القرآن الكريم لغة الحياة ، وما يقوله القرآن عن البشر يتجسد واقعا في حياة الناس ولا تملك إلا أن تقول ، صدق الله العظيم "
( سيجعل الله بعد عسر يسرا )
عمرو بن مسعدة ،هوأشهر كاتب للخليفة المأمون ، وقد توفى فى يوم الأضحى عام 217 . وأحد الرواة فى عهد المأمون . وقد روى هذه الحكاية من تعاملاته فى عصر المأمون . وننقلها عن تاريخ ابن الجوزى ( المنتظم ) لما فيها من واقعية تجعلها قابلة للتصديق وتكرار الحدوث فى اى عصر ، ولأنها تحقق وعد الله جل وعلا بأنه سيجعل ببعد عسر يسرا ، أى يعطى رب العزة أملا لكل مأزوم ومقهور و يائس وعابس ولكل فقير وحسير .
قال عمرو بن مسعدة : ( كنت معالمأمون عند قدومه من بلاد الروم حتى إذا نزل الرقة قال: يا عمرو أو ما ترىالرخجي قد احتوى على الأهوار وجمع الأموال وطمع فيها ، وكتبي تصل إليه في حملها وهويتعلل ويتربص بي الدوائر! فقلت: أنا أكفي أمير المؤمنين هذا وأنقذ من يضطره إلىحمل ما عليه ،فقال: ما يقنعني هذا .قلت: فيأمر أمير المؤمنين بأمره .قال: تخرج إليه بنفسك حتى تصفده بالحديد وتحمله إلى بغداد وتقبضعلى جميع ما في يديه من أموالنا وتنظر في العمل وترتب فيه عمالًا .فقلت: السمع والطاعة .)
أى إن المأمون أمر كاتبه عمرو بن مسعده أن يسافر بنفسه ليحاسب الوالى الرخجى ، وهو حاكم الأهوار باسم المأمون ، وقد جمع ذلك الوالى الأموال وطمع فيها ، ورفض ارسالها ، والمأمون يخشى من تمرده فأرسل ابن مسعدة ليعتقله ويحاسبه على ما جمع من أموال ، ويولى مكانه واليا آخر .
ونتابع عمرو بن مسعدة وهو يحكى كيف أنه فى طريقه راكبا سفينته استغاث به شيخ عجوز قطع اللصوص عليه الطريق وجردوه من كل شىء ، ثم جاءه الفرج واليسر بعد العسر حين صادف سفينة عمرو بن مسعدة . استضافه عمرو فى السفينة ، وفى النقاش بينهما اكتشف عمرو بن مسعدة أن هذا الرجل الرث الهيئة خبير فى الكتابة والسياسة والتعامل مع اجهزة الدواوين ، وأنه هو الذى يريده عمرو بن مسعدة فى مهمته فى التحقيق مع ذلك الوالى الرخجى ، وانتهت القصة بأن إستأجره عمرو بن مسعدة ليقوم بمساعدته فى محاسبة الرخجى ، وأعطاه مكافأة وملابس و ووظيفة ، وحلّ اليسر بهذا الشيخ البائس بعد العسر .
