاب : ( التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )
أولا :
هذا الكتاب جزء من حياة المؤلف ، ومن التاريخ الفكرى لجامعة الأزهر أيضا . لأنه كان "جزءا"من أخطر رسالة علمية للدكتوراة نوقشت فى جامعة الأزهر عن التصوف ،الذى فقد مكانته بعدها . ونحكى القصة من البداية إلى النهاية : ـ
1 ـ تخرجت فى قسم التاريخ والحضارة بكلية اللغة العربية بالقاهرة جامعة الأزهر بمرتبة الشرف ، وعينت معيدا فى القسم فى 15 ديسمبر سنة 1973، وكانت مرحلة الماجستير وقتها عبارةعن سنتين دراسيتين مع أبحاث مكثفة ، ويكتفى بذلك عن تحضير رسالة علمية كاملة ،ويستعاض عن الرسالة ببحث منفصل فى السنة الثانية ، ولذلك فقد ضاع أملى فى إعداد بحث كنت اتشوق لإعداده عن وحدة العقيدة الدينية فى مصر فى عصورها الثلاثة ، الفروعونى والقبطى والإسلامى، ذلك أنه تكون لدى من النشأة الأولى ومن الثقافة والإطلاع أنه توجد فجوة هائلة بين (الدين ) الذى ينزل من السماء لإصلاح أهل الأرض ، وبين(تدين ) أهل الأرض الذى يتأثر بظروف كل منطقة . ولهذا فإن مصر بتاريخها وحضارتها كان لها نوع من التدين الخاص بها ، ساعد على وجود تشابه هائل بين ملامح التدين العقيدى والسلوكى فى مراحل التاريخ المصرى الفرعونى والقبطى والإسلامى، كانت هذه الفكرة هى ما توصلت إليه بعد بحث علمى وعقلى كانت له دوافعه الاجتماعية والدينية . ولم يقدر لهذا البحث أن يظهر فى رسالة الماجستير المصغرة لأن الشيوخ فى قسم التاريخ رفضوا الفكرة ، فاضطررت لتقديم بحث فى المناطق التاريخية غير المأهولة وغير المطروقة فى التاريخ الأموى المألوف للشيوخ ، وكان عن أثر العصبية القبلية فى الدولة الأموية ..
2ـ وبعد الماجستير وتعيينى مدرسا مساعدا بالقسم صممت على أن يكون ميدان بحثى للدكتوراة بنفس المنهج ، أى بحث الفجوة بين الإسلام الحق ونوعية التدين السائدةلدى الناس ، لذلك كان اختيارى لموضوع "أثر التصوف في مصر العصر المملوكى"، ورفض الشيوخ الموضوع من حيث المبدأ ، لأنه فى اعتقادهم يخرج عن مجال البحث الذى تعودوه ، وعن المناطق المأهولة التى لا يعرفون غيرها ، وهى السيرة النبوية والعصر الأموى وبعد خلفاء العصر العباسى، وبعض سلاطين المماليك ، فكيف يجرؤ باحث على التعرضلظاهرة دينية ويبحث أثرها التاريخى والسياسى والاجتماعى والحضارى فى خلال عصر بأكمله ؟ خصوصأ وأن بحث الحياة الدينية للمسلمين فكرة مرفوضة أساسا بالإضافة إلىالمشاكل فيه. وأخيرا أسعدنى الحظ بموافقة الدكتور كمال شلال الذى كان معارا للسعودية ، ووافق على عجل ، وتمت الموافقة عى تسجيل الموضوع اعتبارا من مارس1976 ، وشعرت بأننى حققت بذلك أكبر هدف لى فى حياتى وقتها . وألقيت بنفسى فى غمار البحث حوالى ثمان عشرة ساعة يوميا بين مكتبات جامعة القاهرة ومعهد المخطوطات ودار الكتب ومخطوطاتها ، باحثا منقبا طوال النهار، ثم أسهر الليل فى التصنيف والتدقيق والمراجعة والترتيب واستخلاص المادة العلمية وإعدادها للصياغة ، ثم تفرغت للصياغة ، وانتهيت منها وقدمت البحث جاهزا للمناقشة العلمية فى أكتوبر 1977 . وتلك مدة قياسية فى قصرها والإنجاز الذى تحقق فيها ، حيث أشرف البحث على نحو ألف صفحة ( بدون الملاحق ) في موضوع جديد لم يتعرض له أحد من قبل ، وقام بتفسير العصرالمملوكى بكل تفصيلاته السياسية والعقلية والحضارية من خلال التصوف الذى سيطر عليه ، وأظهر للوجود وثائق ومخطوطات وأحداثا وحركات فكرية كانت غائبة ومجهولة ،ومعظم ما تناوله البحث لم تنقطع صلته بالحاضر لأن الأولياء الصوفية والطرق الصوفية التى سيطرت على العصر الملوكي كانت لا تزال مسيطرة وحاكمة ، وعقائدها ترتدى ثوب الإسلام . وكانت تلك مشكلة الباحث والبحث لأن التصوف كانت لا تزال له مكانته فى جامعة الأزهر وقتها خصوصا فى عهد شيخ الأزهر عبد الحليم محمود ونفوذه السياسى فى مصر وخارجها . والسلفية الوهابية المعادية للتصوف كانت فى بدايتها فى جامعة الأزهر ، لا تجرؤ على نقد التصوف وليس من بينهم من كان مثلى فى التخصص العلمى فى التصوف ودقائقه.
