خلال فترة الحروب الصليبية
العلاقات بين القوى المختلفة في بلاد الشام خلال فترة الحروب الصليبية

عبدالوهاب سنان النواري في الإثنين ١٧ - نوفمبر - ٢٠١٤ ١٢:٠٠ صباحاً

* العلاقات داخل القوى الصليبية:

     حتم التجاور بين هذه القوى أن تقوم فيما بينها علاقات, تقاذفها مد وجزر, بسبب الظروف القائمة في تلك المنطقة التي كانت محط أنظار العالم المعروف في ذلك الحين؛ فعلى هذا كان علينا أن نبحث في طبيعة الأجواء السائدة داخل المجتمع الصليبي, والتي عكست عداء مستميتا فرضه تضارب المصالح التجارية بين الحكومات الإيطالية من جهة, والتنافس الدموي على النفوذ والسيطرة بين زعماء الصليبيين من جهة أخرى, كما أن التعاون بين الصليبيين والمغول لم يكن حسبما توقع هؤلاء, مما أفسح في المجال أمام المماليك كي يدعموا نفوذهم على حساب الأطراف الرئيسية, المتواجدة في بلاد الشام, من مغول وصليبيين وأيوبيين.

     إن الحروب الصليبية, التي خاضها ملوك وأمراء أوربا تحت شعار, تخليص بيت المقدس من أيدي المسلمين, سرعان ما تكشفت عن حقيقة أهدافهم ومقاصدهم, التي تجسدت في تحقيق مطامعهم, بإقامة دويلات لهم يسيطرون من خلالها على خيرات الشرق, ودليلنا على ذلك هو أنه بُعيد احتلالهم لبلاد الشام, نشب الصراع بين أولئك الملوك والأمراء لتزعم الأمارات الثلاث التي أنشأوها, وكذلك للوصول إلى عرش المملكة التي أقاموها في بيت المقدس, وامتلأت قلوب الزعماء بروح التحاسد, فكانوا يتنافسون على المُلك ويتخاصمون في أيهم يحظى يذلك اللقب الفارغ (ملك أورشليم).

     ومما زاد الطين بلة ظهور عنصر جديد في الصراع الدائر, تمثل بالتنافس بين الإيطاليين على احتكار الامتيازات التجارية في بلاد الشام, وقد لعب هذا التنافس الذي لم يخلُ من الصراع الدموي, دورا رئيسيا على مسرح الحياة السياسية والعسكرية لدويلات الصليبيين. إن الجنوية والبيازنة قد دخلوا في صراع وتنافس تجاري آنذاك, لذلك استغل الجنوية الحروب الصليبية, تدفعهم في ذلك الروح الدينية, للذهاب إلى الأراضي المقدسة لمساعدة الصليبيين. ولم يكن ذلك من أجل المساعدة فحسب, بل من أجل السيطرة على التجارة بين الشرق والغرب والحصول على الربح الوفير منها, وتقوية مراكزهم ووجودهم التجاري في الشرق, حيث الوفرة والثروة, وحيث كانت القوافل التجارية تأتي محملة بالسلع الشرقية النفيسة الواردة إلى موانئ الشام. لذلك ذهبت الشخصيات الجنوية والبيزية الهامة إلى الشرق, وحملت الصلبان.

     وبدأت العلاقات تقوى بين الإيطاليين والصليبيين عندما شعر الأخيرين أنهم بحاجة إلى مساعدة أساطيل الايطاليين للاستيلاء على المدن الساحلية, أو لتجهيز الحملات الموجهة إلى مصر, فاعتمدوا بشكل خاص على الإيطاليين وفرنسيي الجنوب, واشتدت الحاجة إلى مساعدتهم للإبقاء على الطرق البحرية إلى المغرب مفتوحة, ولنقل الحجاج والعساكر والنزلاء الصليبيين على سفنهم إلى الشرق. غير أنه لا بد للمدن التجارية أن تتقاضى أجورها, فلذا طلبت هذه المدن تسهيلات وحقوقا تجارية, كأن يكون لها أحياء خاصة في المدن الكبرى, والإعفاء التام أو الجزئي من رسوم الجمارك, فوافقت سلطة الصليبيين على ذلك.