يقول ابن مسعدة :
( فلما كان من الغد دخلت إليه (أى الى المأمون ) فاستعجلني (فى القيام بالمهمة ) فانحدرت (أى أبحرت جنوبا ) في زلال ( أى مركب ) أريد البصرة، واستكثرت من الثلج لشدة الحر ، فلما صرت بين جرايا وجيل ، سمعت صائحًا من الشاطئيصيح: يا ملاح ، فرفعت سجف الزلال فإذا شيخ كبير السن حاسر حافي القدمين خلق القميص.فقلت للغلام: أجبه . فأجابه فقال: يا غلام أنا شيخ كبير السن علىهذه الصورة التي ترى وقد أحرقتني الشمس وكادت تتلفني وأريد جيل (أى أريد الذهاب الى بلدة جيل ) فاحملوني معكم فإنالله يأجركم .فشتمه الملاح وانتهرهفأدركتني عليه رقة ، فقلت للغلام: خذوه معنا. فحملناه . فتقدمت بدفع قميص ومنديل إليه (أى أمر باعطائه قميصا ومنديلا ) فغسل وجهه واستراح . وحضر وقت الغداء. فقلت للغلام: هاته يأكل معنا .فجاء فأكل معنا أكل أديب (أى أكل مثل أهل الجاه والمثقفين ) إلا أن الجوع قد بين عليه (أى ظهر عليه ) فلما أكلت قلت:يا شيخ أي شيء صناعتك ؟ قال: حائك. فتناومت عليه ( أى تصنع النوم )ومددت رجلي ( أى دليلا على عدم الاحترام له ) .فقال (الرجل ) : وأنت أعزك الله أي شيء صناعتك ؟ فأكبرت ذلك ، وقلت: أنا جنيتعلى نفسي ! أتراه لا يرى زلالي وغلماني ونعمتي وأن مثلي لا يقال له هذا ؟! ثم قلت: ليسإلا الزهد بهذا(أى عدم الاهتمام به ) فقلت: كاتب. فقال لي: أصلحك الله ! إن الكتاب خمسة.. فأيهم أنت ؟ فسمعت كلمة أكبرتها، وكنت متكئًا فجلست ، ثم قلت: فصّل الخمسة (أى أوضح أصناف الكتّاب الخمسة ) .قال: نعم . كاتب خراج: يحتاج أن يكون عالمًا بالشروط والطسوقوالحساب والمساحة والبثوق والفتوق والرتوق، وكاتب أحكام: يحتاج أن يكون عالمًا بالحلال والحرام والاختلافوالأصول والفروع .وكاتب معونة( شرطة وبوليس ) : يحتاج أن يكون عالمًا بالقصاص والحدود والجراحات .وكاتب جيش: يحتاج أن يكون عالمًا بحلي الرجال وسمات الدوابومداراة الأولياء وشيء من العلم بالنسب والحساب .وكاتب رسائل: يحتاج أن يكون عالمًا بالصدور والفصول والإطالةوالإيجاز وحسن الخط والبلاغة .قلت له: فإني كاتب رسائل: فقال: أصلحك الله لو أن رجلًا منإخوانك تزوجت أمه وأردت أن تكاتبه مهنئًا له كيف تكاتبه ؟ ففكرت في الحال فلم يخطرببالي شيء ، فقلت: اعفني .فقال: قد فعلت .فقلت: ما أرى للتهنئة وجهًا . قال: فتكتب إليه تعزية .ففكرت فلميخطر ببالي أيضًا شيء . فقلت: اعفني .قال: قد فعلت ولكن لست بكاتب رسائل .قلت: فأنا كاتب خراج .قال: لو أن أمير المؤمنين ولاك ناحية وأمرك فيها بالعدل واستيفاءحق السلطان فتظّلم بعضهم من مساحتك وأحضرتهم للنظر بينهم وبين رعيتك فحلف المساحبالله لقد أنصفوا وحلفت الرعية بالله لقد ظلموا فقالت الرعية: قف معنا على مسحهفخرجت لتقف فوقفوك على قراح كذا وكذا - لشيء وصفه - كيف تكتب قلت: لا أدري قال:فلست بكاتب خراج . فما زال يذكر في حق كل كاتب حاله فلا أعلمها إلى أن قلت: فاشرحأنت فشرح الكل . فقلت: يا شيخ أليس زعمت أنك حائك .فقال: أنا حائك كلام ، وأنشد :
ما مر بي شر ولا نعيم إلا ولي فيهمانصيب
قد ذقت حلوًا وذقت مرًا كذاك عيسى الفتى ضروب
نوائب الدهر أدبتني وإنما يوعظالأديب
فقلت: فما الذي أرى بك من سوء الحال فقال: أنا رجل دامت عطلتي فخرجتأطلب البصرة فقطع علي الطريق فتركت كما ترى، (أى تركوه على الحال السىء الذى شوهد عليه ) فمشيت على وجهي فلما رأيت الزلال استغثتبك .قلت: فإني قد خرجت إلى تصرف جليل أحتاج فيه إلى جماعة مثلك وقدأمرت لك عاجلًا بخلعة حسنة ( ثيابا حسنة ) ىوخمسة آلاف درهم تصلح بها من أمرك وتنفذ منها إلى عيالكوتصير معي إلى عملي فأوليك أجله .قال: أحسن الله جزاك إذًا تجدني بحيث ما يسرك.
فانحدر(أى ركب ) معي فجعلتهالمناظر للرخجي (أى الذى يحقق مع الوالى الرخجى ) والمحاسب له فقام بذلك أحسن قيام فحسنت حاله معي وعادت نعمته .)
|