3ـ فى هذه الأثناء توفى الدكتور كمال شلال ، وأصبح الإشراف على الرسالة مننصيب استاذ آخر تولى رئاسة القسم ، وتولى عمادة كلية الدراسات الإسلامية فى نفس الوقت ، وقدمت له الرسالة المكتوبة ليأذن لى بطبعها وتحديد وقت لمناقشتها ، وقدرت أنه سأتحمل عاما من الأخذ والرد والإعتراض إلى أن تتم المناقشة ،لكن يبدو أننى كنتأحسن الظن بعقلية الشيوخ .
ذلك أن المشرف المذكور ارتاع حين قرأ الصفحات الأولى من الرسالة وفقد صوابهتماما . كنت قد اتفقت معه فى البداية على أنه لا مساس بالقرآن وبكل ما يوافق القرآن من فكر، وأظهر لى عقلية متفتحة لم تصمد أمام أول اختبار، إذ أنه لم يكتف برفض ما هومكتوب ، بل أعلن رفضه التام الإشراف على الرسالة ، وأذاع ما هو مكتوب فيها، وساعد على حشد الشيوخ ضد الباحث . وبهذا بدأت مرحلة الصراع الأولى بينى والأشياخ فى الأزهر ( 1976 ـ 1980 ) أثناء عملى فى جامعة الأزهر (1973 - 1987).
وتزعم الشيوخ ضدى الدكتور عبد الرحمن الكردى وكان رئيس قسم البلاغة فى الكلية ، وهو شيخ طريقة صوفية ، ومع أن عميد الكلية فى ذلك الوقت كان الدكتور حسنجاد، وهو شاعر مشهور بين الأزهريين ، ومعروف بالهجاء وسلاطة اللسان وقليل منالتفتح ، إلا أنه فى نهاية عمره وبعد موت ابنه آثر السكون وترك مقاليد الأمور في يد الدكتور عبد الرحمن الكردى ليتصرف فى موضوع الرسالة ــ وفى مستقبلى ــ كيف يشاء. وكان الكردىيهدف إلي إلغاء الموضوع أساسا وأن يتم توجيهى إلى موضوع بحثى آخر، وإلا فإلزامالمشرف على أن يلزمنى بكتابة الرسالة من جديد بحيث لا يكون فيها أدنى مساسبالتصوف.
وكان الكردى فى كل خطواته يحظى بالتأييد الكامل من شيخ الأزهر وقتهاالدكتور عبد الحليم محمود أحد أقطاب الصوفية فى مصر كما هر معروف ، ورأيته بنفسى يخرج من بيت الدكتور عبد الحليم محمود أثر يوم حافل من الصدام بينى وبينهفى الكلية .وكان كل من يريد التقرب من شيخ الأزهر يلتحق بحلقات الطعن فى شخصى الضعيف ، والتى كان يعقدها شيخ الأزهر فى بيته فى شارع العزيز بالله فى حى الزيتون بالقاهرة ، وكان مجاورا لمسجد العزيز بالله الذى كان إمامه والخطيب فيه صديقى وقتها الدكتور محمد جميل غازى ، أشهر إمام للسلفية فى السبعينيات والثمانينيات ، وكنت حينئذ سُنيا معتدلا ، وأقضى بعض الوقت مع جميل غازى وأعوانه ، وتصل لى أخبار إجتماعات عبد الحليم محمود فى بيته فى سُبُل الكيد لى ، والتى كان يتولى تنفيذها د عبد الرحمن الكردى .
