بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تنقسم الأمة بشكل عام إلى قسمين رئيسيين: قائل يقول سنتي وقائل يقول عترتي, ثم هم طوائف ومذاهب مختلفة داخل كل طائفة وكل مذهب جماعات مختلفة, كل جماعة تدعي أنها الحق وأنها الناجية وما عداها باطل هالك؛ وعن هذه الحالة المتردية يقول سبحانه وتعالى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونٍ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54)}[المؤمنون] أي دعهم مغمورين في تعصبهم لأحزابهم ومذاهبهم وكتبهم التي يفرحون بها, فالكل يعتبر كتبه صحاح وما عداها زور وبهتان.
العجيب أن هذه الجماعة تقول: قال ﴿صلى الله عليه وسلم﴾ وثانية تقول: قال ﴿صلى الله عليه وآله وسلم﴾ وثالثة تقول: روي عنه ﴿صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم﴾ وهكذا إلى مالا نهاية؛ لكن الله جل وعلا يبرئ نبيه الكريم من أولئك الذين يتشدقون في الدين باسمه, وفي ذلك يقول سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159)}[الأنعام] بل إن الله يعتبرهم مشركين, ونهانا أن نكون منهم, إذ قال سبحانه: {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)}[الروم].
وقد سطّر القرآن الكريم براءة الرسول منهم, وشكواه يوم القيامة لرب العالمين بقوله: {يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30)}[الفرقان] والملاحظ أن الرسول لم يقل: ﴿يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن وعترتي مهجورين﴾ ولم يقل: ﴿يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن وسنتي مهجورين﴾ فالرسول نفسه كان متبعاً للوحي القرآني, ينذر ويذكر ويبشر ويجاهد بالقرآن الكريم لا غير؛ وفي ذلك يقول سبحانه: {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ (45)}[الأنبياء] .. {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ (9)}[الأحقاف] .. {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ (19)}[الأنعام] .. {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ (45)}[ق] .. {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ (97)}[مريم] .. {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)}[الفرقان].
القضية إذن واضحة لا تقبل الجدل, وهي اتباع القرآن العظيم دون غيره, وفي ذلك يقول سبحانه: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3)}[الأعراف] فاتخاذ كتب أخرى مع القرآن الكريم, والتعصب لمن كتبها, معناه وضعهم في موضع المقارنة بالله جل وعلا, أي اتخاذ أولياء مع الله؛ وقوله تعالى: ﴿قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ﴾ يوضح حقيقة إنسانية ثابتة, وهي أن أكثر البشر يتبعون الأهواء والضلالات.
فمن عادات البشر السيئة أنهم قليلاً ما يؤمنون وقليلاً ما يتذكرون, وفي ذلك يقول سبحانه: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43)}[الحاقة] والمساكين يتحججون دائما: بأن أكثر الناس - قديما وحديثا - لا يعترفون بالقرآن العظيم إلا ومعه كتب بشرية أخرى؛ تكمله وتشرحه وتفصّله حسب زعمهم؛ ويردّ عليهم رب العزة بأن الأغلبية دائما ضالة مضلّة, ولو اتبعها النبي نفسه لأضلته عن سبيل الله، جاء ذلك في قوله تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ (116)}[الأنعام].
للأسف الشديد تجاهلت الأمة قوله تعالى:
{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا (103)}[آل عمران] .. {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)}[آل عمران] .. {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)}[الأنعام] فقد أوصانا الحكيم الخبير: باتباع القرآن الكريم, حبله وصراطه المستقيم, ونهانا عن اتباع غيره, حتى لا نقع في التفرق والاختلاف.
ولكن حدث ما حذر منه سبحانه, فاخترع الناس أحاديث وروايات, ونسبوها للنبي, واختلفوا في أسانيدها، وقام ما يسمى ﴿علم الحديث﴾ بتنقيح تلك الروايات والأسانيد, وفقاً لأهواء المنقحين وبما يتناسب مع مصالحهم؛ وقوله تعالى: ﴿وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ﴾ أي لا تتبعوا الطرق, ومن العجيب أن علماء الحديث, يقيمون تلك الأسانيد والروايات على سلاسل وطرق, فيقولون أن هذا الحديث من السلسلة الفلانية, وتلك الرواية جاءت عن طريق فلان, أي أنهم حين تنكبوا الصراط المستقيم ونبذوه وراء ظهورهم, وقعوا في اتباع السبل والطرق التي أوقعت الأمة في تفرق واختلاف لا ينتهي.
هذا التفرق والاختلاف هو سبب شقاء الأمة وضياعها, وسوء حالها بين الأمم, فتجاهل توجيهات الله ومخالفتها والاعراض عنها, يمثل إعلان حرب على الله جل وعلا, حرب لابد أن تقابل بالعقاب الإلهي؛ وانظروا حولكم, لتروا هذا العقاب يحل بهذه الأمة وحدها, رغم ثرائها وكثرتها, هذا الغضب الإلهي سببه الفساد العقيدي والسلوكي, من الشرك والظلم إلى انتشار الفواحش, مع رفع راية الالتزام بتطبيق الشريعة؛ وبينما ينعم العالم بالمدنية والديمقراطية والعلمانية وحقوق الإنسان وحقوق الحيوان.. الخ, فإن هذه الأمة لا تزال تعاني من الأمراض والأوبئة, والمصائب والظلم والجهل والفقر, هذا مع أن الهدي القرآني بين يديها, يوضح لها الطريق.
بالديمقراطية العلمانية وثقافة حقوق الإنسان:
كسب الغرب الدنيا وتمتع أبنائه بنعيمها, أما هذه الأمة فهي في قهر أديانها الأرضية (المذاهب) تعيش في ظل الاستبداد والفساد, وشقاء الأقلية المترفة, بما تكدّس لديها من أموال, وصراعها الدامي فيما بينها على السلطة، وشقاء الأغلبية في فقرها وجوعها, وكونها مجال التحكم للمترفين, وضحايا حروبهم ووقود نيرانها, أي أن هذه الأمة فقدت الدنيا مقارنة بالغرب، وفقدت أيضا مثله الآخرة, وهذا الخسران العظيم, لأنها تشدقت بالدين, وأرادت الدنيا, وكفرت بالآخرة, فما أغنت عنها دنياها, ولن تفلح في آخرتها, فهل هناك أمل في أن نرجع لكتاب الله جل وعلا ؟ لعل .. وعسى.
نحن بحمد الله - الذي لا يحمد على مكروه سواه - أصبحنا أذل الأمم وأضعفها وأضيعها, نتمتع بإذلال حكامنا الظالمون لنا، ويتمتع حكامنا بإذلال الغرب لهم، أصبحنا آفة العالم وشر أمة أخرجت للناس؛ فنشرة الأخبار العالمية تتزين دائما بأخبارنا السوداء, قتلى وضحايا وقتلة ومجرمون؛ تظهر فينا بكل صدق لعنة الله تعالى علينا, أو عذابه الأدنى فينا، ثم ينتظرنا العذاب الأليم في الآخرة, إن لم نتب وننبذ أكاذيب التراث الضالة, ونرجع للقرآن الكريم بإخلاص.
صحيح أن التقدم العلمي المستورد من الخارج, والمساعدات التي تأتي من هنا وهناك, أفلحت في الحد من خطورة بعض الأوبئة والأمراض المتوطنة, ولكن أخطر تلك الأمراض لا يزال يلتهم أبناء هذه الأمة، ليس بالموت السريع المريح, ولكن بالموت البطيء المؤلم المخيف, إنه مرض الاستبداد والفساد, وهو المرض المسؤول عن خسارة هذه الأمة لدنياها وآخرتها معا؛ فعلى هامش الاستبداد والفساد, نشأت المذاهب وكُتبت كُتب التاريخ والتفاسير والسير والفقه وغيرها؛ لتشرعن الظلم والقتل والغزو, والسبي والخنوع للحاكم الظالم, ولتنشر ثقافة العبيد.. فهل بعد ذلك من خسران ؟
إن اخطر ما نقع فيه:
هو أننا نخلط الدين الإلهي (المقدس) بالفكر البشري (المدنس) فنجعل لفكر البشر قداسة, ونجعل لأصحابه عصمة وتأليها، والخطورة هنا تقع على الإسلام نفسه؛ إذ يحمل أوزار الناس, فيصبح محصورا في زمان بعينه وثقافة بعينها, ومن ثم لا يكون صالحا لكل زمان ومكان؛ الله مالك الدين, وهو الذي جعل لهذا الدين يوما, أسماه يوم الدين، وهو الذي أرسل الرسل بالكتب السماوية, التي تعبر عن دينه, والتي على أساسها سيحاسبنا يوم الدين.
وهذا الدين ينزل كتابا سماويا, لا يمكن أن يكون مؤلفه من البشر, لأنه وحي إلهي, وعليه فإن التمسك به أو الابتعاد عنه مسئولية شخصية, والحساب عليه لله تعالى وحده يوم الدين؛ فالإسلام يقوم على الحرية الدينية, ومسئولية النفس البشرية عن اختيارها، فإن تطهرت وتزكّت فلها، وإن اختارت الفجور والعصيان فعليها؛ ولا تتحمل نفس وزر أخرى، ولا تجزي نفس عن أخرى، وبالتالي فليس في العبادات استنابة, ولا يجوز مثلاً: أن يحج أو يصوم شخص عن شخص آخر.
وللناس عادة سيئة مع كُتب الله جل وعلا, فلا يحاولون تدبر آياتها, بل يقرؤونها باللسان فقط، وبالتعود تفقد آيات الوحي مدلولها, وتصبح مجرد كلمات منظومة, يتغنى بها المنشدون في الحفلات العامة ومناسبات العزاء؛ ومن هنا تقوم الفجوة بين الدين السماوي وبين ما يفعله الناس, فيقوم الكهنة بتغطية تلك الفجوة, باختراع نصوص بشرية تتناسب مع أهواء الناس, ويجعلون لها قدسية ومرجعية زائفة بنسبتها لله تعالى أو للنبي, وبذلك يتحول الفكر البشري إلى دين, وهذا ما فعله الشيعة والسنة والصوفية وغيرهم, فجميعهم نهلوا من نفس مستنقع الرجس المسمى أحاديث.
ولكن تبقى الحقيقة الثابتة, في أن الدين هو كلام الله جل وعلا, في كتبه السماوية؛ ويبقى الواقع التاريخي والإنساني, في أن الفكر البشري هو كلام إنساني, له مؤلفون من الأئمة ويقبل الخطأ والصواب، وأن أولئك الأئمة لا يملكون شيئاً يوم الدين, وأن الله تعالى صاحب الدين, سيحاسبهم كما سيحاسب سائر الناس, لأنهم ليسوا أصحاب الدين, وإنما أصحاب مذاهب فكرية بشرية؛ لذا فإن المذاهب تقوم بترسيخ مفهوم الاجتهاد, وتجعل من مهام العلماء (تجلية حقائق الإسلام) أي أنها تعترف ضمنيا, بأن هناك حقائق إسلامية تم إخفاؤها وتجاهلها والتعمية عليها، وأن هناك أباطيل تحولت بالسكوت عنها وعدم مناقشتها إلى حقائق مقدسة.
والجدير بالذكر أن للإسلام معنيين:
إسلام قلبي عقيدي بمعنى (إسلام القلب لله جل وعلا) وهو أمر خاص بعلاقة كل فرد مع الله جل وعلا مباشرة, وليس لأحد أن يتدخل في هذه العلاقة؛ وهناك إسلام سلوكي بمعنى (السلام) وهو أمر خاص بعلاقة الفرد مع الناس, وبهذا المعنى فكل إنسان مسالم فهو مسلم, بغض النظر عن عقيدته, وللناس هنا الحق في الحكم على أي إنسان طبقا لسلوكه, هل هو مسالم أم معتدي مجرم.
وكذلك للإيمان معنيين: إيمان قلبي عقيدي بمعنى الإعتقاد (آمن بـ أي إعتقد) وهناك إيمان سلوكي بمعنى الأمن والأمان (أمن لـ أي وثق) ما يهمنا كبشر هو الإيمان السلوكي, بمعنى هل هذا الإنسان مأمون الجانب ويمكن الوثوق به أم لا ؟ أما ما يخص الإيمان القلبي فلا يعلم حقيقته إلا الله جل وعلا.
وللكفر والشرك أيضاً معنيين: في التعامل مع الله جل وعلا, هو تغطية الفطرة السليمة, بالإعتقاد في شريك مع الله جل وعلا, أو اتخاذ أولياء وأنداد وحبها كحب الله، وهذه ناحية يرجع الحكم فيها لله تعالى, لأن كل واحد يرى نفسه على الحق ومخالفيه على الباطل؛ الذي يهمنا هو الكفر والشرك السلوكي, وهو الإعتداء والظلم, الذي يقع من إنسان على أخيه الإنسان؛ وللناس هنا حق التدخل, بالمنع والمواجهة والمقاومة, ومحاسبة الواقع فيه حفظا لحقوق الإنسان.
وعليه فهناك فرق بين دين الإسلام وبين تدين الناس:
دين الإسلام هو الإستسلام والإنقياد والخضوع لله وحده لا شريك له, من خلال كتبه السماوية, والتمسك بالقيم الأخلاقية العليا, من العدل والرحمة والسلام والتسامح مع الناس؛ أو باختصار: إيمان حقيقي بالله تعالى, وعمل صالح يشمل عبادة الله تعالى وحده, وحسن التعامل مع الناس؛ أو باختصار أكثر: هو تزكية النفس بالعقيدة الصحيحة والسلوك القويم؛ أما ما يخص التدين أو موقف الناس من دين الله جل وعلا فأمر آخر.
فالتدين صناعة بشرية تحمل ملامح البشر - ضعفهم وطموحهم وغرائزهم وفضائلهم وسيئاتهم وحسناتهم.. الخ, وهذه الصناعة تشمل السلوك والأفكار، ومن الطبيعي أن يتأثر تدين الناس, بظروفهم الإجتماعية والنفسية والجغرافية والتاريخية، فيكتسب التدين السلوكي والفكري, الطابع السائد لدى كل أمة, ولذلك يختلف التدين من منطقة إلى أخرى؛ وقد لا يكون في ذلك مشكلة, طالما نعتبر ذلك التدين فكراً بشريا, ولكن تأتي المشكلة حين نضفي لذلك الفكر البشري قدسية إلهية, بأن ننسبه لله جل وعلا وللرسول.
الخطورة هنا أن التدين البشري الأرضي, يكتسب قدسية الدين الإلهي السماوي نفسه, عبر تلك النسبة المزيفة لله تعالى ولرسوله, وهنا يصبح النقاش حوله - إذا ساد واستحكم - مرفوضا وموصوما بالكفر والعصيان، بل ويصبح أئمة ذلك التدين الأرضي, آلهة أو أنصاف آلهة, لا يستطيع أن يقترب منها أحد, إلا بالتقديس والتبجيل, وذلك ما يحدث فعلا في التعامل مثلا مع: البخاري عند أهل السنة, وجعفر بن محمد عند الشيعة، والغزالي عند الصوفية.
ولكن العامل الأساسي في التدين:
هو السياسة ومؤسساتها الدينية, التي تقوم بإخضاع الدين لرغبات الحاكم, أو المؤسسات الدينية البديلة الطامعة في الحكم, والتي تسوغ الخروج على الحاكم, حيث كان ولا يزال فقهاء الدين الأرضي, يتنافسون في خدمة المستبدين والظالمين؛ ومن هنا نجد تراثنا الديني يعج بالتناقضات, التي تعبر عن الحاكم والمحكوم والثائر والحاكم الطاغي, وعن ذلك التراث المخالف للقرآن الكريم, والذي يجد فيه المعرضون عن القرآن, ما يتخيرون من الأحكام المتناقضة, يقول سبحانه وتعالى: {أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38)}[القلم].
هذه المشكلة الخطيرة, كانت طبيعية لدى أبناء العصور الوسطى - ولا زالت في المجتمعات المتخلفة - حيث يسود الإحتراف الديني, ويتم تغليف جميع الأنشطة البشرية, بالتدين الأرضي السائد، حيث تبحث جميع التعاملات الإجتماعية عن فتاوى دينية في كل تفصيلاتها؛ ومن الطبيعي هنا أن يتعاظم دور محترفي التدين الأرضي من: السحرة والرهبان والأحبار, إلى الأئمة والمحدثين والمشعوذين، وفي النهاية يتقبل المجتمع إحدى العادات الإجتماعية الدينية, خصوصا إذا كانت تحقق له فائدة ما, أو لإحدى عناصره القوية.
وعموما فهناك نوعان من الوحي:
وحي الله جل وعلا لأنبيائه ورسله، ووحي نقيض ضال, هو وحي الشيطان لاتباعه, وحي يضلّ الناس ويوقع بينهم الفرقة والشقاق والبغضاء؛ والله جل وعلا يقول عن القرآن الكريم, أنه لم تتنزل به الشياطين: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212)}[الشعراء] ثم يقول جل وعلا أن للشياطين وحيا آخر, تتنزل به على اتباعها من الأّفّاكين الزاعمين كذبا, أنه وحي إلهي يأتيهم من السماء: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223)}[الشعراء] يأتي الوحي الشيطاني منمقاً مزخرفاً يغرّ المستمع ويخدعه, خصوصاً وهو غير منسوب لمصدره الأصلي وهو الشيطان, نفهم ذلك من قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)}[الأنعام].