     وبفضل هذه الامتيازات أضحى التجار الإيطاليون يمثلون أنشط العناصر التجارية في كل ميناء في الشرق الصليبي, إذ سيطرت جمهوريات ايطاليا الثلاث, بيزا وجنوا والبندقية, على تجارة البحر المتوسط لما لها من جاليات في كل ميناء على طول الساحل الشرقي للمتوسط. وفيما عدا ما اشتهر به الداوية (فرسان المعبد) من أعمال الصيرفة. وقد أمدت تجارة الإيطاليين الشرق الصليبي بمعظم ما حصل عليه من موارد, كما أنها كانت تعتبر بالغة النفع للأمراء المسلمين, إذ أن رغبتهم من حين إلى آخر في توقيع هدنة مع الصليبيين ترجع إلى حد كبير إلى تخوفهم من انقطاع هذا المصدر المدر للربح.

     غير أن الجمهوريات الإيطالية قد اشتد بينها التنافس, فما وقع من نزاع بين بيزا وجنوا سنة 647هـ/1249م, ونشوب القتال في شوارع عكا في السنة التالية بسبب مصرع أحد التجار الجنويين على يد البنادقة, ومن ثم الخلافات بين الطرفين على ملكيه كنيسة القديس سابا الواقعة بين الحي الجنوبي والحي البندقي, والتي أدت إلى حرب أهلية في عكا, هي نتاج التسابق التجاري للسيطرة على الشرق بين الجمهوريتين الإيطاليتين (البندقية وجنوا). ثم تجدد القتال بين الفريقين سنة 654هـ/1256م, فانحازت بيزا إلى جنوا وأوقعتا هزيمة كبرى في صفوف البنادقة, الذين أُخذوا على حين غرة. وكان قد اتفق, بموجب المعاهدة التي انعقدت حينما تم الاستيلاء على صور سنة 622هـ/1224م, على أن يكون للبنادقة ثلث صور, وعندما علم صاحب صور (فيليب دو مونفور) بما حل بالبنادقة في عكا, أخذ يعمل على جعل صور منافسا تجاريا لعكا, لكن (ماركو جوستنياني) قنصل البندقية في عكا, استطاع, لبراعته الدبلوماسية, أن ينشئ حلفا بوجه هذا المشروع, من بيزا ومرسيليا والبندقية, مدعومين من قبل فرسان الداوية والتوتون, وتعاطفت مع هذا الحلف عائلة (إيبلان) صاحب بيروت ويافا, وفي جانب جنوا كان فيليب دو مونفور وفرسان الاسبتارية وتجار كاتالونيا. وبعد صراع دام سنتين بقيت عكا بيد البندقية, بينما انسحب الجنويون إلى صور, وانقسمت سورية الصليبية سنة 656هـ/1258م, إلى منطقتين متعاديتين.

     وانتقلت الخصومات إلى إمارة أنطاكية وطرابلس, حيث كان أميرها (بوهيمند السادس) يميل إلى البنادقة, بينما كان ممثله (برتراند) صاحب جبيل, وهو من عائلة أمبرياتشو, يميل نحو الجنوية. وقد وصل الأمر بهذا الأخير أن أرسل حملة عسكرية إلى طرابلس سنة 656هـ/1258م, كان من نتيجتها مقتل برتراند نفسه على يد أحد القرويين, مما أدى إلى تعميق الخلافات بين إمارة طرابلس وبارونية جبيل.

     وكان هناك محاولة لوضع حد للمنازعات بين الجمهوريات الإيطالية الثلاث, والدعوة هذه المرة كانت موجهة من بطريرك بيت المقدس (جيمس بانتاليون) متوسطا البابا الذي أمر بعقد هدنة مباشرة بين الفرقاء المتقاتلين, لكن الأسطول الجنوي, الذي وصل إلى صور, قطع الطريق على الوفاق المنشود, إذ اتجه إلى عكا, بعد أن انضمت إليه سفن جنوا في صور, ووقعت بينه وبين تحالف أسطولي البندقية وبيزا معركة بحرية هامة قضت بهزيمة الأسطول الجنوي, وذلك سنة 656هـ/24 حزيران 1258م, وقد تعرض الحي الجنوي في عكا للنهب والسلب, فقرر الجنويون الجلاء نهائيا عن عكا, واتخاذ صور مستقرا لهم. وتجددت المحاولات للوفاق سنة 657هـ/1259م وسنة 659هـ/1261م, لكنها لم تسفر عن نتيجة حاسمة باعتبار أن الحرب قد نشبت من جديد, وألحقت الضرر البالغ بالتجارة وحركة النقل على امتداد الساحل الشامي.