وقد بذل الكردى وأعوانه كل ما يستطيعون من تخويف وارهاب لحملى علي تغييرالمكتوب فى الرسالة بحيث لا أتعرض لأولياء التصوف وللتصوف بأى نقد ، ورفضت وصممت على الرفض ، وهددوا بتحويلى إلى عمل إدارىبحجة أننى لا أصلح للبحث العلمى، ومعنى هذا أن أدخل الجيش في اليوم التالى مباشرة ،لأن تأجيل التجنيد مرتبط بالتفرغ للدكتوراه ، وكنت قد تزوجت وصارت لى أسرة ، فكيفيكون الحال بمرتب أو مكافأة جندى فى الجيش؟
كانت محنة نفسية واختبارا شديدا القسوة ، وهم يضغطون ويهددون ، منهممن يستعمل الأسلوب الفظ ومنهم من يصطنع الشفقة والنعومة والخوف على مستقبلى ،ولامانع من أن أكتب مايريدون ، وبعدها ، "أكتب ما تشاء، فقدحصلت علىرخصة الدكتوراه ، وخرجت من تحت سيطرتهم ".
ويعلم الله تعالى ـ وكفى به شهيدا ـ أنه لم يخطر ببالى على الإطلاق فكرة التراجعوأن أكتب لهم ما يريدون وأن أغير لهم ما يحبون ، ولكن الذى حدث أننى قمت بمواجهة معنفسى. سألت نفسى. هل أنا ظالم أم مظلوم ؟ هل أنا مقتنع تماما أننى على الحق ولست متجنيا على أحد من الصوفية ، وأننى مظلوم أتعرض للإضطهاد، أم أننى ظالم ومتجن على الصوفية والاسلام ؟ وكان السؤال التالي، هل يملك أولئك الظلمة رزقى أو موتى أو حياتى؟ وقلت : إن ذلك بيد الله تبارك وتعالى وحده ، فلن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، وأن الله تعالى ينصر المظلوم إذا وقع عليه ظلم فى شأنشخصى لاعلاقة له بالحق وبالإسلام ، فكيف إذا كان مظلوما بسبب دعوته لتخليص عقائد المسلمين من افتراءات ما أنزل الله تعالى بها من سلطان ؟
وحتى الآن فإننى اتذكر وقت أن جالت هذه الخواطر بعقلى، وأتذكر المكان الذى كنتأسير فيه وقتها ، وأتذكر كيف غمرنى فيض من الاحساس بالرضى والطمأنينة والأمن ، ولم تعد مسألة تحويلى إلي عمل إدارى تخيفنى، وتصاغر أولئك الأشياخ أمام ناظرى وفقدواكل احترام واهتمام.
4ـ ونعود إلى ذلك المشرف إياه ـ الذى نسيت إسمه ـ وكان مصمما على رفضالإشراف ، مؤكدا أنه عاجز عن السيطرة على الباحث ، وأنه لا شأن لهبالرسالة ، وعليهم أن يبحثوا عن مشرف آخر. وشهدت الكلية عقد عدة (مجالس كلية ) لبحثالموضوع. وفى إحداها حدثت مواجهة بينى وبين الدكتور عبد الرحمن الكردى، إذ أن عميد الكلية أوصانى فى جلسة خاصة بأن أحلالموضوع معه ، فقابلت الكردى فى ممر بالكلية ، وقلت له : باختصار ماذا تريد ؟ فقال بكل غطرسة : لا بد أن تختار لك موضوعا آخر. وتركنى ومضى دون ان يلتفت لى. وأحسست بإهانة شديدة ، وأذكر أننى رجعت البيت وقضيت الليل اتقلب حانقا غاضبا من ذلك الرجل الذى يظن أن مستقبلى بيده يتحكم فيهكيف يشاء، وأسترجعت كل ما نالنى منه ، وأنا اتنهد من الغيظ ، وأستيقظت زوجتى تسألنى عن السبب ، فزجرتها وأنا فى في غيظى، فبكت فازداد حنقى على ذلك الكردى الذى وصل كيده إلى تنغيص حياتى حتى فى فراش الزوجية ، وعزمت على الانتقام منه في اليوم التالى، بأن ادخل عليه مكتبه في الكلية وأضربه علقة ساخنة بحذائى وليكن ما يكون ، واسترحت إلى أن ذلك هو الحل المثالى للموضوع ؛ حين أضربه بحذائى فى مكتبه علنا وعلى رءوس الشهاد ستتتفجر المشكلة فى الصحف ، وسيكون هناك حل ، ومهما كان مؤلما فلن يكون أصعب من الاهانة التى تلقيتها منه او من تحكمه فى مستقبلى وجهدى العلمى.واسترحت نفسيا حين وصلت إلى هذا القرار وظللت أراجع مع نفسى ( سيناريو ) العلقة التى سألقنها له، وبعد أن إطمأننت الى قرارى وتفصيلات التنفيذ نمت هادئا قرير العين .