والملاحظ أن الأحاديث والروايات, التي تنزلت بها شياطين الجن, وكتبها شياطين الإنس, تحمل اسماء براقة ومزخرفة, فيسمونها (السنة) ويرصعونها بكلمات براقة مثل: الصحاح, ومتواتر, ومتفق عليه, وحسن صحيح, وصححه الياباني.. الخ, بل ويجعلونها وحيا إلهيا مثل الوحي القرآني, بل ويجعلونها تبطل وتلغي أحكام القرآن العظيم، بل ويتطرف بعضهم ويجعل تلك المجاميع الحديثية, حاكمة على القرآن الحكيم؛ والسبب هو (الشيطان) أستاذهم واللاعب الحقيقي في الميدان, والمصدر الأساس للوحي المزعوم, الذي يريد أن يطغى على الوحي الإلهي: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)}[البقرة].
والوحي الشيطاني نوعان:
نوع بإسناد كاذب لله وللنبي, عبر سلسلة مضحكة من العنعنات, لعدة أجيال من الرواة الموتى, الذين لا علم لهم بما أسنده أئمة الزور إليهم, وقد تخصص في ذلك شياطين السّنة والشيعة, فيما يعرف بالحديث القدسي والحديث النبوي؛ أما النوع الثاني, فقد تخفف فيه شياطين الصوفية من عبء الإسناد للغير، فافتروا الوحي المباشر عن الله تعالى, فيما يعرف بالهاتف والمنام, والعلم اللدني, والزعم برؤية الله جل وعلا أو الرسول في المنام واليقظة؛ ونتيجة لذلك الطوفان الهائل من الافتراء, ينخدع أكثر البشر, فيتقلبون بين الشك والتصديق والتكذيب, ويحدث الاختلاف.
تشرع الشياطين في وحيها كل ما يرضي الناس, بل وتزيف حقائق اليوم الآخر, فتجعله سوقاً رائجة للشفاعات والوساطات, كي يستمر الناس في العصيان, على أمل أنهم سيدخلون الجنة بالشفاعات البشرية, لذلك يصغي إليه من لا يؤمنون بالآخرة, من مدمني المعاصي والمتصارعين حول حطام الدنيا، فيرتضونه دستورا لحياتهم, يرتكبون به الفسق والعصيان, نفهم ذلك من قوله تعالى: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)}[الأنعام] خطورة هذا الاعتقاد, أنه ليس فقط إهانة لله تعالى, وتكذيبا لمئات الآيات القرآنية التي تنفي الشفاعة, وافتراءا وكذبا على خاتم النبيين، بل هو أيضا إفساد لأخلاق البشر.
وهكذا نجد أن الأحاديث تقف دائما, وراء كل موبقات أبناء هذه الأمة, كما أنها تنتشر وتسود, حيث يسود الجهل والاستبداد, ومن ينكرها - مثلنا - يكون عندهم زنديق حلال الدم, بتهمة إنكار السّنة؛ وعليه فلا يمكن تأسيس مجتمع نظيف أخلاقيا وراق حضاريا, طالما تسود فيه تلك الأحاديث الشيطانية, فطالما سيدخلون الجنة بالشفاعات, مهما فعلوا من جرائم وموبقات, لماذا يتقون الله تعالى إذن؟ ولماذا يتعبون أنفسهم بالترقي الخلقي والتهذيب السلوكي؟
والعقائد والأديان على اختلافها تنقسم إلى قسمين:
دين سماوي شرعه الله جل وعلا لخلقه, وهو الإسلام الذي جاء به الرسل والأنبياء, نفهم ذلك من قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ (19)}[آل عمران]..{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)}[آل عمران] وهناك دين أرضي شرعه الشيطان لاتباعه, وهو الشرك أو الكفر الذي جاء به المحدثين والفقهاء.
ودين الله أسبق في الوجود, فقد فطر الله الناس على أن يسلموا له وحده, وفي ذلك يقول سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172)}[الأعراف]..{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)}[الروم].
والصراع بين عقيدتي الإسلام والشرك, مستمر في التاريخ الإنساني, ولكل عقيدة جولة؛ كان آدم رسولا لأولاده وتلاه جميع الأنبياء يقولون نفس العقيدة (لا إله إلا الله) نفهم ذلك من قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)}[الأنبياء] فبعد أن اختلف واشرك أبناء آدم, بعث الله نبيه نوح, ليبين للناس ما اختلفوا فيه, وقد تحمل الأذى حتى انتصر في النهاية, ومعه قلة مؤمنة نجاها الله من الطوفان.
وتدور الأيام ويعود الشرك إلى قلوب الأحفاد من الذرية, ويحدث الاختلاف, فيرسل الله رسولا آخر وهو هود, ليقوم بنفس المهمة, ويلقى نفس الأذى, فيصمد وهو يُذّكر قومه بما حدث للأسلاف: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ (69)}[الأعراف] ويهلك الله قوم عاد, وينجي هود والذين آمنوا، وتدور الأيام فيكفر ويختلف الأحفاد، ويأتي منهم نبي جديد وهو صالح, الذي قال لقومه: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ (74)}[الأعراف].
وهكذا تستمر قصة الصراع بين العقيدتين، ينتصر الرسول ثم يعود الاختلاف والشرك بعده, متخفيا تحت دعاوى شتى, منها حب الرسول نفسه وحب أصحابه وأقاربه، ثم يتحول الحب إلى تقديس, والتقديس إلى عبادة, فيبعث الله رسول جديد, تتكرر معه نفس القصة, ثم جاء الخليل إبراهيم, ثم جاء محمد خاتما للنبيين بمعجزته الوحيدة, وهي (القرآن العظيم) الذي فصّل كل ملامح الشرك ورد عليها.
وقد حفظ الله هذا القرآن ليكون حجة على البشر إلى يوم القيامة، خصوصا أولئك الذين كرروا مسيرة الإنحراف والقرآن بين أيديهم, يؤولون آياته ويخترعون مناهج أخرى, لأديان أرضية ما أنزل الله بها من سلطا؛ ومخطئ من يعتقد أن قصة الصراع بين الإسلام والشرك انتهت بإنتصار خاتم النبيين، فقد استمرت محاولات العقائد الشركية القديمة للظهور تحت شعار الإسلام، ثم ما لبثت أن انتصرت عليه وانتزعت منه الساحة, ليصبح المتمسكون بالإسلام الحقيقي قلائل يعانون الإضطهاد، مثلما حدث للقلة المؤمنة في مكة وقت نزول القرآن.
وعليه فالإسلام ليس ديناً جديدا ولد مع نبوة السيد محمد بن عبدالله:
وخاتم النبيين (محمد) ليس بدعا من الرسل, وليس منشئا لدين جديد, فما هو في الحقيقة إلا متبع لملة إبراهيم الحنيف, التي نزل القرآن ليعيد أصولها, ويصحح ما لحقها من تحريف, والتحريف لا يعني التغيير الكامل أو التبديل التام, وإنما يعني وجود أباطيل تداخلت مع الحقائق؛ ومن الأخطاء الكبرى أن يعتقد الناس, أن خاتم النبيين جاء بدين جديد, أو أنه كان بدعا بين الرسل, وقد أمره رب العزة أن يعلن أنه ليس متميزا عن الرسل السابقين: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ (9)}[الأحقاف] وأمره أيضاً أن يقتد بالهدي الذي جاء به من سبقه من الأنبياء, فبعد أن قص سبحانه وتعالى قصة هداية إبراهيم وذريته, قال لخاتم النبيين: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ (90)}[الأنعام].
وفي عبارة قرآنية غاية في الايجاز والإعجاز والإحكام, يقول سبحانه وتعالى مخاطبا خاتم النبيين: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ (43)}[فصلت] والذي قيل ويقال لهم نوعان: وحي برسالة سماوية من الله جل وعلا، وتكذيب واتهامات من المشركين؛ فالوحي واحد لهم جميعا, نفهم ذلك من قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ (163)}[النساء] والتشريع واحد لهم جميعا في أساسياته، وهو إقامة الدين الحق عقيديا وسلوكيا، وعدم التفرق إلى مذاهب وطوائف وأديان أرضية، جاء ذلك في قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ (13)}[الشورى].
ويشمل هذا الوحي الواحد كل التفصيلات الأساسية الخاصة بالعقيدة, مثل شهادة الإسلام (لا إله إلّا الله) وعبادة رب العزّة وحده, نفهم ذلك من قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)}[الأنبياء] والتحذير لكل الأنبياء من الوقوع في الشرك, حتى لا يحبط عملهم ويضيع, جاء ذلك في قوله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65)}[الزمر] كل ذلك الوحي المشترك, جاء لكل نبي بلسان قومه, نفهم ذلك من قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ (4)}[إبراهيم] إلى أن جاء القرآن الكريم {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)}[الشعراء].
نزل عليه الوحي يأمره باتباع ملة أبيه إبراهيم, بل ويأمره بأن يعلن ذلك لقومه وللعالم: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)}[الأنعام] وبهذه الكلمات الموجزة البليغة, شرحت لنا الآيات السابقة معنى إخلاص العقيدة في ملة إبراهيم, بأن تكون صلاتنا ونسكنا بل وحياتنا ومماتنا لله وحده لا شريك له.
إذن أصبح خاتم النبيين:
إماما للمسلمين في اتباع ملة أبيه إبراهيم, وداعية للعالم كله لاتباعها, نفهم ذلك من قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)}[النساء] وإذا كانت بعض الأمم السابقة في المنطقة, قد فنيت ولم يعد لها بقاء, فقد بقيت أمم أخرى تكاثرت وانتشرت في كل أنحاء العالم, ومنها في الشرق الأوسط ذرية الخليل (إبراهيم) وهو أبو الأنبياء وأبو شعبين هما: بنو إسرائيل وبنو إسماعيل (العرب المستعربة) وفيهما توارثت الذرية ملة أبيها إبراهيم؛ والملة هي طريقة العبادة من صلاة وصوم وصدقة وحج وتلاوة للكتب الإلهية.. الخ.
ولكن تمسك أغلب الخلف, بالحركات والتدين السطحي الظاهري المرائي, دون إخلاص الدين لله تعالى وحده, فتحولت الطاعة إلى عصيان؛ ولذلك تعاقب الأنبياء في بني إسرائيل, كلهم يدعون إلى العودة إلى الأصل المضيء لملة إبراهيم, التي تعني إخلاص العقيدة لله تعالى وحده وطهارة السلوك, أو بمعنى آخر إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة؛ ثم جاء خاتم النبيين جميعا من ذرية إسماعيل رسولا للعالمين, ينادي بنفس المهمة, وهي اتباع ملة إبراهيم؛ وباختصار شديد فإن الرسالة الخاتمة, ما هي إلا دعوة لإصلاح الدين الأصلي, الذي جاء به الخليل إبراهيم وهو الإسلام.
وقد تمسك العرب بطريقة العبادة المتوارثة وأشكالها, من حج وصيام وصلاة - ركوعا وسجودا ومواقيت - وغيرها من العبادات, ولكن وقعوا في الشرك وأدمنوا البغي والعصيان, وظنوا كما نظن الآن, أن مجرد الأداء الشكلي يكفي, وتناسوا كما نتناسى نحن أيضا, معنى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة؛ مشركي قريش كانوا يؤمنون بالله جل وعلا, ويؤدون الصلاة والحج, ويحافظون أكثر من مشركي اليوم على حُرمة الأشهر الحرم, ولم يرتكبوا مذابح كالتي يفعلها مشركي اليوم؛ أي أن جاهلية العرب قبل ووقت نزول القرآن, كانت أهون من جاهلية عرب اليوم.
نزل القرآن الكريم بدعوته الإصلاحية:
لا يركز على إيجابيات المشركين مثل: إيمانهم بالله جل وعلا, وحجهم للكعبة, وتأديتهم الصلاة وغيرها, ولكن ركّز على توضيح العيوب, وتوصيف المرض سبيلا للعلاج, فركز على: كفرهم العقيدي باتخاذهم أولياء (آلهة) يحبونهم كحب الله، وبحجّهم إلى قبورهم, وتقديم القرابين المذبوحة لضيوفها, لتقربهم إلى الله زلفى, كما ركّز على كفرهم السلوكي بالاعتداء والظلم, وتوالى وصفهم بـ: الذين كفروا والذين أشركوا والكافرين والمشركين والظالمين والفاسقين, وأنكر صلاتهم التي لم تنههم عن الفحشاء والمنكر, ووصفها بأنها مكاء وتصدية (حركات بلهاء) .. الخ؛ كان الجاهليون يعبدون الله ويعبدون معه الأولياء الموتى, من خلال تعظيم قبورهم (الأنصاب) وتماثيلهم (الأصنام) وكل ما يمتّ إليهم (الأوثان).
ومما يلفت النظر أن معظم تشريعات القرآن الكريم, لم تأت في سياق موضوعي واحد, أو في سياق زماني واحد، وإنما تناثرت بين السور, في إيجاز أحيانا وفي تفصيل أحيانا أخرى, ولو كان القرآن الحكيم نزل بشريعة جديدة, ليست معروفة من قبل, لكان منتظرا منه أن تأتي تشريعاته منتظمة في سياق موضوعي وزمني واحد, إلا أن القرآن الكريم نزل على قوم يعرفون ملة إبراهيم, ومنهم من كان يقرأ صحف إبراهيم وموسى, التي كانت معروفة ومتداولة حتى عصر خاتم النبيين, والكثير من آيات تلك الصحف, جاء ضمن آيات القرآن الكريم, ومنها سورة الفاتحة, وقد اتخذها رب العزة حجة على المشركين, فقال عنها: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37)}[النجم].
كانوا يقرءون صحف إبراهيم وموسى, ولكن طال عليهم الأمد فقست قلوبهم, فبدلوا وحرفوا واختلطت حياتهم الدينية بأصول حقيقية من ملة إبراهيم, مع تحريفات قديمة وأخرى حديثة؛ ونتيجة لذلك اختلط التطبيق الصحيح بالتطبيق الفاسد، فنزل القرآن الحكيم يقر الصحيح, ويعالج ما تم تحريفه قديما, وما استجد تحريفه, وما تم نسيانه, وما يساء تطبيقه, وهذا هو منهج القرآن في تصحيح ملة إبراهيم؛ ثم إذا نزل تشريع قرآني جديد لما استحدثته الظروف,فإنه ينزل مفصلاً واضحاً مبيناً من جميع النواحي؛ ثم لأنه تعالى يعلم ما سيكون من خلل في المستقبل, فإن تفصيلات القرآن تحوي الرد على كل ما سيطرى من تحريف, ولا يستلزم فهم الأمر إلا التدبر في كتاب الله الحكيم.
وتمت كلمة الله جل وعلا:
بتمام القرآن العظيم ولا مبدل لكلماته, وفي ذلك يقول سبحانه وتعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)}[الأنعام] واكتمل الدين بقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا (3)}[المائدة] إذن تمت نعمة الله تعالى علينا بالإسلام, وبالتالي فأي شيء يضاف إلى الإسلام المكتمل, فهو ليس جزءا من الإسلام, بل منسوب لمن قاله خيرا وشرا؛ لأنه إن كان ضمن ما قرره القرآن المبين فلا يعد إضافة, لأنه موجود من قبل, ولا حاجة بنا إليه لأن لدينا الأصل، وإن كانت تلك الإضافة مخالفة لما قرره القرآن, فهي مرفوضة من حيث المبدأ لأنها مخالفة، وكل ما فعلته وتفعله الأمة, لا صلة له بالإسلام, بل هو منسوب لمن قام به.
فالأمة حين جرفتها السياسة باعدت بينها وبين قرآنها، والعادة أن السياسة إذا تدخلت في الفكر أفسدته وأفسدت أصحابه, والمعروف أن الخلافات بين الصحابة بدأت سياسية, ووصلت إلى التقاتل بين علي بن أبي طالب وخصومه, فنشأ التشيع ثم الخوارج, وتتابعت الفرق والطوائف, وتحول الخلاف السياسي الحربي إلى شقاق ديني، وتفرع الخلاف وتشعب داخل كل طائفة, من سنّة وشيعة وصوفية، إلى مذاهب سنية وفرق شيعية وطرق صوفية، وداخل كل فرقة وطائفة ومذهب عشرات التقسيمات وآلاف الاختلافات, وبعدكل هذه الاختلافات, فإنّ من المضحك في عصرنا, أن ينبح فقهاء الجهل والتخلف, بالثوابت وإجماع الأمة والاقتداء بالسلف الطالح, فيزعمون أن الأمة قد أجمعت على كذا وكذا, مع أن الأمة لم تجمع إلا على الزيغ والضلال .. والمغفلين في نعيم.!!.