     إن الصراع داخل القوى الصليبية قد أضر بالصليبيين النازلين في بلاد الشام, إذ استطاع البيزنطيون, في ظل هذه الأجواء, أن يستعيدوا عاصمتهم القسطنطينية بمساعدة الجنويين لقاء امتيازات خاصة, وبذا زالت إمبراطورية اللاتين التي أنشأتها الحملة الصليبية الرابعة.

     تلك كانت حالة العلاقات داخل القوى الصليبية عشية دخول جيش المماليك إلى بلاد الشام (حرب أهلية عمت المجتمع الشرقي الصليبي بأسره).

* العلاقات بين الصليبيين والمغول:

     بعد أن استتب الأمر في سورية الداخلية, حكم المغولي كتبغا باسم سيده هولاكو, كلاً من الرها وحلب وحمص وحماه ودمشق ونابلس وغزة, وكان حليفه الصليبي بوهيمند السادس على أنطاكية وطرابلس وما يتبعها كالمرقب وحصن الأكراد وأنفة والبترون وجبيل, وكان لأميرة قبرص (بليزانس) أخت بوهيمند السادس, الحماية على قلاع المدن الساحلية كبيروت وعكا ويافا, على أن هذا التحالف ثم التجاور بين المغول والصليبيين لم يكن ليدوم طويلا, فبالرغم من كون كتبغا نفسه مسيحيا, فإن المصالح والكرامات الشخصية لم تتأخر في أن تبرز سافرة بوجه التعاطف الديني, كذلك فإن هذا التجاور نفسه أفسح مجالا رحبا لخلاف لم يلبث أن بدت طلائعه عندما بدا للصليبيين أنهم محاصرون من قبل المغول من كل الجهات, وبالتالي فإنهم أصبحوا تحت رحمتهم ورهن لإرادتهم. وقد خلق هذا الخلاف الفرصة الذهبية التي استفاد منها المماليك الذين كانوا حتى ذلك الوقت يعانون من أزمات حكم وثورات داخلية.

     وقد يلام الصليبيون في هذا الخلاف أو لا يلامون, فإذا نظرنا إلى معاملة المغول لهم كتابعين نجد أنه كان لا بد من إظهار بعض التعنت من قبل زعمائهم اقتداء بالقديس لويس التاسع عندما رفض أن ينصاع لشروط الزعيم المغولي (مونغا) صحيح أنه لم يكن في نية المغول مهاجم مملكة الصليبيين, لكنهم اشترطوا الطاعة والانصياع التامين, مما أغاظ العديد من أمراء الصليبيين, بيد أن عقلاءهم سارعوا إلى اظهار الاستعداد لتجنب إثارة المغول, تقديرا منهم للخطر المملوكي الذي أخذ يلوح في الأفق, ورغم ذلك لم يكن في وسعهم أن يضبطوا مثيري الفتن عندهم. ويعتبر (جوليان) صاحب صيدا والشقيف أشد بارونات الصليبيين تجردا من المسؤولية؛ فإسرافه وتبذيره أجبره على أن يرهن صيدا لدى الداوية الذين اقترض منهم أموالا طائلة, كما أن خشونة طبعه ورطه في خصام مع صهره (فيليبدو مونفور) سيد صور, فقد كان قصير الرؤيا السياسية, إذ اعتبر أن ما نشب من حروب بين المغول والمسلمين هو بمثابة فرصة سانحة تهيأت له كيما يغير من الشقيف على سهل البقاع الخصيب, فكان لا بد أن يصطدم بكتبغا الذي لم يكن ليسمح للمغيرين أن يقوضوا ما أقامه المغول حديثا من نظام, فأرسل ابن أخيه على رأس فرقة لردع المعتدين واسترجاع الأسلاب, لكن جوليان أرسل من كمن له وقتله.