في اليوم التالى ذهبت للكلية وكلى عزم وتصميم على اعطاء الدكتور الكردى علقة ساخنة بحذائى . وتوجهت مباشرة إلى حجرة قسم البلاغة وفيها مكتبه وسألت عنه . ووجدته لم يحضر، وانتظرته فى حجرة قسم التاريخالذى انتمى إليه ، وهى بجوار قسم البلاغة ، وكل حين اذهب واسأل عنه متى سيأتى . ولفت هذا نظر الد كتور ( عبد الحميد أحمد محمد على) ، وهو أستاذ بقسم البلاغة ، وابن عمى الشقيق وبمثابة أخ أكبر لى ، وقد تربينا معا ، وهو يعرف طبعى جيدا ، ويعرف كراهيتى للكردى. وابن عمى د. عبد الحميد وهو الذى تنبأ سابقا بالمتاعب التى تنتظرنى حين نظر فى مخطوطة الرسالة قبل أن أقدمها ، وقال لى أنه مستحيل أن يوافق الأزهر عليها . وأذكر أننى قلت له وقتها( اكتوبر 1977 ) بكل جدية : ( إذن هذا الأزهر إما أن أُغيره وإما أن أُدمره ) . لاحظ ابن عمى الدكتور عبد الحميد ( مات 1990 ) ملامح وجهى وإلحاحى على رؤية الكردى مع الخصومة بيننا ، فشكّ فى الأمر، وحاول أن يعرف سبب حرصي على لقاء الكردى وترددى على مكتبه أسأل عنه ، ولم أفصح له عن السبب . والعادة أن الكردى لا يتأخر ولا يغيب عن الكلية ، ولم أكن الوحيد الذى ينتظره. وكنت موقنا أنه سيأخذ علقته المحترمة بمجرد وصوله أمام الحاضرين .. ولكنه لم يصلالكلية فى ذلك اليوم ، وظللت طوال اليوم أنتظره فلم يأت ونجا من العلقة . ورجعت بيتى وقد أحسست بالإنتصار. إنتصرتعلى كل نوازع الرهبة فى نفسى، وتأكدت من قدرتى على اتخاذ أى اجراء، حتى لو كاناجراءا لم يسبق لى أن قمت به ، مثل أعمال العنف ، وادخرت علقة الكردى إلى وقت لاحق ، وزال عنى كل شعور بالحنق أو الغيظ .. طالما أنه فى إمكانى أن اضرب الكردى فى أى وقت ، وطالما أن القرار نفذ، وكان على وشك التنفيذ لولا غياب المستحق للعقاب.
وحرصت علي إذاعة الخبر بعدها .. وحرصت على أن يصل الخبر للكردى ، ووصل اليه الخبر بأننى طنت على وشك أن أضربه علقة بالحذاء . وماهى عنه ببعيد لو تدخل بنفس غطرسته فى موضوع لا شأن له به . وفى لقاءاتنا ونحن نسير فى نفس الطُّرقة فى الكلية حيث يتجاور قسم التاريخ مع قسم البلاغة كنت ألمح الخوف فى عينيه حين يرانى ، ويتحاشى اللقاء معى ، وأصبح يكيد لى سرا وعن طريق أخيه الذى يعمل إستاذا بكلية أصول الدين ، وعن طريق إمامهم شيخ الأزهر وقتها الدكتور عبد الحليم محمود .
