نزيف أفكار

كمال غبريال في الأحد ٠٢ - نوفمبر - ٢٠١٤ ١٢:٠٠ صباحاً

 
• الشمس ساطعة في نهار خريف نيوجرسي Garden State، وغاباتها الخضراء تتلون أوراقها قبل أن تتساقط بدرجات ألوان الأحمر والبرتقالي والأصفر. الرجل الأبيض يقود سائر أجناس البشرية نحو المجد. بالعلم والجهد والإنسانية، تتأسس هنا للبشرية كلها حضارة عظيمة. . "البعض يسميها صدقة. ونحن نسميها إنسانية". . إعلان لمنظمة إغاثة إنسانية في ميدان "تايم سكوير" بمانهاتن- نيويورك. هذه هي الثقافة والأخلاق الأمريكية. إنها الإنسانية!!. . أجد هنا في أمريكا "اليهود الأرثوذكس"، بلحاهم الطويلة والطاقية التقليدية. أناس طيبون مسالمون منعزلون. لعل أعظم ميزة في اليهودية، هي كونها ديانة غير تبشيريةفقد جمد هذا تراثها الوحشي الدموي، ما ينضح من تراثها ونصوصها المقدسة، وإلا لكانت استهدفت الآخر بأكثر مما يعرف العالم الآن من وحشية.
الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في أمريكا تناهض احتفال "الهالوين"، فهي تريد أن يكون أي احتفال هو فقط احتفال ديني، كما تمليه على الناس الكنيسة. الأقباط يستجيبون لاحتفالات الكنيسة البديلة في تلك المناسبة، ويحتفلون أيضاً بالهالوين. أظن أن هذا وضع مؤقت، حتى تظهر أجيال جديدة، تردع وتجبر أصحاب اللحى والعمائم السوداء على التزام حدودهم، أو البحث عن عمل شريف يتكسبون منه!!
يكاد التعصب أن يكون غريزة إنسانية، فالإنسان بحاجة لاستشعار ذاته وقيمته، بامتلاكه لحقيقة مطلقه، يتعصب لها، وتشعره بالتميز عن سائر الناس، الذين يحتاجونه ولاشك، ليطلعهم أو يجبرهم على تجرع ما لديه من حقائق لا نظير لها.
يذهب المصريون إلى بلاد المهجر، وهم أشبه بالمعوقين الذين يحتاجون للانتماء والفكر الديني، يتعكزون عليه ليستقيم عودهم. ويحتاجون للقيم والتقاليد المجتمعية المصرية، كصدفة تحميهم من التلامس المباشر مع الهواء الطلق ونور الشمس. هناك في المهجر ينجبون الجيل الأول. يحاولون توريثه ذات الإعاقات العقلية والسيكولوجية المقدسة، وفي الأغلب ينجحون في هذا جزئياً فقط. هم يلجأون لحضارة تشعرهم بآدميتهم، لكنهم يرفضون فكرها وثقافتها، ويتمسكون حتى الموت بفكر وثقافة "اللاحضارة" التي هربوا منها نجاة بأنفسهم. ربما علينا انتظار الجيل الثاني والثالث الذي يولد بالمهجر، لنستطيع الحكم على الجينات المصرية، إن كانت كجينات سائر البشر قابلة للتحضر، أم أن العيب الأساسي فيها.
• كان من المفترض أن تكون إسرائيل رأس جسر للحضارة الغربية في الصحارى العربية المجدبة. لكن الكائنات القاطنة في تلك الصحارى، حالت دون اكتمال الجسر وانسياب العلم والنور عبره، ليبقى رأس الجسر وحده مهدداً، في بيئة قفر، لا يجدي فيها علم، ولا تنمو فيها حضارة. ما يحدث في تونس يشير إلى بارقة أمل في الشعوب التي التصق بها مسمى عربية، وإن كان شتان بين الشعب التونسي بثقافته الفرنسية، وبين الشعب المصري وأمته العربية. هناك زعماء يتذكرهم الأحرار المتحضرون، وزعماء لا يتذكرهم سوى الأفاقين والمهاويس. عن الحبيب بورقيبة وجمال عبد الناصر أتحدث.
• إذا كانت الوهابية فيروس بدوي مستورد، فإن الكائنات المصرية هي الوسيط الذي نقل المرض إلى سائر أنحاء العالم. مخطئ من يتصور أن المشكلة في مصر هي فقط فكر الإرهاب. ولا هي أيضاً فقط فساد الكبار. الأمر أكبر وأشمل من هذا بكثير. هي مشكلة تفاهة وضعف سيكولوجية الشخصية المصرية. يسمونها انخفاض الطاقة النفسية، مما يجعل الإنسان أشبه بخرقة بالية. خرقة تصلح ممسحة لكل صنوف الدجالين والطغاة. ويجعل الإنسان يتصاغر أمام كل ما حوله من معالم الحياة، فيكذب وينافق ويسرق ويتكاسل ويهمل في عمله. لتكون النتيجة أن يصبح المجتمع أشبه بصندوق كبير للقمامة غير القابلة لإعادة الاستخدام أو التدوير. شكراً لرجال داعش، الذين وضعونا أخيراً في مواجهة ساخنة مع حقيقتنا وهويتنا وثقافتنا. مقولة "إكرام الميت دفنه" تنطبق أيضاً على الثقافات البائدة. إذا وجدت مهاطيل ينصرفون عن بشاعة الإرهاب وسفك الدماء، ليبحثوا إن كان الضحايا سيدخلون الجنة أم النار، يبقى أنت أكيد في مصر!!