مات خاتم النبيين فدخل الصحابة في السياسة ودروبها, ومشاكلها وأزماتها وحروبها وضغائنها وانقساماتها, منذ بيعة السقيفة إلى الملك الوراثي الأموي العضوض, بإسالة الدماء أنهاراً في صراعات عسكرية, بدأت بما اسموها حروب الردة والفتوحات, ولم تنته بالجمل وصفين وكربلاء والحرة والنهروان ودير الجماجم, ولن تنتهي في العراق وسوريا واليمن, لماذا لم تنته ؟ ولماذا لن تنته ؟ لأن الجريمة إذا تحصنت بتسويغ شرعي, فقد تحولت إلى شرف وفريضة دينية.
أسقطت الفتوحات العربية:
التي حملت اسم الإسلام زورا وبهتانا - إمبراطورية الفرس العاتية، وجعلت الفرس موالي أو مواطنين من الدرجة الثانية، وكان الفرس والموالي هم وقود الثورات ضد الأمويين، وبعد يأس الفرس من المقاومة العسكرية, التفتوا إلى المقاومة الفكرية في ميادين مختلفة, منها: تدعيم الدين السني نكاية في الإسلام, فكان رواد الحديث من الفرس كالبخاري ومسلم.. الخ.
ومنها: إستغلال دين التشيع واتخاذه ستارا للتحرر من سيطرة العرب, فقربوا بينه وبين عقائدهم القديمة, وخلطوه بأغراض سياسية, من خلال (التبري والتولي) في العقيدة الشيعية, وبعد أن كان الدين الأصلي للفرس (الزرادشتية) يتركز في عبادة إله الخير والنور, ولعن إله الشر والظلام، أصبح من خلال التشيع, موالاة (علي وآل بيته) والتبري من أبى بكر وعمر وعثمان، الذين دمروا الإمبراطورية الفارسية, واحتلوا الوطن الفارسي, وقتلوا خيرة رجاله, واستعبدوا أهله, ونهبوا خيراته.
وقد واجه التشيع الشدة من بني العباس, فكان إختراع التصوف, آخر جهد فارسي في الكيد للإسلام, والتشيع هو الذي أرسى للتصوف الأسس التي يقوم عليها, ورث التصوف عقائد التشيع, ولكنه تخفف من أوزاره السياسية, فبدأ حركة دينية عقيدية أكثر إنسجاما مع العامة, برواد من الأعاجم تتلمذوا على يد أساطين الشيعة؛ وما لبث الإنحلال الخلقي الذي اصطبغ بصبغة دينية في المجتمع الفارسي - من خلال الديانة المزدكية - أن عاد في صورة أحاديث, سجلها غسن ابن برزويه الفارسي الخراساني المولود في بُخارى والمعروف بالبخاري, الذي عاش شبابه وصدر حياته في بخارى معقل المزدكية، والتي لا تزال حتى الآن منبع القومية الفارسية والكراهية للعرب.
وفي الفتنة الكبرى والحروب الأهلية, التي كانت المستنقع الذي غرق فيه الصحابة واغرقونا معهم - لجأ المتحاربون إلى الحرب الفكرية الدعائية, جنبا إلى جنب مع الحرب المسلحة, فكان اختراع الأحاديث، وقد نبغ فيها الأمويون الذين استخدموا أبا هريرة وغيره, وظل هذا طيلة العصر الأموي, فيما يعرف بعصر الرواية الشفهية، ثم بدأ التدوين - على استحياء - في أواخر العصر الأموي, في صورة عدة مئات من الأحاديث, وساد التدوين وانتشر في العصر العباسي, لتصل الأحاديث إلى مئات الألوف, حيث كانت مصانع الحديث تنتج المزيد منها, لما يناسب المتغيرات فتراكم انتاجها.
إذن خلال عصر اللاراشدين والأمويين:
انشغل العرب بالسياسة والحروب الاستعمارية والأهلية, مع تعصبهم ضد أهل الكتاب عُنصريا ودينيا, وجاء العباسيون بمساعدة الفُرس والموالي, فكانوا أكثر تسامحا وأقل تعصبا ممّن سبقهم، كما شهد عصرهم انتهاء التوسع الخارجي, والالتفات الداخلي نحو النواحي العلمية والثقافية بالتدوين, والانفتاح والتفاعل مع المدارس العلمية الفلسفية, في الاسكندرية والرها وانطاكية وحرّان, حيث الفلسفات اليونانية والشرقية الممتزجة بالمسيحية, وبدأ مع العصر العباسي ترجمة ذلك التراث (الأجنبي) للعربية والتفاعل معه والتأثر به، مع دخول أبناء أهل الكتاب في الإسلام, ومعهم جيل من مثقفي أبناء وأحفاد الموالي الحاقدين, الذين كانوا من قبل رقيق الفتوحات الإستعمارية.
هؤلاء المسلمون الجُدُد أدخلوا ثقافاتهم, ومعتقداتهم الدينية القديمة في صورة إسلام, وكان هذا تجسيدا للتأثر بالتراث القديم, والتراكم الفرعوني واليهودي والمسيحي والمجوسي.. الخ, ولكن مع تغير في الأسماء والشخصيات واللغة المنطوقة, وتم صياغة ذلك التدين اللعين باللغة العربية, في صورة روايات وأحاديث قدسية ونبوية مزورة, أو ما يسمّى بالإسرائيليات, ولكن لأنها تعبر عن الثقافة الشعبية الكامنة والسائدة, فقد كان من السهل انتشارها، خصوصا وأنها مستقاة من مستنقع الفولكلور الديني الشعبي للرعاع.
وبإزدهار صناعة الأحاديث, أصبح صاحب الرأي الفقهي, يؤثر أن يضع رأيه في حديث, ليحوطه بالتقديس وليحصنه من النقد والتمحيص، ومن الطبيعي ألا يلجأ لذلك, سوى صاحب الرأي الضعيف العاجز المتهالك, المحتاج إلى (سند) يعتمد عليه في بقائه؛ لذا عكست تلك الأحاديث تفاهة مخترعيها وتناقضهم، ولكن نسبتها للنبي عبر (السند) كان ولا يزال - عند المغفلين - يحجب العقل عن نقدها؛ هذا التشابك بين ما هو حديث وما هو فقه, عمّق الاختلافات بين أصحاب الحديث وأصحاب الفقه، خصوصا مع إدمان الفقهاء على صياغة آرائهم الفقهية, في صورة أحاديث منسوبة كذبا للنبي، ونحن الموحدون - القرآنيون, لن نملّ من التأكيد بأن تلك الأكاذيب, لا صلة لها مطلقا بالله جل وعلا, ولا برسوله الكريم، وأنها أساطير لا تستحق منا سوى السخرية منها والتندّر عليها.
وإلى العصر العباسي ينتمي أئمة المذاهب:
من سنّة وشيعة وصوفية وغيرهم, لم يجرؤ هؤلاء الشياطين, على رفض القرآن العظيم صراحة، ولكن التفوا حوله, وبدلاً من الاحتكام والرجوع إليه, فعلوا العكس، وهو صناعة تشريع بشري يقوم على إلغاء الأحكام القرآنية, التي لا تتفق مع أهوائهم, بما أسموه (النسخ) مع أن النسخ في اللغة العربية, يعني الكتابة والإثبات وليس الإلغاء والإبطال؛ ولم يكتفوا بذلك, بل أسسوا (علوم القرآن) للطعن في القرآن, وليحل وحي الشيطان الرجيم, بديلا عن وحي الله الحكيم، ونسبوا ذلك البديل لله ولرسوله, بزعم أنه وحي إلهي, ومن هنا أضحى احتكامهم لوحي الشيطان, بديلا عن وحي الرحمن.
وبذلك أصبحت أقاويل الأئمة عن القرآن, أو ما يعرف بعلوم القرآن, هي الديوان الحي الذي يجسد الواقع العملي لتدين أبناء هذه الأمة في كل عصر, هذا من ناحية الاتساع والنظرة الأفقية؛ أما من الناحية الرأسية, فقد حرصوا على نسبة آراءهم الشخصية, إلى النبي وكبار الصحابة لدى أهل السنة, أو إلى النبي وعلي وبنيه لدى الشيعة, أو إلى من جعلوهم أولياء مقدسين لدى الصوفية؛ وبذلك نشأت ما تعرف بالمصادر الأخرى للتشريع, إلى جانب كتاب الله تعالى.
ومن هنا أصبح ذلك التراث المخالف للقرآن مقدساً كالقرآن, أو على الأصح بدرجة تزيد عليه، لأنه إذا تعارضت آية قرآنية مع إحدى مقولات التدين, فإن الانتصار يكون لأحاديث التراث ومقولاته, وطالما تتمتع تلك المقولات بقداسة تفوق قداسة القرآن، وطالما توفر غطاءً تشريعياً للجرائم والموبقات, فإن دماء المسلمين ستظل تسيل أنهاراً, لأن تدين الأمة يؤكد استحلال الدماء والأموال, عن طريق فتاوى وأحاديث وأقاويل ما أنزل الله بها من سلطان.
وبهذا نعرف أساس الأزمة, ونعرف أيضاً أساس الحل؛ أساس الأزمة هو تلك المرويات التي تخالف القرآن الكريم, وأساس الحل هو الاحتكام للقرآن الكريم لا غير, امتثالاً لقوله تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا (114)}[الأنعام] والدليل على هذا, هو ما ستقرؤونه في هذا البحث البسيط, الذي يبرئ الإسلام من كل الأوزار التي التصقت به, والله تعالى من وراء القصد.
أساساً القرآن الكريم قضية إيمانية:
وما عداه ليس محلا للإيمان، فالأحاديث مثلا ليست قضية إيمانية, وإنما قضية نسبية وقائمة على الشك (الظن) فلا يكفي أن يقال: قال رسول الله كذا وكذا, ليصدق الناس فورا, أن النبي قال ذلك الكلام فعلا؛ لذا اخترعوا الإسناد, والاسناد يعني أن الحديث مثل جدار يريد أن ينقض ويقع, فتقوم العنعنة بإسناده حتى لا يسقط وينهار؛ وقد نشأ علم الحديث أو الجرح والتعديل, على أساس الاختلافات السياسية والفقهية والعقيدية والفكرية بين أبناء الأمة, لذلك اختلفوا في مدح راو أو تجريحه, وفي إثبات حديث أو نفيه؛ فقال هذا بما (يحب) وقال ذاك بما (يحب) أي دخلوا في مسلسل (الحب والهوى) ومثلاً قام فقهاء السلطة السنية بتوثيق الأحاديث, التي توجب طاعة ولي الأمر الظالم, وضعفوا أحاديث الخروج عليه, بينما قام فقهاء المعارضة الشيعية, بتضعيف أحاديث طاعة الظالم, ووثقوا أحاديث الخروج.
والحديث يتكون من سند ومتن, ونحن نقول: أن ذلك السند الذي تم صناعته في العصر العباسي باطل, فهو إسناد عن موتى لا يعلمون شيئا, عمّا أسنده أئمة الحديث إليهم, بل أن بعض الرواة شخصيات وهمية, إخترعها أولئك الشياطين, ووضعوا على كاهلها تلك الأكاذيب؛ وباختصار فالإسناد إفك كوميدي, يندى له الجبين, ويضحك منه الحزين, ولا يصدقه إلا المغفلين والمغيبة عقولهم؛ يتحدثون عن الإسناد, كما لو أنهم قد أجلسوا جميع الرواة أمامهم وبالترتيب, وسمعوا من فلان عن فلان, وهم جميعا يقولون نفس تلك الروايات, بلا تغيير في أي كلمة أو أي حرف؛ وهنا نؤكد: أنها كاذبة من حيث السند, أي أن الرسول بريء من قول كل تلك الأحاديث.
ومن حيث المتن, فبعض الأحاديث تقول شيئا لا بأس به, أي لا تتعارض مع القرآن الحكيم, أو ربما تتفق معه, هنا نقول: أنها كاذبة من حيث نسبتها للرسول, ولا بأس من العمل بما تقوله، وكنا نتمنى أن ينسبها أصحابها لأنفسهم, بدلا من التمسح بجاه الرسول؛ ولكن معظم الأحاديث, تقول في متنها ما يخالف الإسلام, هنا تكون كاذبة من حيث السند, وملعونة من حيث المتن, ولكن الشياطين تبولتها في قلوب الناس, فآمنوا بها وقدّسوها.. ولا يزالون.
والذي قاله الرسول ويظل إعجازاً لنا, على أنه كلام الله هو القرآن الكريم، وهو الحديث الوحيد الذي ينبغي الإيمان به والاحتكام إليه وحده، ومثلا فإن أحاديث البخاري وغيره, أحاديث باطلة وليس لها أي صلة بالرسول, بل هي إفتراء عليه, ونحن نؤمن أن تلك الأحاديث, تعبر عن العصر الذي اُخترعت فيه, والمؤلفون الذين الفوها, ومن رواها عنهم, ومن الكفر العقيدي نسبة تلك الأحاديث الشيطانية للرسول؛ ومن يؤمن بأن تلك الأحاديث جزءاً من الإسلام, إنّما يتهم الرسول بأنه لم يؤد أمانة التبليغ، لذا نحن نؤمن أن محبة الرسول, تتجلى في تبرئته من كل تلك الأكاذيب.
ولأن تلك الأحاديث أكاذيب:
في نسبتها لخاتم النبيين, ولا أصل لها في الإسلام أو العقل أو المنهج العلمي, فقد كان سهلا الرد عليها في هذا البحث الصغير, الذي زالت به تلك الأكاذيب من العقول الناضجة, التي كانت تتهيب الخوض في هذا الموضوع؛ إلا أن هذا لا يمنع استمرار تلك الأكاذيب في عقول أكثر الناس, لأنه قامت عليها دول ومصالح وأرزاق ومعاهد وجامعات, وأجيال من علماء السلطان وشيوخ الشيطان, ممن يرتزقون بالخرافة ويجعلون الدين حرفة، لذا صعبوا الدين على الآخرين وجعلوه مطلسما, وادعوا أن مفاتيحه بأيديهم هم فقط, ليضمنوا لأنفسهم الجاه والسلطان, على قطعان البشر الخاضعة لهم, هذا مع أن الله جل وعلا يقول: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)}[القمر].
وها هو البحث الآن بين ايديكم, يقدم لكم حجة ناصعة, لا يبقى معها عذر بالجهل, بعد قراءة هذا البحث ستتضح الحقائق ويزول الجهل, ويبقى اتخاذ القرار عن عمد وعن علم؛ إمّا بالتبرؤ من كل تلك الأكاذيب, نصرة لله تعالى ولرسوله، وإمّا بنصرة أئمة الحديث والمذاهب, في ظلمهم لله تعالى ولرسوله؛ كل منا حر فيما يعتقد, وسيكون مسئولا أمام الله تعالى يوم القيامة, عما اختاره لنفسه، وسيلقى الجزاء بالخلود في الجنة أو الجحيم؛ وخوفاً من ذلك اليوم فإننا ندعوكم لأن تخلوا بأنفسكم ساعة, لتفكروا فيما أوردنا في هذا البحث, سائلين الله تعالى بإخلاص أن يهديكم إلى الصراط المستقيم, تاركين خلفكم كل هوى قديم؛ إن أعمارنا محدودة والأيام تسير بنا, والموت يتربص, ولا ندري متى سينشب فينا أظفاره، ولابد أن يحسم كل منا رأيه في هذه القضية, حتى يكون مستعداً للقاء الله جل وعلا.
على أية حال:
يتمسك الناس بكتب تكتسب لديهم قداسة, ويضعونها إلى جانب القرآن العظيم, والبعض يعتقد أنه يكفيهم أن يتمسكوا بالقرآن, على أنه لا يضرهم أن يؤمنوا بكتب أخرى, كتبها بشر مثلهم ونسبوها للنبي؛ ولو تدبر الناس كلام الله جل وعلا, لتأكدوا أن القرآن الحكيم هو الكتاب الوحيد, الذي ينبغي أن يتمسك به المسلم دون غيره, وأن القرآن الحكيم ليس محتاجاً لتلك الكتب البشرية؛ فالقرآن ما فرط في شيء, ونزل تبياناً لكل شيء, وجاءت به تفصيلات كل شيء, يحتاج إلى التبيين والتفصيل.
علاوة على هذا, فإننا نؤمن أن الفطرة الإنسانية, لدى كل إنسان عاقل, تنبض في قلبه بالحق: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا (30)}[الروم] وإذا حدث وتراكمت على هذه الفطرة, موروثات تخالف الحق, فإن آيات القرآن العظيم كفيلة بتنقية تلك الفطرة, لتعود إلى صفائها الأول؛ نفهم ذلك من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)}[يونس] وعليه فإننا ندعوكم أيها الأعزاء, لتتصفحوا معنا كتاب الله العزيز, لنتدبر آياته العزيزة, طالبين الهداية لنا ولجميع الخلائق.