على أن تصميمى على موقفى والتحدى لهم جميعا وتهديدى بضرب الكردى بالحذاء جعلهم يقتنعون أننى (مدفوع من جهات أجنبية )، ( وإلا فلماذا يصر على أرائه ويتحدى الجميع ؟) وكانت النتيجة أنهم أخافوا أنفسهم بأنفسهم ،ولم يعودوا يهددون بإحالتى للأعمال الإدارية كما كانوا يفعلون . وكان قرار إحالتى الى عمل إدارى لا يكلف سوى ورقة يكتبها المشرف يقرر فيه أننى لا أصلح باحثا . إرتعبوا من كتابة هذه الورقة لأننى ( مدفوع من جهات أجنبية ) . وصدق الله العظيم : (إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) آل عمران )
5 – أصبحت طريقتهم فى الكيد ليس التحدى العلنى برفض الرسالة ولكن تعطيل مناقشتها لأيأس وأرضى بتغيير ما كتبت وأتجنب نقد التصوف. وأصبح الذى يتولى التعطيل هو مجلس الكلية بنفسه وليس الدكتور عبد الرحمن الكردى . ولا أستطيع وأنا مجرد مدرس مساعد أن أتحدى مجلس الكلية . وبعد تصميم المشرف إياه على ترك الاشراف على الرسالة تولى الدكتور عبد الفتاح شحاته (رئيس قسم التاريخ الأسبق وكان استاذا متفرغا للدراسات العليا فى قسم التاريخ ) الإشراف على الرسالة ، وقرأها حرفا حرفا، ووصل إلى علم الدكتور الكردى أنه يمدح فيها وفى الباحث ، فلم يسترح الكردى إلا بعد أن قرر مجلس الكلية نقل الإشراف عنه إلى الدكتور عبد المقصود نصار رئيس القسم وقتها الذى قبل الإشراف على مضض . وتسلمت أصول الرسالة من الدكتور شحاته الذى أوجز لى نصيحته قائلا : ( إن أحدا لن يصدق أنك كتبت هذا العمل ، ولابد أن يستكثروا على مدرس مساعد مثل هذا البحث، ونصيحتى لك أن تحذف ما يشاءون طالما لا تريد تغييرما كتبت ، وبعد أن تحصل على درجتك العلمية قدم باقى الرسالة كأبحاث للترقية لأستاذ مساعد ثم لدرجة أستاذ. وهذا هو الحل الوحيد )..".
6 ــ وبسبب ضعف الدكتور عبد المقصود وخوفه مسبقا مما فى الرسالة فقد صمّم على الاستعانة بأستاذ فى قسم العقيدة والتصوف فى كلية أصول الدين يكون مشرفا مساعدا معه ، وكان الكردى يأمل أن يعين د عبد المقصود أخ الكردى الأستاذ فى كلية أصول الدين مشرفا مساعدا ، ولكن د نصار ترك لى حرية اختيار المشرف من بين أساتذة التصوف فى قسم العقيدة فى هذه الكلية، على أنهم متخصصون فى التصوف ، وهم بكل ماأوتوا من جهل لا يفقهون شيئا فى التصوف كالعادة فى أغلب ( المتخصصين ) من أساتذة كليات ( اصول الدين ).!
وذهبت لكلية أصول الدين أبحث عن استاذ مناسب ( على مزاجى ) ، وقابلت عميدها وقتئذ، وهو الدكتور موسى شاهين لاشين ، الذى رحّب بى ( وكان سلفيا مشهورا وقتها ) وتمنى أن يشرف على هذه الرسالة لولا أنه أستاذ تفسير ، وقابلت الدكتور محمد البهى رحمه الله ، فى بيته ، وقد اعتذر بأن صحته لا تساعده على هذه المهمة ،ونصحني باختيار أحد اثنين من تلامذته يثق في عقليتهما، وقد حصل كلاهما على الدكتوراه من ألمانيا ، وهما الدكتور محمود زقزوق عميد كلية الدعوة وقتها، والدكتور محمد عبد الغنى شامه ، وأوصاهما بى خيرا حسبما عرفت ، وقابلت د. زقزوق ، واعتذر برفق ،وأحسست رغبته فى الابتعاد عن المشاكل حرصا على طموحاته ، ورحب الدكتور عبد الغنى شامة بالإشراف على الرسالة خصوصا بعد أن عرف أننى حذفت مقدما القسم الأكبر من الرسالة وهو الخاصبأثر التصوف فى الحياة الدينية والخلقية تنفيذا لنصيحة الدكتور شحاتة . وكان اسم الدكتور شامة مثيرا لفزع الدكتورالكردى فلم يوافق مجلس الكلية على تعيينه مشرفا مساعدا على الرسالة مع الدكتور عبد المقصود نصار، واختاروا استاذا آخر هو الدكتور الشاعر..