• ساذج من يتصور أن الإعلام أو بضعة شباب حركة تمرد، هم من أخرجوا ملايين المصرين ثورة على الإخوان. فهؤلاء لم يفعلوا أكثر من ترديد ما كان بقلوب وعقول الشعب المصري، من رفض وجزع من حكم ذئاب الظلام. لن يستطيع الإعلام المسلط علينا الآن أن يخدع هذا الشعب طويلاً. ولن يصبر المصريون طويلاً على كل هذا الفشل والكذب والخداع. عجزهم في الرؤى الاقتصادية والسياسية نستطيع أن نتفهمه، لكن ماذا عن الوضع العسكري؟!!. . ليس بهؤلاء القادة وأذيالهم يمكن لمصر أن تنتصر في أي معركة. هناك رجال للهزائم كما كان عبد الناصر. وهناك رجال للانتصارات كما كان السادات. وهناك من "لا يصلحون لا طبلة ولا تار"!!. . "بالناي والمزمار. لا يحدث انتصار. بالإعلام والنحنحة. تتكرر المذبحة". . مع الاعتذار لنزار قباني.
ليس أبغض إلى النفس من عاجز يتصنع البطولة، وجاهل يدعي الحكمة. هناك من يتصورونها معركة إعلامية، ينتصر فيها من يجيد "دهان الهوا دوكو"، ويتقن مهارة "بيع الترماي". الإرهاب مع الأسف لا يرحم الأونطجية والنصابين!!
لا توجد أي قرارات يمكن أن نتخذها الآن، لتغيير ما ترزح فيه مصر من بلاءفلأي إصلاح مقوماته على أرض الواقع، ونحن شعب لم ينجح إلا في اكتناز كل ما هو كفيل بتحقيق الفشل المطلق في كل مناحي الحياة. سر انتصارات الإرهابيين الكاسحة، ليس فقط استبسالهم من أجل قضيتهم. لكن الأخطر أنهم يواجهون شعوباً ومجتمعات متفسخة فاشلة، تنتظر فقط من يدفعها دفعة هينة لتتداعى وتتلاشىلكي تنجح أي مؤسسة في أداء مهامها بجدارة يلزمها التالي: تأهيل جيد للأفراد- تجهيز جيد بالمعدات والأجهزة الحديثة- هيكل تنظيمي جيد- فكر ورؤية جيدة توجه العمل. ترى في أي مؤسسة مصرية تتوفر هذه المقومات؟!!
• قضية بدو سيناء شائكة. فالبدو في كل مكان يعيشون في حالة حضارية بدائية دون مرحلة الزراعة. وهذا لا بأس به، إن تم بصورة سلمية هادئة، دون تهديد للجوار والمحيط المتحضر. لكن إن اتخذ نمط العيش البدوي خطاً يشكل تهديداً للوطن المفترض انتمائهم إليه، وشكل حاضنة لتيارات بدائية وحشية، تتوافق طبيعياً مع نمط البداوة، فإن الأمر هنا يدخل في طور حاسم ومصيري، إذ يأخذ شكل المواجهة المباشرة بين البداوة والحضارة. الحل لابد أن يكون بدفع هؤلاء دفعاً من قاع حياتهم البدائية، ليختلطوا بالمجتمع المصري المتحضر. أي بتذويبهم في المحيط المصري الكبير.
مع الأسف الحدود غير واضحة، بين ما يصح وما نحتاج فيه لتنوع واختلاف الآراء، وبين ما لا يجب أن نختلف حوله، وإلا كنا أمة منقسمة على نفسها، وتدمر نفسها بنفسها. أظن أن متطلبات الدفاع عن الوطن ضد التهديدات الخارجية والإرهابية، مما لا يصح الاختلاف حوله. رأيي الشخصي أن معارضة ما يتخذه الجيش المصري من إجراءات لتهجير البدو، حفظاً على حياتهم، وتمكيناً للجيش من تطهير المنطقة، هي معارضة تتراوح ما بين الجهل، والضعف عن مواجهة المواقف الحاسمة، والتجارة والارتزاق بالشعارات، والعمل لحساب تيارات الظلام والإرهاب. أفيقوا يرحمنا ويرحمكم الله!!
• يسأل كثيرون عن الحل، ويبحثون عن نافذة أمل. الحل والأمل ليس في أي مما نراه الآن أو نرصده على الساحة المصرية. هو فقط انتظار الجديد الذي قد يتخلق، إذا ما اكتملت شروط "الفوضى الخلاقة". ننتظر طفرة ثقافية، هذا ما لم يكن الأمر يحتاج معها إلى طفرة جينية!!

kghobrial@yahoo.com
 
 المصدر ايلاف  
 
اجمالي القراءات 7917