كان النبي يحب الأنصار لموقفهم الرائع من المهاجرين ونصرة الدعوة، فأتت إليه امرأة من الأنصار ذات مرة تكلمه في أمرٍ ما.
هذه الحادثة وثقها الرواة تحت عنوان.." فضائل الأنصار".
ولكن البخاري خالف الرواة بتوثيق الحادثة تحت عنوان آخر تماماً ويقلب المعنى بالكلية، حيث وثقها تحت عنوان.."فضائل النساء"..وحذف الأنصار، وبوّب لها باباً تحت عنوان.."ما يجوز أن يخلو الرجل بالمرأة عند الناس"..
والفرق واضح أن هذه سقطة حديثية خلعت الفعل نفسه من سياق إلى سياق آخر تماماً به شبهات ومطاعن على الرسول..وإليكم الدليل.
في مسند الطيالسي(ت204هـ) روى الحادثة كما يلي.." حدثنا عبد الله قال: حدثني أبي، قثنا محمد بن جعفر قثنا شعبة، عن هشام بن زيد قال: سمعت أنس بن مالك يقول: جاءت امرأة من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فخلا بها، وقال: «والذي نفسي بيده، إنكم لأحب الناس إلي، قال يعني الأنصار"..(3/545).
في مسند أحمد(ت241هـ) قال:.." حدثنا عبد الله قال: حدثني أبي، قثنا محمد بن جعفر قثنا شعبة، عن هشام بن زيد قال: سمعت أنس بن مالك يقول: جاءت امرأة من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فخلا بها، وقال: «والذي نفسي بيده، إنكم لأحب الناس إلي"..(باب فضائل الأنصار مسند أحمد 2/808).
في صحيح مسلم (ت261هـ) قال:.." حدثنا محمد بن المثنى، وابن بشار، جميعا عن غندر، قال ابن المثنى: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن هشام بن زيد، سمعت أنس بن مالك، يقول: جاءت امرأة من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: " فخلا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: «والذي نفسي بيده إنكم لأحب الناس إلي ثلاث مرات"..(باب فضائل الأنصار صحيح مسلم 4/1948)
أما عند البخاري(ت256هـ) فوثقها تحت عنوان آخر وأعطى لها معنىً آخر تماماً حيث قال.." حدثنا محمد بن بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة، عن هشام، قال: سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: جاءت امرأة من الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم فخلا بها، فقال: «والله إنكن لأحب الناس إلي"...(باب ما يجوز أن يخلو الرجل بالمرأة عند الناس صحيح البخاري 7/37)
والرواية الأخرى للبخاري وثقها تحت عنوان كيفية اليمين ، حيث قال.."حدثنا إسحاق، حدثنا وهب بن جرير، أخبرنا شعبة، عن هشام بن زيد، عن أنس بن مالك: أن امرأة من الأنصار أتت النبي صلى الله عليه وسلم معها أولاد لها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده، إنكم لأحب الناس إلي» قالها ثلاث مرار"..(باب كيفية اليمين صحيح البخاري 8/31)
ملاحظات على ما سبق:
1-الحديث عن شعبة عن هشام بن زيد عن أنس، ثم انتقلت واختلفت الراوية بعد ذلك.
2-نقل البخاري حديثيه عن شعبة عن وهب بن جرير وغندر المعروف بمحمد بن جعفر الهذلي والمشهور بصاحب الكرابيس، وصاحب الكرابيس هذا لم يعجب ابن حجر حيث قال فيه.."كان فيه غفلة"..ووافقه ابن حبان في الثقات، أما وهب بن جرير فقال فيه ابن حبان.."كان يخطئ "..وروى العجلي أن عفان كان يتكلم فيه.
3-هذا حال رواة البخاري كان من بعده يتكلمون فيهم.
4- تحريف القصة بدأ من الناقلين عن شعبة أو ممن نقلوا عنهم، أو من شعبة نفسه حيث أضاف الراوي عند الطيالسي قصده للأنصار وليس للنساء كما تهوّر البخاري ودون حديثه مخالفاً لسير القصة.
5-الحديث عند البخاري به طعن في رسول الله، حيث يشبهه بزير النساء الذي يعشقهم ويخلو بهم، والدليل تحريفه ضمير الإِشارة من جمع المذكر(إنكم) إلى جمع المؤنث(إنكن) وتبويبه للباب تحت عنوان جواز خلوّ الرجل بالمرأة، ومذهب البخاري في أي قصة أو معتقد يظهر من تبويبه وعناوينه.
والآن إلى المحدثين الذين أطروا البخاري ووضعوه ورجاله في مرتبة العصمة، ما رأيكم فيما سبق؟
لو قلتم أن البخاري أًصاب فقد اتهمتم النبي بعشقه للنساء وخلوّه بالأجنبيات منهن..ثم قسمه على ذلك، وسبق القسم يؤكد الإرادة والحماس لما قيل، فلو قلتم وما الخطأ قلت: أن الأنبياء من صفاتهم الزهد والترفع عن الدنيا وشهواتها، وتكونوا قد أوقعتم النبي تحت طائلة قوله تعالى.." زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب .. (آل عمران:14)
فالأنبياء يبحثون عن حسن المآب وما عند الله، ولا يبحثون عن الشهوات من النساء، وقبولكم بهذا الحديث يخلع صفة من صفات النبوة عن النبي.
أما لو قلتم أن البخاري أخطأ..قلنا وما بال حديثكم أنه.."أصح كتاب بعد كتاب الله"...وما بال إطرائكم لشخصه ورجاله، وما بالكم بمن استدرك على علم الحديث ورفضه للجرح والتعديل كونه يقوم على أحكام نسبية تُفضي إلى أحكام مطلقة باسم الشريعة والسنة، رغم أن العكس هو الواجب، أن يأتي النسبي من المطلق وليس العكس.