7 ـ وجدير بالذكر أنه خلال هذه السنوات الثلاث العضال 1977 ـ1980 حدث الآتى : عقدت قرانى بتاريخ 9 يولية 1977 ، وكنت أتمنى أن أناقش الرسالة قبل الزفاف ، فلم يحدث ، وتم الزفاف فى 21 مايو 1978 . وتمنيت أن أحصل على الدكتوراة قبل أن اُرزق بولد ، فرزقنى رب العزة بمحمد فى 11 يناير 1979 ، ثم شريف فى نفس العام 4 ديسمبر 1979 ، كل ذلك قبل مناقشة الرسالة . وفى هذه السنوات العضال رجعت للقرآن الكريم أحتكم اليه فى حالى وحال الشيوخ ، وأدرسه دراسة موضوعية باحثا عن الهداية ، وخرجت من هذه الدراسة القرآنية بعلم قرآنى لا زلت أنهل منه حتى الآن . وفى هذه السنوات العضال أتاح لى قسمالتاريخ أن أمارس مهامي كمدرس ، إذ أنتدبت للتدريس فى فرع الجامعة بالزقازيقوغيرها ، وقمت بتأليف المذكرات للطلبة ،وذلك اعتراف من القسم بأن التأخير فى حصولى على الدكتوراه سببه جهل الشيوخ وضيق أفقهم، والفضل في ذلك يرجع إلى رئيس القسموقتها الدكتور محمود صالح منسى، وهو بالمناسبة خريج جامعة القاهرة ، ولذلك كان يقف إلى جانب المظلوم وإلى جانب الحق مهما استطاع ..أى أن سنوات التعطيل وفرت لى وقتا تفرغت فيه للبحث والتدريس رغم أنف الشيوخ
8- وفى ليلة 22أكتوبر سنة 1980 نوقشت رسالتى (أثر التصوف فى مصر العصر المملوكى) فى قاعة العقاد بكلية اللغة العربية ، وكان عضوا اللجنة الدكتور محمد الطيب النجار،وكيل الأزهر وقتها ، والدكتور يوسف على يوسف أول رئيس لقسم التاريخ والحضارة بكلية اللغة العربية ، بالإضافة للمشرف الاستاذ الشاعر ، وتغيب د عبد المقصود نصار بسبب رُعبه مما فى الرسالة ، وبعد مناقشة مستفيضة أجيزت الرسالة بمرتبة الشرفالأولى.
وفى المناقشة قال د يوسف على يوسف إنه ينطبق علىّ الحديث القائل بأنه على رأس كل مائة سنة هجرية يأتى من يجدد لهذه الأمة دينها . ولأننى إرتجلت تقديم البحث أمام اللجنة ملتزما بالعربية الفصحى وبدون أدنى خطأ نحوى فقد أعلن د الطيب النجار أنه سيُلزم كل متقدم لمناقشة الرسالة أن يرتجل مقدمة بحثه كما فعلت ، وقال إننى بهذا أتعبت كل من سيأتى بعدى . حضر المناقشة فى قاعة ( العقاد ) بكلية اللغة العربية أساتذة وزملاء وكثيرون من الأهل من قريتى أبوحريز ومدينة الابراهيمية شرقية ،وعلى رأسهم صهرى الحاج محمد الباز رحمه الله جل وعلا . وكان مع زوجتى ابنى محمد ( أقل من سنتين ) وابنى الشريف ( أقل من عام ) وقتها . وأتذكر أن محمد وشريف دخلا مكتب عميد الكلية ( وكان العميد وقتها د عبد الرحمن الكردى ) وكان مكتبه خاليا ، وظلا يلعبان فيه . وقام أحدهما ( لن أقل من هو ) بقضاء حاجته فى المكتب. واعتبرت ذلك ردا مناسبا على الدكتور الكردى ، و تحية له يستحقها بكل جدارة . !!ـ
9 ـ ، وبعدها كان تعيينى مدرسا فى 2/7/1981 بعد أن بذل الكردى كل ما يستطيعلتعطيل حقى فى الحصول على الدرجات العلمية والوظيفية ، وكان الكردى قد تولى عمادة الكلية ، فإمتنع عن عقد مجلس الكلية من نوفمبر 1980 الى يولية 1981 حتى لا تحدث الموافقة الروتينية الرسمية على حصولى درجة الدكتوراة وترقيتى من مدرس مساعد الى مدرس. ثم أُضطر لعقد مجلس الكلية بعد أن تضخمت الملفات التى تنتظر العرض والموافقة. الذى لم يعرفه الكردى أنه بتعمده تأخير الموافقة الرسمية على حصولى على درجة الدكتوراة قد أسدى لى خدمة كبيرة . لو تمت الموافقة قبل أول مارس 1981 لتحتم على دخول الجيش مجندا وفق القانون . أى كان لا بد من أن يكون عمرى قد تجاوز 31 سنة وأنا متمتع بالتأجيل ليتم إعفائى نهائيا من التجنيد . وتكفلت نذالة الكردى بهذه الخدمة . ومات بعدها ، وحسابه عند ربه جل وعلا.
ثانيا :
1 ــ والرسالة التى نوقشتكانت تتناول أثر التصوف في مصر المملوكية سياسا وأجتماعيا وثقافيا وفى العمارة ، خلال ثلاثة أبواب مع مقدمة وتمهيد وخاتمة وملاحق .