ومنهجنا الذي نسير عليه, هو الاجتهاد بالتعامل المباشر مع القرآن العظيم, بعد دراسة متعمقة للتراث, بكل محاسنه ومساوئه وتناقضاته, ثم ندع الحقائق القرآنية تتحدث, من خلال الموضوع الذي نتناوله, وكل ما نفعله, هو أن نختار عنواناً ينطق بمدلول الحقيقة القرآنية, ثم نستعين بالآيات يؤيد بعضها بعضاً؛ وهكذا فقد شجعت كتاباتنا آخرين, على متابعة ما نكتب، وأوضحت للعقلاء, أن الهجوم على السلفيين (سنة وشيعة وصوفية) ليس هجوما على الإسلام, بل هو تبرئة للإسلام من تخلف السلفية, وتزمتها وتعصبها وتطرفها, ويكفينا فخرا, أننا أزلنا القداسة عن تراث الأمة البشري، وأوضحنا عوره وتناقضه مع القرآن الكريم, وبعد هذا نحتفظ في قلوبنا بالحب للعالمين.. والله تعالى هو المستعان, وتعالوا بنا نستعرض آيات الله في هذا الصدد..
في ذاته العلية يقول سبحانه:
{قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26) وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27)}[الكهف] فالله وحده هو الولي الذي لا يشرك في حكمه أحدا, والقرآن هو الكتاب الوحيد الذي أوحي للنبي, ولا مبدل لكلماته, ولن نجد غير القرآن كتاباً نلجأ إليه؛ والمؤمن لابد أن يكتفي بالله رباً, لقوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ (36)}[الزمر] ولابد أن يكتفي بكتابه العزيز, كمصدر وحيد للهداية والتشريع, وفي ذلك يقول سبحانه: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)}[العنكبوت].
والملاحظ أن الآيات التي تحض على الاكتفاء بالله رباً وبالقرآن كتاباً, جاءت كلها بأسلوب الاستفهام الإنكاري, أي الإنكار على من يتخذون أولياء (أرباب) مع الله جل وعلا, أو يتخذون كتباً أخرى مع كتاب الله العزيز, فمن رحمة الله بنا, أن فرض علينا كتاباً واحداً ميسراً للذكر, ومصوناً من التحريف, وجعله واضحاً مبيناً مفصلاً, له بداية وله نهاية، ولم يتركنا إلى كتب أخرى كتبها بشر مثلنا, يجوز عليهم الخطأ والنسيان, والهوى والعصيان, ولا أول لكتبهم ولا نهاية.
لا مجال في كتاب الله العظيم للريب أو الشك, وفي ذلك يقول سبحانه:
{ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)}[البقرة] وحقائق القرآن مطلقة، وما عداه من كتب, يعترف أصحابها بأن الحق فيها نسبي, أي يحتمل الصدق والكذب؛ وما يحتمل الصدق والكذب يدخل في دائرة الظن, ودين الله الحق لا يقوم إلا على الحق اليقيني الذي لا ريب فيه, حتى لا تكون للبشر حجة على الله؛ لذا ضمن سبحانه حفظ كتابه من كل عبث أو تحريف؛ وفي ذلك يقول سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)}[الحجر] أما أديان البشر الوضعية فالمجال واسع فيها للظن والريب.
ويقارن سبحانه وتعالى بين اتباع الحق (القرآن) واتباع الظن (كتب الحديث) فيقول: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (36)}[يونس] .. {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23)}[النجم] الظن وما تهوى الأنفس, هي كتب ومناهج, يقدسونها ويقاتلون من أجلها, أما الهدى وهو القرآن الكريم, فقد اتخذوه مهجورا, ومن الإعجاز العلمي في هذه الآية الكريمة, اعتراف أئمة الحديث أنفسهم, أن الأحاديث المنسوبة للنبي تفيد الظن ولا تفيد اليقين؛ ومع هذا تأمرهم أهواءهم باتباع الظن, تحديا لله جل وعلا القائل: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37)}[الرعد ] وإذا كان الله قد أكرمنا بالحق القرآني اليقيني: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95)}[الواقعة] فكيف نأخذ معه أقاويل ظنية ؟!.
القرآن الكريم هو الحديث, وفي ذلك يقول سبحانه:
{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)}[النساء] بل وأحسن الحديث, لقوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ (23)} [الزمر] والإيمان لا يكون إلا بحديث الله, لقوله تعالى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)}[المرسلات] بل إن الله يجعل من الإيمان بحديثه وحده, مقترناً بالإيمان به وحده, فكما أنه لا إيمان إلا بالله إلهاً, فكذلك لا إيمان إلا بالقرآن حديثاً, وفي ذلك يقول سبحانه: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)}[الجاثية] أما الذين يتمسكون بأحاديث أخرى سماها القرآن ﴿لَهْوَ الْحَدِيثِ﴾ فأولئك لهم عذاب مهين, لقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7)}[لقمان] وإذا كان الله قد أكرمنا بأحسن الحديث, فكيف نتركه إلى غيره ؟!.
وقد تحداهم رب العزة أن يأتوا بحديث مثل حديث القرآن المجيد, أو أن يأتوا بسورة من مثله: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34)}[الطور]..{قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ (38)}[يونس] والشاهد هنا, أن الذي نزّله الله جل وعلا هو سور وآيات, وليست هناك سور وآيات إلا في القرآن العظيم؛ وفي ذاته العلية يقول سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)}[الشورى] وعن كتابه العزيز يقول سبحانه: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)}[الإسراء] إذن لا مثيل للقرآن, كما أنه لا مثيل لله جل وعلا - فالله أحد في ذاته وصفاته ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ ومع ذلك يقولون القرآن ومثله معه! فأين هو ذلك المثيل الذي نفى الله وجوده؟ وصدق الله القائل:{قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)}[الأنعام].
إذن فالقرآن هو الوحي الوحيد الذي نزل على خاتم النبيين, والبشر مطالبون يوم القيامة بما نزل على ﴿الرُّسُل﴾ من آيات الوحي, يوم القيامة سيقول سبحانه: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي (130)} [الأنعام] وفي أصحاب النار يقول سبحانه: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ (71)}[الزمر] فمهمة الرُّسُل هي تلاوة آيات الله على الناس, ومن أعرض عنها حشره رب العزة أعمى: {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ (127)}[طه].
القرآن الكريم كتاب مبين في ذاته, وفي ذلك يقول سبحانه:
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)}[البقرة] وآيات القرآن العظيم موصوفة بالبينات, والذي جعل الكتاب مبيناً, وجعل آياته بينات هو ربنا العظيم القائل: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ﴾ وكل المطلوب منا أن نتلوا القرآن بتدبر, ومتى تلونا الكتاب المبين نطقت آياته البينات بالهدى, فهي لا تحتاج منا إلا التلاوة وعدم الكتمان؛ لذا فإن الله يصف الكتمان بأنه عكس التبيين, ويهدد من يكتم آياته البينات بقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ﴾ وعن أهل الكتاب يقول سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ (187)}[آل عمران] وهنا يتضح أن تبيين البشر للآيات البينات, يتلخص في القراءة بتدبر وعدم الكتمان.
والله تعالى يصف القرآن الحكيم, بأنه أحسن تفسيرا: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33)} [الفرقان] فالقرآن يفسّر بعضه بعضا, ويبين بعضه بعضا, ومن خلاله نفهم معاني ألفاظه؛ هذا هو المنهج العلمي في التعامل البحثي مع القرآن الكريم, ومع أي مصدر تراثي أيضا, أي أن نلتزم بمصطلحات الكتاب, في فهم ما يأتي في ذلك الكتاب؛ أما إذا فهمنا مفردات الكتاب, حسب المألوف في عصرنا, فهذا خطأ علمي وبحثي؛ ومن ينتقي آيات معينة ليُخرج معناها عن السياق الخاص والعام، ويضع لها تفسيرا يتماشى مع تراثه, متجاهلا عشرات الآيات الأخرى التي تخالفه, فإنه بذلك يقلب الحقائق ويرتكب جريمة بحثية, وهذا بالنسبة للقرآن الكريم من أكبر الكبائر, وهذا هو الزيغ بعينه.
وقد أكد سبحانه أن في القرآن تفصل كل شيء: {مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ (111)}[يوسف] وأنه ما فرط في القرآن من شيء: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ (38)}[الأنعام] وأن في القرآن تبيان كل شيء: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)}[النحل] وأنه أكمل الدين وأتم النعمة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا (3)}[المائدة].
ومع ذلك:
فإن هناك من يتهمون كتاب الله تعالى, بالتفريط والنقصان والاحتياج للبشر, وأن فيه من التشريعات ما يستوجب الحذف والالغاء, وأنه غامض محتاج لتفسير، موجز محتاج لتفصيل، وناقص محتاج لتكميل، فيختلقون مسائل ومشاكل, ويتوجهون بها لكتاب الله تعالى, ليثبتوا لأنفسهم وللآخرين, نقصان كتاب الله تعالى, وتفريطه في شيء وأشياء, وليتهموا رب العزة بالكذب, وقد وصفهم الله جل وعلا بأنهم ﴿فاسقون﴾ جاء ذلك في قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99)}[البقرة].
والمؤمنون بالله جل وعلا, لا يسارعون باتهامه سبحانه بالكذب, ولا يقولون معاجزةً أين كذا وكذا في القرآن؟ بل يقولون صدق الله العظيم, ثم يبحثون في القرآن الحكيم, متدبرين لآياته, متفهمين لمصطلحاته, طالبين من الله الهداية بإخلاص, عندها سيكرمهم الله بالهداية, ويفتح لهم من كنوز القرآن ما لم يتخيلوا؛ فقوله جل وعلا: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)} [الواقعة] يعني أنه لا يمسّ أسراره, ولا تصل أنواره, إلّا للنفوس والقلوب المطهرة من الشرك.
على أن الشيطان لم يقدم استقالته, وسيظل له اتباع من أكثرية البشر, وأولئك لن يكفوا عن التكذيب بالقرآن, واتهامه بالتفريط وحاجته للبشر, كي يكملوه ويوضحوه ويفسروه، وفي سبيل ذلك سيظلون معاجزين في آيات الله، وستظل تلك مهمتهم ومهنتهم إلى قيام الساعة؛ ولسنا هنا في معرض الرد عليهم, وإنما لإنصاف القرآن الكريم من اتهاماتهم، وذلك بالتعرف على منهج القرآن الكريم, في تفصيلاته التشريعية, حتى لا ينخدع بعض السطحيين باتهاماتهم.
وعليه فالتفريط هو:
إغفال الشيء الضروري الهام وتركه, أما التبيان فهو: التوضيح لما يستلزم البيان والتوضيح, والشيء الواضح بذاته لا يحتاج لمن يبينه ويوضحه, وإلا كان ذلك إهانة للناس واتهاما لهم بالغباء، علاوة على أنه فضولاً في الكلام وثرثرة, لا تليق بكتاب بشري عادي - فكيف بكتاب الله, الذي نزلت تفصيلاته عن علم وحكمة, وهذا وجه من أوجه الإعجاز في القرآن؛ لذا كان البيان في القرآن لما يتطلب البيان, فكل شيء يستلزم البيان والتوضيح, جاء في القرآن بيانه وتوضيحه, وما ليس محتاجاً للبيان, فلا مجال لتفصيله وتبيينه, في كتاب أحُكمت آياته, ثم فُصلت من لدن حكيم خبير.
ومثلاً لو كان العرب حين نزل القرآن الكريم, يجهلون الصلاة وعدد ركعاتها, وكيفيتها ومواقيتها, أو أي شيء عنها, لجاءت تفصيلات القرآن تعلم الناس ما يجهلون, ولكن العرب توارثوا حركات الصلاة جيلا بعد جيل - مثلنا الآن - وكانوا يؤدون الصلاة, ولكن دون أن يقيموها أو يحافظوا عليها - مثلنا الآن أيضا - فجاء القرآن يخاطبهم ويخاطبنا أيضا, بعلاج هذا الخلل الخطير في القلب وفي السلوك.
والعجيب أنه مع اختلاف الناس طوال تاريخهم في كل شيء, فقد اتفقوا على عدد الصلوات, وأوقاتها وكيفيتها, ولم تكن لهم بشأنها مشكلة تذكر, فما أن ظهرت الدعوة للاكتفاء بالقرآن العظيم وحده, حتى أصبحت الصلاة مشكلة المشاكل, فتكاثرت الأسئلة عن عدد ركعات الصلاة وكيفيتها ومواقيتها.. الخ, وطالما لم تكن موجودة في القرآن الكريم, فالله سبحانه وتعالى يكون عندهم كاذبا - والعياذ بالله - تناسوا أن المجال متاح لمن يريد أن يكذّب بالقرآن الحكيم, ولمن يريد أن يتهم رب العزة بالكذب, بل وتناسوا أيضا أن الله جل وعلا, قد أنبأ سلفا في القرآن الكريم, بأنهم سيفعلون ذلك, وهاهم يحققون أعجاز القرآن الكريم فيهم.
أهل مكة كانوا يعرفون الصلاة:
ويمارسونها ببركة دعاء الخليل: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40)}[إبراهيم] وفي ذلك يقول سبحانه: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26)}[الحج] وعن عمارة المشركين للمساجد يقول سبحانه: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17)}[التوبة] وعن صلاة المشركين يقول سبحانه: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)} [الأنفال] حتى أنه يوجد تشابه كبير, بين الصلاة التي نصليها نحن واليهود, والفاتحة العبرية التي يصلي بها اليهود حتى الآن, قريبة الشبه بالنطق العربي, للفاتحة القرآنية التي نصلي بها نحن أيضاً.
فالمشركين كانوا يصلون الصلوات الخمس, التي صلاها جميع الأنبياء, إلا أنهم كانوا يذكرون: اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ والمطلب وغيرهم من الأولياء, في الأذان والتشهد, وخطبة الجمعة وعند الدعاء, توسلاً بهم إلى الله تعالى, واعتقاداً في شفاعتهم وعصمتهم, وهذا هو الشرك, فالله جل وعلا يقول: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)}[طه] .. {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)} [الأعراف] ويؤنبهم رب العزة بقوله: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا (12)}[غافر] فلا يجوز أن نتوسل بمخلوق, ولا يجوز أن يُذكر مع الله مخلوق, ولا يجوز أن يُقرن أسم الله بمخلوق.
وهنا تأتي الأسئلة التقليدية: ماذا تقولون في التشهد؟ نقول: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)}[آل عمران] ماذا تقولون في الركوع والسجود؟ نسبح بحمد ربنا, فهمنا ذلك من قوله تعالى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15)} [السجدة] فالصلاة في حقيقتها, إستدامة ذكر الله وحده لا شريك له, بطريقة يومية منظمة, في قيام وركوع وسجود وجلوس, وقراءة الفاتحة وآية التشهد والتسبيح والحمد, بهدف ترسيخ التقوى في النفوس يومياً,.
والجدير بالذكر:
أن البيان في القرآن المبين, يرتبط بالهدى والرحمة والبشرى للمسلمين, وفي ذلك يقول سبحانه: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)}[النحل] فبيان القرآن هدى للباحثين عن الهدى, وسط ركام الغموض والحيرة، كما أنه رحمة بهم حين يبين لهم ما خفي عنهم, ويصل بهم إلى شاطئ الأمان والرحمة الإلهية, وهناك البشرى بعد الهدى والرحمة؛ وأيضاً ترتبط تفصيلات القرآن الكريم بالهدى والرحمة, حيث يقول سبحانه: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)}[الأعراف] فالتفصيلات القرآنية التي شملت كل شيء, جاءت هدى ورحمة لأولئك الذين يحتاجون إلى تلك التفصيلات.
وعن العلم الإلهي الذي يحكم التفصيلات القرآنية, لتكون هدى ورحمة للمؤمنين, يقول سبحانه: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)}[الأعراف] لذا فإن العلماء المؤمنين بتمام القرآن والمكتفين به, هم فقط الذين يفهمون تفصيلات القرآن, وفي ذلك يقول سبحانه: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)} [الأعراف] .. {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)}[يونس] .. {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28)} [الروم] .. {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3)}[فصلت].
والمتكبرين الذين لا يعلمون, هم الذين يسعون في آيات الله معاجزين, ومجادلين ومكذبين ببيان القرآن وتفصيله لكل شيء، فيقولون تهاونا واحتقارا للقرآن الكريم: (القرآن فقط .. القرآن بس! أين عدد الركعات في القرآن؟ أين كيفية الصلاة؟ كيف نحج؟ ) وبعضهم يتساءل ساخراً: (أين أيام الأسبوع في القرآن؟ ) أي أنهم يعتقدون أن الله كذاب ﴿نستعيذ بالله منهم﴾ وهؤلاء يقول الله عنهم: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)}[غافر] كما أخبر سبحانه وتعالى عن مصيرهم الأسود فقال: {وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38)}[سبأ].
يؤكد سبحانه وتعالى أن ذكره لا يكون إلا من خلال القرآن وحده:
وفي ذلك يقول سبحانه: {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46)}[الإسراء] والشاهد في الآية الكريمة, قوله تعالى: ﴿وَحْدَهُ﴾ فمن الإعجاز البلاغي, أن تأتي كلمة وحده ليعود الضمير فيها على الله وكتابه بضمير المفرد؛ مشركي قريش كانوا ينفرون من الرسول, لأنه كان يذكر الله من خلال ما ورد في القرآن, فالمشركين يحلوا لهم دائماً, أن تتعدد لديهم المصادر والآلهة, وفي ذلك يقول سبحانه: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)}[الزمر].