     ولم يسكت كتبغا عن هذه الإهانة الشخصية التي أودت بحياة أقرب المقربين إليه, فطرح ميله للمسيحية جانبا, وأخذ ينذر ويتوعد, ثم أرسل جيشا إلى صيدا وقتل العديد من أهلها ودمر أسوارها وأحرق دورها, ولم ينقذ قلعة البحر منهم إلا سفن جنوية قدمت من صور, ثم تلا ذلك, بعد فترة وجيزة, حادثة أخرى مشابهة وترت الأجواء من جديد بين الفريقين, تمثلت بإغارة (يوحنا الثاني) صاحب بيروت, يعاونه فرسان الداوية وأمراء بيروت وجبيل, على الجليل, وقد لقيت من القوات المغولية معاملة بالغة الشدة.([1])

* العلاقات بين الصليبيين واليهود:

     نظر الصليبيون إلى اليهود كقتلة للسيد المسيح (ع), وعليه فقد اتجهوا نحو اضطهادهم, وذلك كمنهج وسبيل عقائدي لا شك فيه, وهو ما عرف بالشعور (اللاسامي). الأمر الذي يفسر مذابح الصليبيين لليهود أثناء سيطرتهم على الشام.

* العلاقات بين الصليبيين والعرب:

     لم تؤثر الحملة الصليبية الأولى على البلاد من ناحية اللغة, إذ ظل سكان المنطقة يتكلمون العربية, ورغما عن كل شيء فقد كان رد فعل المسلمين بشكل عام؛ أدنى من قيمة الأحداث, فلم تبد حركات المقاومة لسقوط القدس ما يتناسب مع قيمتها, وبمرور الزمن تحللت معنويات المسلمين حتى عدوا الأمر قضاء مقضيا, فبادلوا الصليبيين المعاملة والمتاجرة وتمت بينهم علاقات من المودة والمصاهرة, بل لقد صار الصليبيون عاملا في صراعات المسلمين بعضهم البعض.

     وعندما لمست الطوائف المسيحية والتي تتعلق مصالحها الروحية بالقدس عمق وتأصل موقف المسلمين تجاه مقدسات أهل الكتاب وما يكنونه من احترام للأديان السماوية كلها نراهم وقد عهدوا إلى علماء المسلمين من أهل المدينة بمسئولية الحفاظ على آثارهم المقدسة, وفي مقدمتها كنيسة القيامة حتى يضمنوا بذلك حيدة حقيقية تجنبهم عوائق الخلافات الطائفية المذهبية والتي كثيرا ما انتهت إلى صراعات دموية مؤسفة بينهم. فمنذ عهد صلاح الدين وقد عهد بمفاتيح كنيسة القيامة إلى عائلتين مسلمتين وهما: عائلة نسيبة. وعائلة جودة. ولايزال أحفادهما يحتفظون بهذا الحق إلى الآن فنرى مفاتيح الكنيسة بيد آل جودة, أما فتح أبوابها وإغلاقها فلم يزل شرفا لآل نسيبة.

     وفي جميع الأحوال استمرت القدس على عروبتها وفشل الصليبيون بعد مائتي عام من السيطرة عليها أو انتزاعها من أيدي العرب أو حتى تغيير تركيبتها السكانية أو العرقية أو العقائدية أو حتى اللغوية. هذا كما أنه من الملاحظ أن الصليبيين لم يتنادوا بأن تلك المنطقة المقدسة - مهد المسيح - تحق لهم دون غيرهم.

     كان وراء الحملات الصليبية صراع عقائدي مسيحي من نوع مألوف, فكان كلما ظهر نفوذ لبابا روما في المنطقة طرد بطاركة الأرثوذكس.([2])

 

 

هذا ومن الله التوفيق



[1]
- أحمد حطيط, تاريخ لبنان الوسيط دراسة في مرحلة الصراع المملوكي – الصليبي (658-690هـ/1260-1291م), دار البحار, بيروت, 1986. ص: 27-35

[2]- أحمد كمال شعث, القدس الجريح.. محور الصراع الأبدي, مدبولي, مصر, 1996. ص: 68-81

اجمالي القراءات 15025