فى الباب السياسىتناولت دور الصوفية فى قيام الدولة المملوكية البحرية ثم البرجية ، ودور الصوفية فى السفارات السياسية والشفاعات السياسية ، واستخدام النفوذ الصوفي فى محاولة إقامة الحكم العلوى الشيعى من خلال حركة أحمد البدوى الشيعية المتسترة بالتصوف ، ثم دور الصوفية فى انهيار الدولة المملوكية من الخارج خلال الشاه اسماعيل الصفوى الصوفى، وتقاعس الصوفية فى الداخل عن نجدة المماليكوتعاونهم مع العثمانيين ، واستغلال الصوفية نفوذهم السياسى فى اضطهاد الفقهاء واضطهاد النصارى، وتأييد الصوفية لظلم المماليك، وانغماس الصوفية فى الفتن والمؤامرات السياسية .
وتحدث الباب الثاني عن أثر التصوف فى الثقافة والعمارة . فى العلم ،وفى العلوم وفى التعليم ، فى العلم من حيث تأخر العلم (الظاهر) بسبب رفع الصوفية لخرافة العلماللدنى، وفى العلوم من حيث نشر العلوم الصوفية الوهمية ، ومن حيث تأثيرهم فى التفسير وفى الحديث (وضع الحديث ) وفى التاريخ . وفى التعليم فى المؤسسات الصوفية منمدارس وخوانق وجوامع ، وحركة التعليم ونوعية العلوم وعوامل انحدار التعليم ، والمكتباتوتربية الأطفال ، والميعاد، والصوفية المعلمون . ثم أثر التصوف فى الأدب والفنون من النثر والقصة والشعر وفى الغناء والموسيقى والرقص والفنون العمارية ، ثم ازدهار العمارةالدينية والتعمير، فى مصو المملوكية .
أما الباب الاجتماعى، فقد تحدث عن علاقة الصوفية بالمجتمع ومدى تفاعلهم بطبقات الشعب من أصحاب حرف وفلاحين وقطاع طرق ومشايخ العرب ، وما قدمتهالمؤسسات الصوفية ، من دور اجتماعى وخدمات ، ثم أثر التصوف فى نشر القيم الاجتماعية ، مثل عدم الاعتراض ، والتواكل ،والخضوع والتسليم ، ونشر العاداتالاجتماعية مثل الموالد والولائم وزيارة القبور، وفى الزى، وأثر التصوف فى التركيب الاجتماعى مثل إظهار طوائف جديدة كالأولياء والطرق الصوفية ، وطوائف المجاذيب والأشراف والأعاجم والزوالق ومشايخ الزيارة والجعيدية والتعريف بكل طائفة . بالإضافةإلى أثر التصوف اقتصاديا فى ترك الحرفة ونشر الأوقاف وأثرها الاقتصادى.
2ـ والجزء المحذوف من الرسالة هو ما ظهر معظمه اخيرا فى هذا الكتاب عن التصوفوالحياة الدينية فى مصر المملوكية ،وكان فى الرسالة الأصلية عبارة عن بابين ، أثر التصوف فى الحياة الدينية ،وأثر التصوف فى الحياة الخلقية. وأثناء فترة الاضطهاد الأولى فى جامعة الأزهر (1977ـ 1980) قمت بتجهيز البابين ليكونا كتابا واحدا على أمل نشره فيما بعد ، وتحت تأثير الشعور بالظلم والاضطهاد كان الأسلوب حادا وناقما . وأعدت النظر في الكتاب سنة 1981، فرأيت أنه يحتاج إلى إعادة صياغة ( هادئة ) كما أنه كبير الحجم ،ولذلك أجلت إصداره، وأصدرت بدلا منه كتابى الأول (السيد البدوى بين الحقيقة والخرافة ) سنة 1982 ،وكان على نفقتى الخاصة ، وهو الذى يثبت حقيقة البدوى كمتآمر سياسى تستر بالتصوفلإسقاط نظام الحكم الأيوبى ثم المملوكى، وكان جزءا من رسالة الدكتوراه التى نوقشت .ثم انشغلت بإصدار مؤلفات أخرى، إلى أن دخلت فى فترة الاضطهاد الثانية (1985 ـ 1987) والتى بدأت بوقفى عن العمل فى الجامعة عقابا على إصدارى خمسة كتب, وانتهت بتقديم استقالتى للجامعة ، ثم قرار الجامعة بالعزل سنة 1987. ونجاح الشيوخ فى الضغط على الدولة حتى ادخلتنى السجن بتهمة ملفقة وهى إنكار السنة ( نوفمبرديسمبر سنة 1987 ) وبعدها تفرغت للبحث وبدأت طريقا جديدا في تطهير عقائد المسلمينمن كل الزيف سواء ما اتصل منه بالتصوف أو بالسلفية والأحاديث المفتراه .