ومثلاً يسيء أكثر الناس فهم قوله تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ والسبب أنهم يقطعون هذا الجزء من الآية عما قبله, ويتخذونه دليلاً على وجود مصدر آخر مع القرآن العظيم، وعندهم أن هناك ذكراً آخر نزل على الرسول, ليبين به القرآن الذي نزل للناس؛ وحتى نفهم الآية الفهم الصحيح, علينا أن نتدبر السياق القرآني, لأنه لا يمكن فهم الآية بدونه، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)}[النحل] أي أن الله أرسل الأنبياء السابقين لأهل الكتاب ﴿أهل الذكر﴾ وأنزل معهم البينات والزبر (الكتب) ثم وجه الخطاب للرسول فقال له: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ﴾ أي القرآن الكريم ﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ أي لتوضح لأهل الكتاب ما سبق إنزاله إليهم, من البينات والزبر لعلهم يتفكرون.
وكلمة الناس في قوله تعالى: ﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ لا تدل على عموم البشر, وإنما تدل على أهل الكتاب, الذين نزلت فيهم الكتب السماوية السابقة, فاختلفوا فيها وحرفوا بعض ما جاء بها, واستعمال كلمة الناس لتدل على طائفة معينة, أشار إليها السياق وورد في القرآن الحكيم كثيراً, كقوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا (173)}[آل عمران] وفي قصة نبي الله يوسف: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46)} فكلمة الناس هنا لا تعني عموم البشر, وإنما تعني طائفة معينة, ورد ذكرها في السياق القرآني, الذي يتحدث عن الموضوع.
والآية السابقة من سورة النحل, فسرتها آية لاحقة في نفس السورة, حيث يقول سبحانه: {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)} فوظيفة القرآن الكريم بالنسبة لأهل الكتاب, هي تبيين الحق في كتبهم السماوية, وفي ذلك يقول سبحانه: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)}[المائدة] وعن دور القرآن الكريم في توضيح الحق لبني إسرائيل يقول سبحانه: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76)}[النمل] وكل ذلك يؤكد أن كلمة الذكر, من أوصاف القرآن الكريم ومن مرادفاته.
ومثلاً يسيء أكثر الناس فهم قوله تعالى:
{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ (2)}[الجمعة] والشائع بينهم أن الكتاب شيء والحكمة شيء آخر, وحجتهم أن العطف بالواو يقتضي المغايرة, والواقع أن العطف بالواو في القرآن الحكيم, يأتي غالباً للتبيين والتوضيح والتفصيل وليس للمغايرة, ودليلنا قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48)}[الأنبياء] فالفرقان والضياء والذكر, كلها أوصاف توضح وتفصل وتبين معنى التوراة، وفي موضع آخر يقول سبحانه وتعالى عن التوراة, في حديثه عن موسى وهارون: {وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117)} [الصافات] فالتوراة أو الكتاب المستبين هي نفسها الفرقان والضياء والذكر, والعطف هنا معناه التوضيح والتفصيل, لمعنى واحد وليس للمغايرة.
والله جل وعلا يقول لعيسى ابن مريم (عليهما السلام): {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (110)} [المائدة] .. {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48)}[آل عمران] فالكتاب والحكمة أوصاف للتوراة والإنجيل، ولا يعني ذلك أن الله علّم عيسى أربعة أشياء منفصلة أو مختلفة، والدليل قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ (63)}[الزخرف] فالحكمة هنا تعني الإنجيل الذي جاء به عيسى، والآية هنا تلخص ما جاء في الآيتين السابقتين, عن الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل.
وبالنسبة لخاتم النبيين, فقد جاءته أوامر متتالية في سورة الإسراء ﴿22-39﴾ تبدأ بقوله تعالى: ﴿لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً﴾ وفي نهاية هذه الأوامر يقول سبحانه: ﴿ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنْ الْحِكْمَةِ﴾ إذن فكلمة الحكمة من أوصاف القرآن الكريم ومن مرادفاته, شأنها شأن كلمات أخرى مثل الفرقان والنور والحق وغيرها من الأوصاف؛ ودليلنا الأخير قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ (231)}[البقرة] فلو كانت الحكمة شيئاً آخر غير القرآن الحكيم لقال جل وعلا: ﴿واذكروا نعمت الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم بهما﴾ ولكن لأن الحكمة من مرادفات القرآن الكريم, فقد عاد الضمير عليهما بصيغة المفرد, فقال سبحانه: ﴿يَعِظُكُمْ بِهِ﴾.
النبي هو:
ذلك الرجل الذي يختاره الله, لينبئه بالوحي ليكون رسولاً, وفي ذلك يقول سبحانه: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)}[الشورى] أي هو شخص النبي في حياته العامة وشئونه الخاصة, وتصرفاته البشرية وعلاقاته الإنسانية بمن حوله, وقد كان خاتم النبيين مثلاً أعلا في ذلك كله, كان فصيح اللسان, نجح في إبلاغ الدعوة وتكوين الأمة وإقامة الدولة؛ وقد واجه في حياته مشاكل سياسية وشخصية, نجح في التغلب عليها بتوفيق الله، وبالطبع انعكس عليه أحياناً, ضعف الإنسان في داخله أو من المحيطين به, وليس كل كلامه وحي.. وليس كل كلامه وحي؟!!
نعم ليس كل كلامه وحي, لأن الوحي هو كلام الله جل وعلا, أما قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)}[النجم] فالمقصود هنا كلامه القرآني فقط, لاحظ أداة الحصر والقصر: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا﴾ {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69)}[يس] علماً بأن النبي هو الذي كتب القرآن العظيم بيده, وبطريقة كتابة خاصة وغير عادية, وقد أوردت كتب التاريخ في السيرة النبوية وغيرها, الكثير من الأحداث والأقوال المنسوبة للنبي, وهي أخبار لا تخلو من الكذب, وتحتاج إلى جهد الباحثين لفحصها وتمحيصها, ومعرفة الصحيح والكاذب منها, وجهد الباحثين في الاختبار والتمحيص, ليس إلا جهدا بشريا, قابلا للخطأ والصواب - شأن الروايات التاريخية نفسها.
ميزان الصحة في تلك النوعية من الروايات, هو عدم تناقضها مع القرآن العظيم, وكلها إن صحت حقائق تاريخية نسبية, وليست جزءا من الإسلام, وبالتالي فإن تصديقها أو تكذيبها لا يدخل في دائرة الإيمان, بل في دائرة البحث العلمي التاريخي, ولو انكرت كل تاريخ المسلمين, فلن تكون مسائلا عن ذلك يوم القيامة, ولكن لن يكون لك مكان بين العقلاء؛ لك حق الإعتراض, إعتراضاً مدعما بأدلة تعبر عن تخصص في منهج البحث التاريخي, أما إذا اعترضت لأنك تقرأ كلاما جديدا, لم تعرفه من قبل، أو لأنك عشت على تقديس فلان وعلان, وترفض بحث تاريخهم؛ فإن وجودك معنا مضيعة لوقتك ووقتنا، فنحن بخلاف غيرنا, لا نخاطب إلا العقلاء المثقفين, الراغبين في العلم الباحثين عن الحق.
والقرآن الكريم ذكر أقوالاً لخاتم النبيين امتدحه في بعضها, كقوله تعالى: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)}[آل عمران] وعاتبه في بعضها الآخر, كقوله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ (37)} [الأحزاب] وكان العتاب يأتيه دائماً بوصفه النبي, ولم يأت مطلقا عتاب له بوصفه الرسول.
وكان الحديث القرآني عن علاقته بأزواجه, يأتي أيضاً بوصفه النبي, كقوله تعالى: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا (3)}[التحريم] وكان القرآن يخاطب أمهات المؤمنين, فلا يقول يا نساء الرسول, وإنما يا نساء النبي, كقوله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ (30)}[الأحزاب] وكان الحديث عن علاقته بمن حوله يأتي أيضاً بوصفه النبي؛ كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ (53)}[الأحزاب] ولم يأت مطلقاً: ﴿ما على النبي إلا البلاغ﴾ وإنما: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ (99)}[المائدة] ولم يأت مطلقاً: ﴿أطيعوا الله وأطيعوا النبي﴾ وإنما: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ (33)}[محمد] فالبلاغ والطاعة مرتبطان بالرسالة؛ كما أن معنى النبي مرتبط ببشريته.
والآيات القرآنية تثبت أن النبي بشر:
وأن بإمكان الآخرين خداعه وتضليله، وأن عصمته لم تكن إلا من خلال الوحي القرآني فقط، إذ يأتي الوحي يوضح له الحق, ويأمره بالإستغفار من الذنب؛ وعن عصمته بالوحي القرآني فقط, يقول سبحانه: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي (50)}[سبأ] وإضفاء العصمة المطلقة للنبي, إنما هو تأليه لشخصه؛ لذلك أكد رب العزة على بشرية النبي، في عشرات الآيات القرآنية.
هو بشر مثلنا ولكن يوحى إليه، وهذا الوحي القرآني لا يصعد بالنبي فوق مستوى البشر, فغاية ما هناك أنه لابد للوحي من لسان لينطق به, وعلى النبي أن يتبع القرآن مثل غيره, لقوله تعالى: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ (2)} [الأحزاب] وعليه كالآخرين مسئولية التمسك بالقرآن, لقوله تعالى: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ (43)}[الزخرف] وسيكون مسائلا عن القرآن مثله مثل غيره, لقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) [الزخرف].
أي هي مساواة بين النبي والناس في المسئولية وفي الحساب, فهناك مساواة بينه وبين خصومه, في استحقاق الموت وفي التخاصم يوم الحساب أمام الله، نفهم ذلك من قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)}[الزمر] وهناك مساواة بينه وبين المؤمنين يوم الحساب، فلن يحملوا عنه حسابه, ولن يحمل عنهم حسابهم, وفي ذلك يقول سبحانه: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ (52)}[الأنعام] وفي الآخرة لن يستطيع النبي إنقاذ أحد من النار, لقوله تعالى: {أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19)}[الزمر] وليس له من الأمر شيء في الدنيا، لقوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ (128)}[آل عمران] وأكثر من ذلك فهو لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعاً ولا ضراً ولا رشداً, جاء ذلك في قوله تعالى: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا (188)}[الأعراف] .. {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21)}[الجن].
وللرسول في القرآن الحكيم معاني عديدة وهي كالتالي:
1- الرسول بمعنى النبي, جاء ذلك في قوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ (40)}[الأحزاب] والظريف أن هناك من يدعون أنهم أبناء خاتم النبيين, والعجيب أن هناك من يصدقهم !.
2- الرسول بمعنى جبريل, جاء ذلك في قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20)} [التكوير].
3- الرسول بمعنى الملائكة, عن ملائكة تسجيل الأعمال يقول سبحانه: {بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80)}[الزخرف] وعن ملائكة الموت يقول سبحانه: {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ (37)}[الأعراف].
4- الرسول بمعنى الرجل الذي يحمل رسالة, من شخص إلى آخر, كقول نبي الله يوسف لرسول الملك ارجع إلى ربك, جاء ذلك في قوله تعالى: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ (50)}[يوسف].
5- الرسول بمعنى القرآن أو الرسالة, جاء ذلك في قوله تعالى: {حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4)}[فصلت] وينطبق هذا المعنى على جميع الأوامر, التي تحث على طاعة الله ورسوله, فكلها تدل على طاعة كلام الله, الذي أنزله على رسوله.
والرسول بمعنى القرآن, يعني أن رسول الله قائم بيننا حتى الآن, وهو كتاب الله، نفهم ذلك من قوله تعالى: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)}[آل عمران] أي أنه طالما يتلى كتاب الله فالرسول قائم بيننا, ومن يعتصم بكتاب الله فقد هداه الله إلى الصراط المستقيم؛ وكلمة الرسول في أغلب الآيات القرآنية, تعني القرآن بوضوح شديد, كقوله تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ (100)}[النساء] وهذه الآية تقرر حكماً عاماً, فالهجرة في سبيل الله وفي سبيل رسوله (القرآن) قائمة ومستمرة إلى يوم القيامة؛ أيضاً يقول سبحانه: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9)} [الفتح] لم يقل: ﴿وتعزروهما وتوقروهما وتسبحوهما بكرة وأصيلا﴾ لأن التسبيح لا يكون إلا لله, ولا فارق بين الله وكلامه.
والرسول إذا بلغ الرسالة, أصبح شاهداً على قومه, وشهد على - عكس - شهد لــ , فإذا شهدت على فلان, كنت خصماً له, أما إذا شهدت لفلان, فقد صرت مدافعاً عنه شفيعاً له؛ والنسق القرآني يجعل من الرسول, خصماً وشاهداً علينا يوم القيامة, وفي ذلك يقول سبحانه: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ (15)}[المزمل] ويقول أيضاً: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41)}[النساء] وهنا نتذكر قوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30)}[الفرقان] وهذه هي مصيبتنا الكبرى, أننا اتخذنا القرآن العظيم مهجورا, بأن اكتفينا باتخاذه أغنية للمقرئين والمنشدين, في الحفلات العامة ومناسبات العزاء، ورقية وحجابا في البيت والسيارة والمكتب, فأصبح مجرد رمز للبركة, للمعتقدين في الأزوار والأرواح الشريرة، هجرناه بإبعاده عن واقع حياتنا العملية، بينما طبقنا كتب الزيف والأحاديث الشيطانية, واتبعنا أوليائها وأئمتها.
كان خاتم النبيين:
حاكما مسئولاً عن الدولة وقائداً للأمة، وكان المسلمون يحتكمون إليه في أمورهم وقضاياهم، وكان يحكم بينهم بصفته الرسول, الذي ينطق بحكم الله؛ ومفهوم الحكم في القرآن, يعني التحاكم القضائي, وليس الحكم السياسي, والقاعدة الشرعية المستنبطة من القرآن تقول: (أن الحكم لله في أمور النزاع, وينبغي على كل فريق أن يرضى بحكم الله) نفهم ذلك من قوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ (10)}[الشورى] ويقول أيضاً: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا (114)}[الأنعام] فالحكم لله في كتابه الذي نزل مفصلاً، والذي كان ينطق بذلك الحكم ويبلغه للناس, هو رسول الله, لذا تقول آية أخرى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ (59)}[النساء] وحتى لا يقول قائل: أن الرسول قد مات, وترك لنا كلاماً غير القرآن نحتكم إليه, فإن الله قد أوضح لنا, أن الرسول كان في حكمه ينطق بالقرآن لا غير، وهذا ما نفهمه من موقف المنافقين.
كان المنافقون يحتكمون للرسول, إذا كان الحق في جانبهم, أما إذا لم يكن الحق معهم, أعرضوا عن حكم الرسول, ويبين القرآن موقفهم هذا فيقول: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49)}[النور] ويقول أيضاً: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61)}[النساء] فقد كان المنافقون يصدون, لأن الرسول كان يحكم بما أنزل الله, أي بالقرآن الكريم لا غير.
في حين يصف الله المؤمنين بقوله: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)}[النور] ولو كان الرسول شيئاً آخر, منفصلاً عن كلام الله, لجاء الفعل مثنى؛ ولقال سبحانه: ﴿وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكما بينهم﴾ ولقال أيضاً: ﴿إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكما بينهم﴾ ولكن لأن الله هو الحكم, الذي لا يشرك في حكمه أحداً, ولأن الرسول هو الذي ينطق بكلام الله لا غير, فقد جاء الفعل مفرداً, يعود الضمير فيه على واحد لا إله إلا هو, فقال سبحانه: ﴿لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ﴾.
وفي موضع آخر يقول سبحانه: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)}[النساء] قال: ﴿حُدُودَهُ﴾ ولم يقل: ﴿حدودهما﴾ وفي موضع ثالث يقول سبحانه: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62)}[التوبة] قال: ﴿يُرْضُوهُ﴾ ولم يقل: ﴿يرضوهما﴾.. فتأملوا يرحمكم الله.
ولكن ماذا عن قوله تعالى:
{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)}[آل عمران] ماذا عن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (59)}[النساء] ماذا عن قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا (55)} [المائدة] فهل الطاعة في الدين لواحد أم لاثنين أم لثلاثة ؟ المطاع واحد وهو الله الأحد, في أوامره القرآنية, التي نطق بها الرسول أو من يقوم بالأمر بعده، لأن الطاعة ليست لشخص النبي, أو لمن ينطق بالقرآن, ولكنها للقرآن المنطوق.
والقاعدة الشرعية المستنبطة من القرآن الحكيم تقول: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) وأولي الأمر هم أصحاب الخبرة والاختصاص, في الموضوع المطروح للنقاش والتشاور, حيث يتعذر على جمهور المسلمين, أن يتخصصوا في كل شيء, فأولياءنا وأولي الأمر منا هم خبراءنا, وطاعتهم واجبة في حدود تخصصهم, وفي إطار طاعة الله جل وعلا.
وقد كانت طاعة النبي نفسه, مقيدة في إطار طاعة الله وحده، نفهم ذلك من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ (12)}[الممتحنة] والشاهد في الآية هو قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ﴾ فلو قال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ﴾ لكانت طاعته مطلقة, لأنها طاعة للرسالة أي لكلام الله، ولكن لأنه تعالى خاطبه بوصفه النبي, فقد جعل طاعته مقيدة بالمعروف, فقال سبحانه: ﴿وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ﴾.