3 ــ وفى بداية التسعينيات وبعد صدور حوالى عشرين كتابا ومئات المقالات والأبحاث خشيت على أصول كتاب) التصوف والحياة الدينية ) أن تضيع وسط الأوراق ، فأعدت قراءتها ، وأعددتها للنشر، على النحو التالى : -
أ ) دعمت البحث بالرجوع إلى بدايات التصوف التاريخية والعقيدية والفكرية من خلال رسالة القشيرى واحياء علوم الدين للغزالى، لأصل التصوف المملوكى ببداية التصوف وانتشاره.
ب ) حذفت من الكتاب القديم فصولا عن أثرالتصوف فى استرجاع العقائد الفرعونيةوالتأثر بالمسيحية ، ورأيت من الأفضل أن تصدر فى أبحاث مستقلة.
ج ) أضفت للبحث بعض ما يحتاج إليه من أبحاث تضمنتها الرسالة التى نوقشتخصوصا فى علاقة الصوفية بالفقهاء، وبعض النواحى العقلية والاجتماعية .
د ) خففت الكثير من العبارات الحادة ، وأثرت ترك بعض النصوص بدون تعليق ليحكمعليها القارىء.
4- ويبقى لى بعض ملاحظات :
أ ) أننى حاولت بقدر الإمكان ألا أقع فى تكفير أحد، وأكتفيت بعرض الاراء المخالفةللقرآن ونسبتها لأصحابها كما هو موجود فى كتبهم ، دون أن أقصد تكفيرا ،وإنما توضيحا للفجوة بين الإسلام والمسلمين , وهدفى من ذلك هو النصح للمسلمين الذين يقرءون الكتاب ، حتى يعرفوا الحق , وما يخالفه من معتقدات متوارثة ، التصقت بالإسلام , وهو يناقضها تماما .
ب ) أنه بسبب إعادة الصياغة أكثر من مرة فى أزمنة مختلفة ، فإن بعض الفصولكتبت هوامشها أسفل الصفحات ، وبعض الفصول كتبت هوامشها فى نهايةالفصول أو الأبحاث . كما حرصت على إثبات المراجع كلها للرسالة القديمة ،ومنها مالم يعتمد عليه في الكتابة ، ورأيت أن إثبات المراجع كلها أكثر إفادة للباحثين فى العصر المملوكى وتراثه .
ج ) إننى أقدر تماما الشعور بالصدمة الذى قد يفاجىء بعض القراء، ممن يحسنون الظن بالتصوف وأوليائه . وأتمنى أن تسفر هذه الصدمة على أن يرجعوا بأنفسهم لمصادر الرسالة ويتحققوا مما ذكرت , وأن يكون ذلك دافعا لهم لإعادة قراءة التراث الصوفى ـ وغير الصوفى ـ قراءة موضوعية نقدية ، باعتباره تراثابشريا يجوز فى حقه الخطأ والصواب ، وكفانا تبريرا وتأويلا وتجاهلا، فإن حق الله تعالى أقدس ، ودين الإسلام أولى بأن نبرئه من كتابات الأسلاف .
أخيرا
وبعد هذا فأنا لا أرجو جزاء ولا شكورا من أى إنسان مهما كان . فقد اجتهدت ــــ لله تعالى وحده ـــ فى التعرف على الإسلام من خلال القرآن ، وأجتهدت فى التعرف علىالتصوف وعقائده ورسومه من خلال كتب شيوخه وأئمته ، واجتهدت فى قراءة وبحث التاريخ المملوكى والتراث المكتوب فيه من شتى المجالات ، واجتهدت فى تحديد الفجوة بين الاسلام والتصوف ، وفى تأثير التصوف على الحياة الدينية والخلقية والاجتماعية والعقلية والعلمية وغيرها فى العصر المملوكى . وأحمد الله تعالى على أن وفقنى لذلك . فكان إصدار هذا الكتاب بعد أكثر من ستة عشر عاما من مناقشة الرسالة , تعلمت فيها الكثير والكثير خصوصا بعد تركى الجامعة ، وعرفت كم هذا التغيير والتعليم حين قرأت الأصل القديم لهذا الكتاب.
والله تعالى المستعان
القاهرة فى يونيه1996