فالطاعة للرسول, هي طاعة لله صاحب الوحي, والنبي هو أولى الناس بطاعة الله تعالى، وكذلك أولي الأمر, ينبغي أن يكونوا أولى الناس بطاعة الله, وإلا فلا طاعة لهم, نفهم ذلك من قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ (64)}[النساء] ولذلك فإن كل نبي أتى قومه برسالة, كان يخاطبهم بوصفه الرسول, فيطلب منهم أن يطيعوه على أساس الرسالة: ﴿إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ , فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ﴾ ولم يقل لهم: ﴿إني لكم نبي أمين , فاتقوا الله وأطيعون﴾ إذن طاعة الرسول هي طاعة الرسالة.
وعلى العموم, فالإيمان لا يكون بشخص محمد, وإنما بالقرآن الذي نزّل عليه, نفهم ذلك من قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ (2)}[محمد] ونحن لم نتشرف بمعرفته شخصياً, ولا نتبعه لشخصه, وإنما نتبع النور الذي أنزل معه, وهو القرآن الكريم؛ وفي ذلك يقول سبحانه: {وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ (157)}[الأعراف] وهنا يأتي السؤال التقليدي: إذن فأين الاتباع للنبي؟ والجواب أن الاتباع للنبي, هو الاتباع للقرآن, الذي كان يتبعه النبي, هو اتباع الرسول, أي الرسالة, أي القرآن الكريم الذي كان يتبعه النبي.
ماذا عن السنة ؟
السنة هي الشرع وهي الطريقة والمنهاج، وبهاذين المعنيين جاءت كلمة السنة في القرآن, منسوبة لله تعالى ولشرعه, ولطريقته في التعامل مع البشر؛ كانت عادة المشركين الاستكبار عن الحق, والمكر السيئ بالمؤمنين، وكانت سنة الله معهم, أن يحيق مكرهم السيئ بهم, وفي ذلك يقول سبحانه: {اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43)}[فاطر] وكان المشركون يرغمون المؤمنين على الهجرة من ديارهم, لذا كانت سنة الله إهلاك المشركين أو تعذيبهم, وفي ذلك يقول سبحانه: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)}[الإسراء].
وكانت سنة الله, أن يهزم المشركين أمام المسلمين, إذا صدقوا في إيمانهم, وفي ذلك يقول سبحانه: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23)} [الفتح] وقد تآمر المنافقون في المدينة, على المسلمين أثناء حصار الأحزاب, فهددهم الله بأنه سيجري عليهم سنته, في التعامل مع المشركين, إن لم ينتهوا عن مكرهم السيئ, جاء ذلك في قوله تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)}[الأحزاب].
ونحن نتحدث في لغتنا العادية فنقول: (سنّ قانوناً) أي شرع قانوناً, وحين يُسن القانون يكون ملزماً للناس, ولابد من طاعته، وهذا المعنى جاء في قوله تعالى: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38)}[الأحزاب] ففي الآية نجد (سنة الله) مرادفة لكلمتي (فرض الله وأمر الله) الذي جعله الله قدراً مقدورا, إذن سنة الله بمعنى الشرع, هي الفرض والأمر الإلهي الواجب التنفيذ, وكان تعبير القرآن عنها, أنه لا تبديل ولا تحويل لسنة الله, وكان على النبي أن ينفذ سنة الله, حتى لو كان فيها حرج عليه؛ وينبغي علينا أن نعلم, أنه لا فارق بين السنة والفرض, لأنهما شرع الله الواجب التنفيذ، فالصلاة والزكاة والجهاد والصيام .. الخ, كلها سنن الله وفرائضه.
أما عن الأسوة فيقول سبحانه:
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)}[الأحزاب] لم يقل: ﴿سنة حسنة﴾ وإنما قال: ﴿أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ فالسنة لله لأنها شرع الله وأوامره كما أسلفنا، أما الاقتداء والتأسي بالرسول, فيكون في تطبيقه العملي لسنة الله؛ على أنه من المفيد أن نستزيد فهماً للآية الكريمة, من خلال السياق الذي جاءت فيه، والواضح أن الآية نزلت في التعليق على غزوة الأحزاب.
كان أهل المدينة عند حصار الأحزاب فريقان: المنافقون وقد تخاذلوا: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12)}[الأحزاب] ثم المؤمنون الذين تماسكوا وثبتوا: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)}[الأحزاب] وقد كان رسول الله القدوة في الشجاعة والثبات؛ لذا قال تعالى عن موقفه هذا: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ وكان بين المؤمنين من تأسوا بالنبي في الشجاعة, وفاقوا أقرانهم, فقال تعالى عن موقفهم هذا: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)}[الأحزاب].
إذن فالتأسي بالرسول, كان في سياق قصة معينة, وموقف محدد, ويؤكد ذلك أن الله تعالى أمر المؤمنين, بالتأسي بإبراهيم والذين معه, حين تبرءوا من قومهم, فقال سبحانه وتعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ (4)}[الممتحنة] .. {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ (6)}[الممتحنة] فقد حدد القرآن, الموقف الذي ينبغي التأسي بهم فيه وهو: ﴿إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ﴾.
وكما أمر الله المؤمنين بالتأسي برسوله في موقف معين, فقد أمر رسوله بالاقتداء بهدي الأنبياء السابقين فقال سبحانه وتعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ (90)}[الأنعام] لم يقل سبحانه: ﴿فبهم اقتده﴾ وإنما قال: ﴿فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ﴾ ولم يأمر الله خاتم النبيين بالاقتداء والاتباع لإبراهيم, وإنما أمره باتباع ملة إبراهيم, وفي ذلك يقول سبحانه: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا (123)}[النحل] فالاقتداء والتأسي على الإطلاق, إنما يكون بشرع الله وسنته؛ ونسأل الله تعالى أن نعيش على سنته, وأن نموت عليها.
ولكن ما معنى قوله تعالى:
﴿وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾؟ الحقيقة أن أغلب الناس يجهلون معنى هذه الآية الكريمة, ذلك أن كهنة الدين يقطعونها عن السياق, ويلوون عنقها ويحرفون معناها, ليستدلوا بها على مشروعية المصادر الأخرى, التي أضافوها للإسلام، وحتى نفهم المدلول الحقيقي للآية, ينبغي أن نقرأها من أولها, يقول سبحانه: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7) لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا (8)}[الحشر] فالآية كما هو واضح تتحدث عن الفيء - أي ما يفيء إلى بيت المال بلا حرب أو قتال - وعن توزيعه على الفقراء والمحتاجين دون الأغنياء, وتقول للمؤمنين: (وما آتاكم الرسول من هذا الفيء فخذوه, وما نهاكم عن التطلع إليه فانتهوا). ثم تبين الآية التالية استحقاق الفقراء المهاجرين لذلك الفيء, كونهم تركوا أموالهم وديارهم إبتغاء فضل الله ورضوانه.
وقد كانت عادة سيئة للمنافقين في المدينة, أن يربطوا رضاهم عن الإسلام, بمدى استفادتهم المالية منه, فمع أنهم أغنياء فقد كانوا يزاحمون الفقراء, في الحصول على الصدقات؛ وعن ذلك يقول سبحانه: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59) إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)} وهذه الآيات من سورة التوبة, توضح المعنى المقصود لقوله تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ﴾ فشأن المؤمن أن يرضى بما آتاه الرسول, وشأن المنافق أن يطمع فيما ليس من حقه, وألا ينتهي عن طمعه.
وقد يقال في الرد علينا: أن القاعدة الأصولية تقطع, بأن خصوص السبب لا يمنع عموم الاستشهاد، فإذا كانت الآية تتحدث عن الفيء, فإن قوله تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ عامة في وجوب الأخذ بكل ما آتانا به الرسول, وبوجوب الانتهاء عن كل ما نهانا عنه. وردا عليهم نقول ما قاله رب العزة: {إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73)}[آل عمران] وقد منَّ الله بفضله هذا على خاتم النبيين, وفي ذلك يقول سبحانه: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87)}[الحجر] ويقول أيضاً: {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99)}[طه] وأكثر من ذلك يقول سبحانه: {إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ (41)}[الزمر] فهذا الكتاب هو الذي نزل على الرسول لنا، وهو ما أتانا به الرسول, وعلينا أخذه والتمسك به, والانتهاء عما نهانا عنه.
وتلفت النظر:
تلك الكراهية الشديدة من المشركين للقرآن الكريم, ومحاولتهم مع النبي, أن يغير في كلام القرآن, أو أن يبدله، وكان النبي يرد على مطلبهم هذا, بإعلان خوفه من عذاب الله العظيم, وأنه لا يستطيع عمل ذلك أصلاً, والدليل أنه لبث فيهم سنين قبل نزول القرآن, وهو مثلهم لا يدري بشيء، نقرأ في ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16)}[يونس].
أحكم المشركون الحصار والخداع حول النبي, يداهنونه ويطمعون في أن يصلوا معه إلى حل وسط؛ فحذره الله بقوله: {فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)}[القلم] ولكنهم استمروا في سعيهم, وكادوا أن يؤثروا على النبي, إلا أن عصمة الله للوحي كانت أسرع من كيدهم، وتعبير القرآن في وصف ما حدث, أقوى مما يمكن أن نصفه نحن: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)}[الإسراء].
وأكثر من ذلك, ففي القرآن شهادة للرسول, تبرئه من أحاديث البخاري وغيره, وتثبت أنه لم يتقول على الله شيئاً, وأنه لم يتحدث في دين الله إلا من خلال القرآن، جاء ذلك في قوله تعالى: {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47)} [الحاقة] وحيث أن تلك العقوبة الهائلة لم تحدث, فهي شهادة للرسول بأنه لم يتقول على الله شيئاً آخر.
يتميز القرآن العظيم, بكثرة ورود كلمة ﴿قُلْ﴾:
على نحو يختلف به, عن التوراة والإنجيل اللذين بين أيدينا, وكلمة قل من أهم الكلمات القرآنية, وقد وردت (332) مرة, وهي تعني أن هناك أقوالاً محددة, أمر الله رسوله أن يقولها للناس؛ وباستقراء المواضع القرآنية التي جاءت فيها كلمة قل, نتأكد أن القرآن كان يتابع الرسول, بإجابات مستفيضة ومتكررة, عن كل شيء يحتاجه الناس, بحيث لم يكن لدى الرسول مجال أو متسع أو تصريح, ليتكلم في دين الله من عنده, وهذا يعني أن أقوال الرسول وأحاديثه, كانت من داخل القرآن الكريم, خصوصاً ما كان فيها الأمر الإلهي قل.
والذي لا شك فيه, أن النبي بعقليته كان أصلح الناس للاجتهاد في الافتاء، وكان منتظراً منه أن يبادر بالإجابة على من يسأله, أو يستفتيه في أمور الدين، ولكن الواقع القرآني يؤكد, أن النبي كان ينتظر نزول الوحي, ليأتي بالإجابة، فينزل قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ﴾﴿قُلْ﴾ ﴿يَسْتَفْتُونَكَ﴾﴿قُلْ﴾ ولم يقل: ﴿يستفتونك قل إني أفتيكم﴾ وإنما ﴿قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ﴾.
ومن مراجعة كلمتي يسألونك ويستفتونك, مع كلمة قل, نتعرف على الحقائق التالية:
1- كانوا يسألون النبي عن أشياء جديدة في التشريع, وكان النبي ينتظر معهم الحكم التشريعي الجديد, الذي ينزل به القرآن الكريم؛ كسؤالهم عن الأنفال أو الغنائم.
2- كانوا يسألون النبي عن إيضاحات جديدة, في أمور تحدث عنها القرآن من قبل, وكان بإمكان النبي أن يجيب بالاستنتاج والقياس، ولكنه لم يفعل وانتظر الإجابة من الله جل وعلا؛ كسؤالهم عن الخمر - وهل كان النبي يشرب الخمر قبل نزول القرآن ؟!.
3- كانوا يسألون النبي عن أمور تكرر حديث القرآن عنها, ومع ذلك لم يتل عليهم الإجابة, من الآيات التي نزلت من قبل, وإنما كان ينتظر نزول الوحي, فينزل بإجابات تؤكد ما سبق بيانه؛ كسؤالهم عن اليتامى.
4- كانوا يسألون النبي عن أشياء, لا نشك لحظة, في أنه كان يعرف الإجابة عنها من خارج القرآن، ومع ذلك لم يبادر بالإجابة من عنده, وإنما انتظر الوحي؛ كسؤالهم عن المحيض - وهل كان النبي يعتزل زوجته خديجة قبل نزول القرآن ؟!.
5- وأكثر من ذلك, فهناك حقيقة قرآنية مؤكدة, وهي أن النبي لا يعلم الغيب, ولا يعلم موعد قيام الساعة, ولا ما سيحدث له أو للناس, وأن علم الساعة لله وحده, وفي ذلك يقول سبحانه: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ (9)} [الأحقاف] .. {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ (188)}[الأعراف] وقد وردت آيات كثيرة تؤكد هذا الكلام, وكانت تكفي آية واحدة لو كانوا يعقلون؛ ولكنهم سألوا النبي عدة مرات عن الساعة، ومع ذلك لم يبادر بالإجابة بأن يقرأ عليهم الآيات السابقة, وإنما انتظر الوحي، وكان الوحي ينزل دائماً بنفس الإجابة, وهي أن علم الساعة لله وحده, وأن النبي لا يعلم الغيب, ولو كان من حق النبي الاجتهاد والافتاء, لأجاب منذ السؤال الأول أو الثاني.
على أن كل تلك التأكيدات القرآنية لم تأت عبثاً, فبالرغم من كل ذلك, أسند الناس للنبي آلاف الأحاديث, التي تتحدث عما سيحدث بعد موته, وعن علامات الساعة وأحداثها, وأحوال أهل الجنة وأهل النار؛ تلك الأحاديث التي ملأت الكتب المسماة (صحاح) تؤكد إعجاز القرآن الحكيم, لأننا نفهم الآن, لماذا كرر الله جل وعلا كل تلك التأكيدات؟ وذلك ليرد عليهم سلفا ومسبقا؛ كل تلك الأحاديث الضالة, تضعنا في موقف اختبار أمام الله تعالى, فإما أن نصدق القرآن العظيم ونكذبها، وإما أن نصدقها ونكذب الله جل وعلا, ولا مجال للتوسط.
كانت مسئولية النبي أن يجتهد في طاعة الله, وتطبيق أوامره وتنفيذ شريعته، وحتى في ذلك أمره الله أن يشاور المؤمنين في الأمر، ولو كان للنبي حق الشرح والتشريع, لأصبح للدين مصدران، وكان لابد حينئذ, أن يحظى المصدر الثاني بحفظ الله, شأنه شأن المصدر الأول, ولكن ذلك لم يحدث, لأن مسئولية الرسول تنحصر في التبليغ, وليس من مسئوليته التشريع, ونضيف إلى ذلك, أنه طالما كان الوحي ينزل, والشرع لم يكتمل بعد, فلم يكن هناك مجال للاجتهاد في التشريع.
ولكن هل يصلح اجتهاد النبي في التطبيق لمن جاء بعده من المؤمنين ؟ إن اجتهاده في التطبيق للنصوص الشرعية, كان يخضع لإمكاناته البشرية وظروف الزمان والمكان, وهي مختلفة بالتأكيد عن ظروفنا, وبالتالي فليس اجتهاده التطبيقي في عصره ولعصره, ملزما لمن جاء بعده؛ ومثلاً يقول سبحانه وتعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ (60)}[الأنفال] كان اجتهاد النبي في التسلح والاستعداد العسكري, محكوما بظروف عصره، فهل نتمسك بذلك أم نجتهد بما يناسب عصرنا ؟ بالتأكيد نجتهد بما يناسب عصرنا.
والسؤال الآن:
ما هي حدود الاجتهاد في شرع الله, ومتى يكون مباحاً, ومتى يكون محظوراً ؟ إن الله يقول: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ (21)}[الشورى] فمع نبرة الهجوم والتخويف في الآية, من ذلك التشريع الذي لم يأذن به الله جل وعلا, فإن في الآية تصريحاً بوجود تشريع يرضى عنه سبحانه, إذا جاء في الحدود التي يأذن بها.
والملاحظ أن آيات التشريع القرآني محدودة, فهي أقل من مائتي آية, أي ما يعادل حوالي (1/30) من آيات القرآن الكريم، وآيات التشريع القرآني على قلتها ومحدوديتها, تعني أن تشريع القرآن ترك هامشاً للحركة الإنسانية, للاجتهاد والتطور وفق المتغيرات, ولكن ينبغي أن يكون ذلك في الإطار العام لتشريعات القرآن, التي تهدف إلى إقرار القيم الإنسانية العليا المتعارف عليها في كل زمان ومكان, من العدل والقسط والمساواة والحرية والسلام والإحسان, إلى الرحمة والرفق والعفو والتيسير وحفظ الحقوق والدماء.. الخ.
وتفصيل القول في تشريعات القرآن, ومواضع الاجتهاد فيها يحتاج إلى مجلد كامل، ولكن نكتفي هنا بإشارات سريعة: هناك تشريعات قرآنية خاصة بزمانها ومكانها, ولا مجال لتطبيقها في عصرنا، مثل حديث القرآن عن التشريعات الخاصة بالنبي, وبيوته وزوجاته وعلاقاته بأصحابه.
وهناك تشريعات قرآنية, لا يمكن تطبيقها إلا إذا توفرت ظروفها, فإذا لم تتوفر ظروفها فلا حاجة بنا لتطبيقها، مثل احكام الرقيق، إذ لا ضير في أن يذكرها القرآن، فشأن التشريع أن يذكر كل حالة، أما التطبيق فلا يكون إلا إذا وجدت حالات صالحة للتطبيق، وعلى سبيل المثال: فالقانون يتحدث عن نفقة الزوجة المطلقة, ولكن ذلك لا يتم تطبيقه على الأعزب الذي لم يتزوج ولم يطلق, فإذا تزوج وطلق زوجته, أصبح خاضعا بحالته تلك للقانون, وهكذا فتشريع القرآن عن الرق, لا يسري إلا في عصر يكون فيه الاسترقاق شائعا إجتماعيا.
وهناك الثابت والمتغير في تشريعات الجهاد، وهو موضوع شرحه يطول، يدخل فيه التدرج في التشريع في العلاقات بين المسلمين المسالمين والمشركين المعتدين، وعلى المسلمين مراعاة ذلك التدرج في التقنين، وأيضا في التطبيق؛ علما بأن الجهاد في الإسلام, هو بذل النفس والمال في سبيل الله جل وعلا, دعوة سلمية وقتال دفاعي, في إطار تقوى الله جل وعلا.
وهناك تشريعات قرآنية لا تحتاج إلى تقنين بشري, ولا دخل لسلطة الدولة بها, ومنها تلك الوصايا الأخلاقية المذكورة في القرآن الكريم, لأن مناط تطبيقها موكول للفرد, في تعامله مع ربه جل وعلا، وفي تعامله مع نفسه ومع الآخرين، ويدخل كل ذلك في الإطار الأخلاقي للقرآن الكريم.
وقد جاء التشريع القرآني, بنصوص جامعة مانعة في أمور محددة, كالمحرمات في الزواج والأطعمة, وجاء بأنصبة محددة في الميراث, وتحريم قتل النفس إلا بالحق أي القصاص.. الخ، ومطلوب منا أن نجتهد في تطبيق هذه النصوص التطبيق الأمثل، لا أن نجتهد في الاعتداء عليها, وتغييرها بالإضافة والتشويه, ثم احتكم التشريع القرآني للعرف والمعروف في التطبيق لأحكامه التفصيلية؛ وبالعرف والمعروف يمكن تطبيق تلك القيم العليا في المجتمع, وفق العرف السليم ومواءمته للعصر الذي يعيشه الناس, في كل ما تركه القرآن للتقنين البشري، ويدخل في ذلك كل شيء, من قوانين الإسكان والمرور إلى قوانين الاستيراد والتصدير والهجرة.. الخ.
وكل قانون بشري روعـيت فيه القيم الأخلاقية السامية, فهو تشريع إسلامي أذن به الله تعالى, وذلك لكي يتيح القرآن المجال للتطور الاجتماعي والإنساني, ولتظل تشريعات القرآن فوق الزمان والمكان، ومثلاً يقول سبحانه وتعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ (233)}[البقرة] فلم يحدد القرآن مبلغاً من المال بالدرهم والدينار, وإنما قال: ﴿رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ ليشمل الجانب النقدي والجانب العيني, وتطبيق ذلك بالعرف السائد, من النقد والعملة وسائر أحوال المعيشة, ومدى المناسب لوضع المرضعة ووضع المجتمع, وينبغي هنا أن يقوم الناس بوضع القوانين التي تناسب عصرهم.
ويلفت النظر عناية القرآن بالشورى, وإلزام النبي بها وهو الذي ينزل عليه الوحي، وجعلها من سمات المجتمع المسلم، وبها يمكن للمجتمع صياغة قوانين في إطار العرف والمعروف, سواء في تطبيق التفصيلات والتشريعات القرآنية, وتنزيلها على الواقع المعاش, وفق المتعارف على أنه الأكثر عدلا ويسرا، أو في استخلاص قوانين جديدة فيما ينفع الناس, فيما تركه القرآن للبشر للتقنين, وما أذن الله تعالى لهم في تشريعه, في اطر وضوابط القيم والمبادئ الإسلامية العليا.
وبإيجاز:
فإنّ عقيدة الإسلام المتمثلة في (لا إله إلا الله), ينبع منها المبدأ الأول للشريعة الإسلامية، وهو المساواة بين البشر جميعا, في الحقوق والواجبات والمسئولية والحساب، وينتج عن هذه المساواة المبدأ الثاني، وهو فريضة الشورى الإسلامية أو ما يعرف اليوم بالديمقراطية المباشرة أو الحرية السياسية وحُكم الشعب، وتحريم الاستبداد باعتباره نوعا من التأليه للبشر.
ومن الإيمان باليوم الآخر, ينبع المبدأ الثالث من مبادئ الشريعة الإسلامية، وهو الحرية المطلقة في الدين لكل فرد (عقيدة ودعوة وشعائر) في هذه الدنيا، لأن كل فرد سيكون مسائلا يوم القيامة عن إختياره الديني, أمام الله جل وعلا وحده، وعليه يتحدد مصيره بين الخلود في الجنة أو الجحيم, وبالتالي فلا بد من تقرير الحرية المطلقة في الدين, حتى لا تكون حُجة على الله جل وعلا, لأي إنسان يوم القيامة؛ ويرتبط هذا أيضا بعقيدة (لا إله إلا الله) لأن لله جل وعلا وحده حق الحكم بين الناس, في اختلافاتهم الدينية والعقائدية، وبالتالي فإن من ينتزع هذا الحق من رب العزة, إنّما يجعل نفسه بقصد أو بدون قصد إلهاً مع الله جل وعلا, ويتقمّص دورا إلهيا لا ينبغي أن يكون, إلا لرب العزة جل وعلا.
والمبدأ الرابع وهو العدل أو القسط، هو المقصد والهدف من إرسال كل الرسالات السماوية. والإسلام هو دين السلام، وبالتالي فإن تشريع القتال في الإسلام, هو لتأكيد الطابع السلمي للشريعة الإسلامية, ويكون السلام بذلك هو المبدأ الخامس من مبادئ الشريعة الإسلامية. وأخيرا فقد أرسل الرحمن الرحيم, خاتم النبيين بالقرآن رحمة للعالمين, ومن هذه القيمة العليا (الرحمة) ينبع المبدأ السادس, وهو حق الحياة, أو تحريم قتل النفس البريئة, أو حصانة حق الحياة للنفس البريئة. ومن الرحمة أيضا ينبع المبدأ السابع من مبادئ الشريعة، وهو التخفيف والتيسير ورفع الحرج في إصدار التشريعات.
بإيجاز أكثر، فإن مبادئ الشريعة الإسلامية هي: (1) المساواة (2) الديمقراطية المباشرة أو الحرية السياسية وحُكم الشعب وتحريم الاستبداد (3) الحرية المطلقة في الدين (4) العدل (5) السلام ( 6) حق الحياة (7) التخفيف والتيسير ورفع الحرج في إصدار التشريعات.
ومجال تطبيق هذه المبادئ في الشريعة الإسلامية, ينحصر في التعامل السلوكي الظاهري بين الناس, بغض النظر عن عقيدتهم وفكرهم. وواضح للعيان أن هذه المبادئ, تتناقض تماما مع المبادئ المذهبية, المعروفة بالتزمّت والإستبداد, ومصادرة الحرية الفردية والدينية والسياسية، وإضطهاد المرأة وغير المسلم.
والتشريعات الإسلامية عموما:
تقوم على ثلاث درجات: (أوامر، وقواعد، ومقاصد) والعادة أن الأوامر التشريعية تخضع في تطبيقها, للقواعد التشريعية, بينما تخضع القواعد للمقاصد التشريعية, وقد جاءت الأوامر وأساسها التخفيف والتيسير وليس التعسير, وفي ذلك يقول سبحانه: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ (185)}[البقرة] ويقول أيضاً: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)}[النساء] وهذه القاعدة هي الأساس في تشريعات الإسلام, وتنفيذ هذه القاعدة يخضع للتقوى, أي لخشية الله تعالى, أو بتعبيرنا المعاصر الضمير الحي, الذي لا يكتفي بالتأنيب على الخطأ, والعزم على عدم العودة إليه، ولكن قبل ذلك, يمنع الإنسان من الوقوع في الخطأ.
والتقوى تجمع في ثناياها الإيمان الصحيح بالله تعالى واليوم الآخر, مع المداومة على عمل الصالحات أي العبادات والمعاملات, ولذلك لا يدخل الجنة إلا المتقون, فالإيمان وحده لا يكفي، والعمل الصالح وحده لا يكفي, هذه هي التقوى كقيمة عليا في الإسلام, ومنهجه الخلقي والعقيدي والتشريعي, وهي جوهر الإسلام, والغاية الكبرى من كل العبادات والأعمال الصالحة؛ وفي التقوى نجد الاجابة عن كل التساؤلات, التي يتساءل عنها الناس، وهي البديل الأمثل الذي يستغني به المسلمون, عن كل تلك الثرثرة الفقهية التي حفلت بها كتب التراث اللعين.
ففي المجال التشريعي, تأتي التقوى في سياق التشريعات نفسها, وتأتي أحيانا منفصلة عنها, باعتبارها قيمة عليا في حد ذاتها، فالأمر بالتقوى تكرر للمؤمنين وللنبي نفسه, وكان أحيانا يأتي في مطلع السور, وتأتي التقوى في سياق التشريع, لتؤكد على ضرورة ربط التطبيق البشري للتشريع الإلهي, بإحياء الضمير والسمو بالنفس وتزكيتها, وحسن العلاقة المباشرة بين الإنسان وربه, الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وإذا كان الإنسان يعلم أن الله تعالى يراه, فلا بد له من أن يخشى الله تعالى, ويسعى في مرضاته جل وعلا, حتى لو كان بمأمن من السلطة البشرية والمراقبة البوليسية, من أجل هذا الدور السامي للتقوى في التشريع القرآني, نجد الأمر بالتقوى يرصع جميع آيات التشريع القرآنية.
ورغم هذا الاقتران بين التشريعات القرآنية والتقوى, إلا أننا لا نجد أدنى إشارة لها في التشريع المذهبي, في عصر الازدهار الفكري، لا في فقه العبادات ولا في فقه المعاملات, وبحذف هذا الجانب الروحي, ركز التشريع المذهبي على التدين السطحي, وتجميع كل تفصيلاته الممكنة والخيالية، ثم انحدر الفقه المذهبي في عصوره المتأخرة والمتخلفة, إلى التخيلات والتصورات السخيفة المستحيلة الحدوث, والتي امتلأت بها كتب الفقه في العصر العثماني, مثل: ما حكم من حمل على ظهره قربة فساء، هل ينقض وضوؤه أم لا ؟ من جاع في الصحراء ولم يجد إلا جسد نبي من الأنبياء، هل يجوز له الأكل منه أم لا ؟ ماحكم من زنى بأمه في نهار رمضان في جوف الكعبة ؟ وماذا عليه من الإثم ؟ وما حكم من كان لقضيبه فرعان وزنى بامرأة في قبلها ودبرها, فهل يقع عليه حد واحد أم حدان؟ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
على أن المحصلة النهائية لتلاعبهم, بالقواعد التشريعية القرآنية امتدت لتشمل: عدم الاكتفاء بالقرآن الحكيم كمصدر وحيد للتشريع، فأضافوا إليه مصادر أخرى, ابتدعوها وجعلوها عمليا فوق القرآن العظيم, مثل: الأحاديث والإجماع والقياس والمصالح المرسلة, وبعضها كان ستارا لإلغاء النص القرآني, مثل: المفسدة الصغرى والمفسدة الكبرى, وسد الذرائع, الذي استطاعوا به تحريم وجوه كثيرة من الحلال القرآني.
علماً بأن القرآن الكريم:
ليس كتابا متخصصا في العلم أو التاريخ أو التشريع, ولكنه أساسا كتاب للهداية, ومن خلال دعوته للهداية, يأتي القصص القرآني, لا يهتم بتفصيلات الحدث, من الزمان والمكان وأسماء الأشخاص، ولكن يركز على العبرة طلبا للهداية, ومن خلال الهداية, تأتي بعض الاشارات العلمية, لتؤكد سبق القرآن الكريم لعصره ولكل عصر، واستحالة أن يكون من تأليف بشر، ثم تتحدث هذه الاشارات العلمية القرآنية, عن عظمة آلاء الخالق جل وعلا, واستحالة أن يكون معه مثيل أو نظير أو شريك.
ومع الأسف فقد ساد بين السابقين, أن القرآن معجز في فصاحته فقط, فتحول الاهتمام إلى ناحية اللغة والبيان الأدبي فقط, وتحول القرآن إلى نصّ أدبى عند البعض, بينما لم يحظ الاعجاز التشريعي في القرآن بأي اهتمام, بل على العكس, نظروا إليه من خلال ما صنعوه من أحاديث واجتهادات شخصية، وحاولوا التوفيق بينه وبين تلك الأحاديث, لصالح أحاديثهم ورؤاهم، وعالجوا التناقض بين القرآن الكريم وتلك الرؤى البشرية, التي اكتسبت صفة شرع الله, بتجاهل آيات القرآن أو القول بإلغاء أحكامها، أو بتأويل المعنى القرآني وتحريفه, ولولا أن القرآن الكريم محفوظ بقدرته جل وعلا, لتم الغاء معظم آياته - ليس بالمعنى فقط ولكن باللفظ والنصّ أيضاً - ولأنه محفوظ من لدن الله تعالى, فقد ظلت نصوصه حجة على كل ما فعلوه بالقرآن, مما يسمى بالتفسير والتأويل والحديث والسنة والنسخ وغيرها من الأباطيل.
القرآن الكريم لا تنتهي إعجازاته, وفي عصرنا يكتشف العالم جوانب كثيرة من اعجازه العلمي، وفي العصور القادمة سيكتشف العالم المزيد والمزيد, حيث سيظل القرآن الكريم معجزا لكل عصر إلى قيام الساعة, واليوم يهلل المسلمون عندما تتوافق حقيقة علمية مكتشفة حديثا مع القرآن الكريم, والغريب أنهم لا يسألون أنفسهم السؤال المؤلم: إذا كانت هذه الإشارات العلمية موجودة في القرآن الكريم, منذ خمسة عشر قرنا, فلماذا غفل عنها علماء وأئمة السلف (سنة وشيعة وصوفية) ؟ لماذا ظلت مجهولة في القرآن الكريم, الذي اعتادوا قراءته وحفظه في الصدور ؟
الإجابة لأنهم انشغلوا عن القرآن الكريم, بكل ما يخالف القرآن الكريم من النسخ الأعوج, والحديث الملفق, والسنة المزعومة, مرورا بالتأويل الأخرق, والفقه الهابط, إلى خرافات التفسير, وأساطير أسباب النزول؛ انشغلوا بما ابتدعوه لأنهم اختلفوا فيه, فازدادوا انشغالا عن القرآن الكريم, ولا يزالون في اختلافاتهم الهائلة في توافه الأمور, والتعرض لذلك الهجص يخرجنا عن التزامنا بالاختصار، علاوة على أنه لا يستحق عناء النقاش.
والملاحظ أن للقرآن الكريم أساليب مختلفة في التعبير:
فالأسلوب (المجازي أو التصويري) يستعمله رب العزة في الحديث عن الآخرة والجنة والنار والترغيب والترهيب, كقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)}[الإسراء] أما الأسلوب (التقريري العلمي المحدد) الذي لا مجال فيه للخلاف في الرأي, فهو الأسلوب المعتاد في التشريعات, كقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ (17)}[الفتح] ولا يمكن أن يقول الله شيئا بالإثبات, وهو يريد به عكسه, فلا يمكن أن يقول سبحانه: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) وهو يقصد (الذين لا يطيقونه) ومن يقوم بإضافة (لا) فقد ارتكب جريمة التحريف في كتاب الله العزيز.
والتعبير بصيغة الماضي عن أمر سيقع في المستقبل, هو أبرز الأساليب المستعملة قرآنياً في الحديث عن أحداث الساعة, وأحوال أهل الجنة وأهل النار, والتعبير بصيغة الماضي عن أحداث القيامة المستقبلية, يعني تحقق وقوعها، ومثلاً قال تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73)}[الزمر] أي (وسيساق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا وما أن يصلوا إليها ستفتح أبوابها وسيقول لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين)وفي افتتاح سورة القمر يقول سبحانه: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} أي اقتربت الساعة وسينشق القمر, وذلك ضمن انشقاق السماوات, وتدمير العالم وقيام الساعة.
وعلى العموم هناك مستويات لفهم القرآن الكريم: أبسطها مستوى الهداية, وهو مُتاح لمن يريدون الهداية, كقوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ (19)}[محمد] حيث نرى الآيات واضحة وبكل بساطة وبلا تعقيد، ووضوحها يصل إلى من كان قلبه نظيفا, مُطهّرا من رجس الشيطان وأحاديثه الضالة؛ ثم هناك مستويات أعمق, وهي متاحة أيضاً لمن يريدون أن يتأهلوا ويتبحروا في العلم القرآني, ليكونوا من الراسخين في العلم, وهذه المستويات تحتاج إلى متخصصين, يقومون بعمليات بحثية عميقة لفهمها, وما يقوله الراسخون في العلم ليس دينا, بل هو اجتهاد في تدبر القرآن الحكيم, وهو اجتهاد يحتاج إلى مراجعة ونقاش، وبهذا يظل الراسخون في العلم, تلاميذ أمام عظمة القرآن العظيم.
والباحثون عن الحق في القرآن الحكيم:
لا بد أن يتمتعوا بالهداية الإيمانية والهداية العلمية، وهما معا أساس نزاهة موضوعية المنهج العلمي, وتتجلى هذه النزاهة في التعامل المنهجي, مع المحكم والمتشابه من آيات القرآن الحكيم؛ فالآيات المحكمة تأتي موجزة اللفظ قاطعة الدلالة, لا مجال فيها لأكثر من رأي؛ أما الآيات المتشابهة, فيتكرر فيها المعنى الواحد بصور مختلفة، وفي نفس الوقت تؤكد الآيات المتشابهة, المعنى الذي تأتي به الآيات المحكمة, بل وتشرحها وتفصلها وتوضحها دون أدنى تناقض معها, أي أنها تعطي في النهاية حقيقة قرآنية واحدة.
والباحثون عن الحق محايدين, يدخلون على القرآن الكريم, بدون رأي مسبق يسعون لإثباته، ولا يفرضون عليه أهواءهم وأمنياتهم, ليؤكدوا ما توارثوه من عقائد, حتى لا يأتون في النهاية, بما يخالف مراد الله جل وعلا؛ بل يتركون أنفسهم بين يدي آيات القرآن الحكيم، وهم مستعدون للتمسك بأي حقيقة قرآنية, تظهر لهم من خلال أبحاثهم, ومستعدون أيضاً لأن يضحوا في سبيلها, بكل ما توارثوه من عقائد وأفكار, بل وبحياتهم ومستقبلهم إن لزم الأمر.
وبالإضافة للموضوعية والحيادية, يجب أن يتمتع الباحثون القرآنيون, بفهم علوم اللغة العربية وأسرارها البلاغية, وبعد هذا الاستعداد الإيماني الموضوعي العلمي, يقومون بتتبع الآيات المحكمة في موضوعاتهم البحثية، ثم ما يتصل بها من آيات متشابهة، وبربط هذه بتلك, يجد الباحثون عن الهداية أن موضوعاتهم قد توضحت, بعد أن قاموا بواجب التدبر.
والمؤمنون بالقرآن المبين:
يؤمنون بأن الأنبياء هم أصلح البشر لتحمل مسئولية الرسالة, وإلا لما اختارهم الله جل وعلا: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ (124)}[الأنعام] على أن مسئولية الرسالة تنحصر في النهاية في التبليغ فقط, فالرسول ليس مصدر الدين أو الشرع, لقوله تعالى: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ (99)}[المائدة] هذه الجملة القرآنية أصبحت مثلاً يقال على اللسان، والنسق القرآني هنا جاء بأسلوب القصر والحصر, الذي يحصر مهمة الرسول, في إبلاغ الرسالة فحسب؛ وتبليغ الرسالة معناه إيصالها كما هي دون زيادة أو نقصان, وتبليغ الرسالة لا يعني مسئولية الرسول عن هداية الناس, لأن الهداية مسئولية شخصية لكل إنسان، إذ على الرسول تبليغ وتوصيل الهداية القرآنية فقط، ثم يكون كل إنسان حراً في قبولها أو رفضها, وفي ذلك يقول سبحانه: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ (29)}[الكهف].
ومن اقتصار مهمة الرسول على التبليغ للرسالة, يمكن أن نستنتج أن تدبر الكتاب, والاجتهاد في فهم معانيه من مسئولية الناس, وهذا الاستنتاج العقلي قد أثبته القرآن قبلنا، حيث يقول سبحانه: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)}[ص] فالنسق اللغوي في الآية, كان يقتضي أن يقال للرسول: ﴿كتاب أنزلناه إليك مبارك لتتدبر آياته﴾ ولكن التدبر في الكتاب مسئولية تقع على عاتق الناس وليس الرسول؛ وأكثر من ذلك, يؤكد القرآن الكريم على مسئوليتنا في التدبر، فيقول سبحانه وتعالى, بتعبير الاستفهام الإنكاري: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)}[النساء] .. {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)}[محمد] .. {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68)}[المؤمنون].
والله جل وعلا يخبرنا أن القرآن الكريم بصائر للناس, ودعانا إلى تبصره, وأوضح لنا أنه لا شأن للرسول بنا, بعد أن أدى مهمته في التبليغ، نفهم ذلك من قوله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104)}[الأنعام] اجتهادنا في فهم القرآن الحكيم, فريضة دينية اسمها (التدبر) والتدبر معناه: أن يسير القارئ للقرآن الحكيم دُبر الآية, يتتبعها في سياقها القرآني في كل موضع, حتى يستوعب المراد منها, لأن القرآن الحكيم مثاني, وفيه التشابه وتكرار المعنى وتفصيله, وآياته تفسر بعضها بعضاً ولا تتناقض؛ والتدبر عملية عقلية فكرية, يقوم بها القارئ للقرآن العظيم, متشجعاً بآياته التي تحث على البحث والتفكر, والتعقل والنظر والعلم والتـفـقه.
إن ضربا حقيقياً من يقظة الإسلام, ليست ممكنة إلا بقراءة جديدة للقرآن العظيم, قراءة متحررة من التفسيرات الجافة والمجففة؛ لكن مشكلتنا أننا نقرأ القرآن بعيون موتى, ونعتمد على تفسيرات القدماء, تلك التفسيرات التي جعلت الكلام الحي للقرآن العظيم كلاماً ميتاً؛ إذا تدبرنا القرآن الحكيم طلباً للهداية, وبمنهج علمي, وبدون هوى مسبق أفلحنا, وهذا بفضل الله وكرمه وليس بشطارتنا, أما إذا اجتهدنا في الدين فأخطأنا, فالخطأ يلحق بنا نحن, ولا شأن للدين بنا؛ وكلنا بشر يجوز علينا الخطأ والنسيان والهوى والعصيان.
وهكذا فقد ظهر مما سبق:
أن حقيقة الإسلام, التي يقررها القرآن الكريم, تختلف تماما عما كتبه الأسلاف ويعتقده العامة, فشريعة الإسلام تتناقض كلية مع الشريعة المذهبية السائدة؛ والتناقض يشمل كل شيء, من المبادئ والقواعد إلى التشريعات التفصيلية, بل وعلى مستوى العقيدة, والأخلاق والتعاملات بين البشر؛ مبادئ الشريعة الإسلامية تقوم على أساس: العلمانية والديمقراطية المباشرة والعدل والسلام والتخفيف والحرية المطلقة في الدين والفكر.. الخ. أما الشريعة المذهبية السائدة فقائمة على الحظر والاستبداد والإكراه والظلم والبغي والتزمت والتعصب وسفك الدماء البريئة.. إلى ما لا نهاية.
وفي مواجهة الشريعة المذهبية السائدة, فإن من واجبنا التصحيح والإصلاح, مستعينين بالله جل وعلا, من خلال قرآنه المجيد, وحقيق بكل من يحب الله تعالى, أن يبرئ الإسلام من كل الأوزار التي التصقت به؛ وعلى النقيض من ذلك تماما, فهناك أفاكون ينادون لإحياء وتفعيل ذلك الضلال, فيتاجرون باسم الإسلام في دنيا السياسة والمطامع الدنيوية, ليصلوا به إلى الحكم, وكله يهون في سبيل الكرسي الملعون؛ ونحن ننادي بأن الإسلام يحتاج إلى من يعاني, في سبيل إظهار وتجلية حقائقه المغيبة والمجهلة, ويحتاج إلى من يدافع عنه, ضد أولئك الذين يشوهون صورته ومبادئه, ويشترون بآيات الله ثمناً قليلاً؛ ولكن يبدو أن أكثر الناس لا يؤرقهم الطعن في الإسلام, ولكن يؤرقهم الطعن في الروايات التي تشوه الإسلام.
أولئك المتدينون بالإسلام - بزعمهم - لم يفعلوا شيئا للإسلام العظيم, سوى استخدامه في طموحهم السياسي, وبالانغماس في فتن السياسة وتآمراتها, فانفردوا بسفك الدماء وهتك الأعراض وجمع الأموال؛ ولأنهم يحملون اسم الإسلام زوراً وبهتانا, ويطلق عليهم بالغباء لقب (إسلاميين) فقد أصبح بهم الإسلام موسوما بالإرهاب الدموي, والتخلف والتطرف والتزمت والتعصب؛ هذا هو ما قدموه للإسلام, وكل ذلك يهون عندهم, في سبيل أن يصلوا إلى السلطة الملعونة؛ ولو كان الإسلام في قلوبهم فعلا, لتفرغوا من أجل توضيح حقائقه وقيمه العليا, وشريعته السمحاء وصلاحيته لكل زمان ومكان.
والمفجع أن ما يهتم به المتأسلمون, ليس تنقية عقائدهم من تلك الأحاديث الضالة, وإنما يهتمون بالدعوة إلى تطبيق الشريعة المستمدة منها؛ ومع أنها شريعة متخلفة ومخالفة للقرآن الكريم, إلا أنهم يدافعون عنها, ويرفضون الاحتكام للقرآن الكريم وحده, رفضا تاما, بل ويسعون لإقامة دول مذهبية, ليضيفوا بذلك خطيئة أخرى إلى خطاياهم؛ والعقل السليم يقرر: أن البداية المثلى تكون بشرح عقائد الإسلام الحقيقية في القرآن الكريم, وبعدها يكون التطبيق الفعلي للشريعة المستمدة من كتاب الله وحده, أما المتاجرة بالدعوة إلى تطبيق شريعة مستمدة من تلك الأحاديث الشيطانية, والزج بالشباب في صدام مع المخالفين باسم الدين, فهو تلاعب بدين الله وإفساد في الأرض.
نحن الموحدون - القرآنيون:
لسنا حزبا سياسيا أو جماعة مسلحة أو طائفة أو مذهب أو نحلة أو فئة أو سلالة؛ نحن مجرد تيار فكري إسلامي, يعمل على إصلاح المسلمين سلميا, بالاحتكام إلى كتاب الله، نعرض عقائدنا وتراثنا عليه, تلبية لأوامر رب العزة, بالاحتكام إلى القرآن الكريم؛ نلتزم بأسس الدعوة في القرآن الكريم, أي نجهر بالحق ونصدع به مع الإعراض عن الخصوم, بل ونحاول ما أمكننا, أن نصفح وأن نغفر وأن نتحمّل؛ نقول الحق كاملا, ولا تأخذنا في الحق لومة لائم؛ وليس في منهجنا دعوة سرية أو فترة سرية, فنحن لسنا ارهابيين أو مجرمين, وليس لدينا ما نخاف من كشفه.
ونحن لا نؤلف من خيالنا تاريخا للصحابة والمسلمين, بل من مصادر تاريخ الصحابة والعصر الأموي وما تلاه, لا نفرض أمانينا على التاريخ المكتوب, بل نلتزم ببحثه موضوعيا, بلا تقديس لبشر أو انحياز لشخص على حساب آخر, فجميعهم عندنا سواء, أي مجرد شخصيات تاريخية؛ وهذا هو مجال تخصصنا وعملنا البحثي التاريخي, بمنهجيته الصارمة الباردة .. ليس ذنبنا أن التعليم في بلادنا فاسد, وأن الشيوخ جهلة, وأن العوام صم بكم عمي فهم لا يعقلون, وأنهم يتعلمون تقديس الخرافة, من المساجد والمدارس وقنوات التليفزيون وغيرها.
وليس في مسيرتنا القرآنية كهنوت, لذا فليس من حقنا أن نقيد رأي أحد, أو أن نفرض دعوتنا أو منهجنا على أحد, فلكل إنسان أن يكتب وينشر آرائه وقناعاته بكل حرية, وليس لنا إلا مناقشتها ونقدها؛ يكفي أن نقول رأينا مستدلين بالقرآن الكريم, مستشهدين به محتكمين إليه, ثم بعدها نقول للناس: اعملوا على مكانتكم إنا عاملون؛ وطالما لا يعتدون علينا, ولم يخرجونا من ديارنا, ولم يمارسوا علينا الإكراه في الدين, فعلينا أن نعاملهم بالبر والقسط, ونحن بهذا لا نطلب جاها ولا أجرا على الدعوة من أحد، هو مجرد الإصلاح السلمي بالقرآن, ابتغاء مرضاة الله جل وعلا, واعتمادا وتوكلا عليه, وليتذكر المخالف لنا, أن غيرنا يكتب ليؤجج الفتنة وإراقة الدماء, أما نحن فنكتب لإنقاذ الأمة منها.
أما من يريدون أن يركبوا ظهورنا باسم الإسلام, ويضعون في شعاراتهم أن القرآن دستورهم, أو أن مسيرتهم قرآنية, فإن من حقنا أن نناقشهم, وأن نفند مزاعمهم، لنرى أين هم من شعاراتهم؟ وأين القرآن الحكيم منهم؟ رغم أنهم يرفضون الحوار معنا, ويتعاملون معنا بالتجاهل وبالاتهامات والتجريح؛ فتنطلق منهم علينا اتهامات بالكفر والزندقة والخيانة والعمالة, تمهيداً لاعتقالنا أو تصفيتنا، وكنت أتعجب من قسوة تلك الحملات علينا ونحن قليل ضعاف! هل تم حلّ كل مشكلات الأمة, بحيث لم تبق إلا مشكلة وحيدة هي نحن؟! وهل ما ندعو إليه من حوار وإصلاح سلمي, بالاحتكام إلى القرآن العظيم, جريمة عظمى تستحق كل هذا العقاب, بحيث يتحالف الجميع ضدنا؟!
ولماذا ينسى الجميع خلافاتهم وذكريات صراعهم, ويقبلون التحالف ضدنا, ونحن لا حول ولنا ولا قوة؟! هي أسئلة بريئة ومعروف إجابتها .. فنحن أكبر خطر على كل المتلاعبين بالدين, نحن بدعوتنا البسيطة, بالاحتكام للقرآن المبين نهدد طموحهم، وننبه المثقفين المخدوعين إلى ذلك التناقض الهائل, بين الإسلام وتراث وواقع الأمة؛ وبالتالي فنجاحنا يعني تدمير طموحهم، والقضاء علينا يزيح من أمامهم عقبة عاتية, تمنعهم من الوصول إلى السلطة أو الحفاظ عليها؛ لم يدركوا أن التجربة الإنسانية تؤكد: أن اضطهاد الفكر هو السبيل الأمثل لكي ينتشر ذلك الفكر ويسود, طالما يواجه العنف بديلا عن النقاش؛ بين هذا وذاك يكون جهادنا السلمي في سبيل الله, وصدق الله القائل: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)}[الحج].
وتخيلوا معي:
لو أصبح الدين علاقة فردية بيننا وبين الله جل وعلا, دون تدخل سادتنا وكبراءنا, وبعيداً عن المذاهب وكهنوتها وثرثرتها؛ تخيلوا لو لم ننشغل بذلك القيء الفقهي, ولم نحمل على ظهورنا أسفاره العفنة؛ ولو لم تقم الدول الحديثة بإحيائه ونشره, تحت مسمى الشريعة الإسلامية؛ تخيلوا لو أننا ركزنا جهودنا فيما أمرنا الله تعالى به, من السير في الأرض والبحث التجريبي في آلاء الله تعالى, وما سخره لنا في هذا الكون؛ تخيلوا لو ركزنا جهودنا في استخلاص دستور الدولة المدنية العلمانية الديمقراطية العادلة, وطبقناه في بلداننا؛ لو أن هذا التخيل صار واقعا, لتغير تاريخ العالم، ولاسترحنا من تراث عصور مظلمة, امتلأت بالأمراض والجهل والفقر والتخلف, والحروب المذهبية والطائفية والسلالية.
وعلى العموم فالبشر مختلفين وتلك هي مشيئة الله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)}[هود] وهي دعوة للتسابق في الخير, نفهم ذلك من قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)}[المائدة].
ونحن في هذه الدنيا خصمان في العقيدة, ولا يحق للخصم أن يحكم على خصمه، ولكن ننتظر إلى يوم القيامة ليحكم بيننا رب العزة في خصومتنا، فيدخل أحدنا الجنة, ويرمي بالآخر في السعير, وذلك مصداقاً لقوله تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24)}[الحج].
وفي الختام نرجو منكم زيارة الموقع الإلكتروني لأهل القرآن؛ لمعرفة منهج القرآنيين؛ وقراءة مؤلفات الدكتور
أحمد صبحي منصور - رئيس المركز العالمي للقرآن الكريم.
www.ahl-alquran.com