يقُول تعالى في سُورة الصَّف مُبيِّنًا واحدًا مِن أعظَم قوانين الكتاب العَزيز: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13). الصَّف.
هذا المَقطع مِن هذه السُّورة المُباركَة؛ يُركِّز على قانُون التِّجارَة الغيبيَّة مَع الله وآثارها وعوائدها على الفَرد والمُجتَمع؛ وهي تقُوم على أربَع دِعامات عِظام: الإيمان بالله حقَّ الإيمان، الإيمان بالرّسُول صِدقًا وتَحقيقًا؛ المُجاهَدة في سبيلِ الله (أي منهجُه المُسطِّر بحذافيرِه كُلاَّ لا جُزءًا) بالنَّفس ثُمَّ المال!!
نواتِج ذَلك وثمارُه أُلخصها لكُم في نقاط:
أوَّلا: النَّجاة مِن عذاب الدُّنيا وعذابِ الآخرَة!! فكما أنَّ التجارة الماديَّة تُحقق الأرباح، ويُجتنى مِنها الفوائِد، ويُتفادَى بِها الخسائِر والنَّكسات؛ لأنَّها نماء وزيادَة وبرَكَة؛ فكذلك التجارة الغيبيَّة لا يُورثُ القُعُود عَنها إلا فتنًا ومصائب ومُتلاحقَة في الأنفُس والأَموال!
(أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ)[التوبة: 126].
ثانيًا: التجارة الغيبيَّة الصادقَة سببٌ لمغفرَة الذُّنوب؛ لأنَّ الجُهد يُكسبُ الإنسان نُورًا في قلبِه؛ تنطردُ بِه الوساوس الشَّيطانيَّة؛ فتتوقَّف المَعاصي تلقائيًّا وتزكُو الطَّاعات؛ فلا يُفكِّر صاحبُ الجُهد بعدَها إلا في خطايا ماضيه كيفَ يتنصَّلُ مِنها؛ فيبدأ مِن ثمَّ في مشرُوع التَّصفيَة؛ وهكذا تتحاتُّ ذُنوبُه كما تتحاتُّ أوراقُ الشَّجر؛ فيلقَى ربَّه بقلبٍ سليم، وصحيفَة بيضاء خاليَةٍ من الأوزار.
ثالثًا: مُكافأة التجارة الغيبيَّة الحقيقيَّة كما يُحبُّها الله ويرتضيها رسُوله؛ المساكِن الطيِّبَة التي تَجري مِن تحتِها الأَنهار! ومِن عجيب المُوافقات أنَّ غايَة ما يبتغيه تُجَّار المادَّة مِن تجارتِهم بناء المساكِن والدُّور كأوَّل مطلب قبل أيِّ شيء آخَر!! أليس كذلك؟!
فيا ويح مَن التَهى بمساكِن الدُّنيا مُقتصرًا عليها، مُوجِّهًا كُلَّ همِّه لَها؛ سادرًا غافلاً عَن بناء المساكِن الطيِّبَة في الآخرَة!
رابعًا: المُكافأة العاجلَة للتِّجارة الغيبيَّة في الدُّنيا، تحقيق النَّصر على أعداء الدِّين المُناوئين لَه، والظُّهور عليهم؛ كما ظهر الحواريُّون على الطَّائفَة الكافِرة من بني إسرائيل؛ وكما ظهر الصَّحابَة الكِرام على كُفَّار قُريش؛ وكذا تحقيق الفُتوحات الماديَّة والغيبيَّة؛ وأعظمُها دُخول النَّاس في دينِ الله أفواجًا، لنكُون عليهم شُهداء يَوم القيامَة!! فالقُعود والخَور لا يُكسب شيئًا؛ فلنتحرَّك ولنُشمِّر كما شمَّر الرَّعيلُ الأوَّل!! ولنستبشِر بعد ذَلك، أمَّا الأماني الفارغَة والدَّعاوى الجَوفاء بدُون حِراك؛ فنحنُ نرى حالَ العالَم الإسلامي؛ والواقِع أكبَرُ شاهِد كما يقُولون!
خامسًا: لا غَرو أن تردَ هذه الآيَات البيِّنات في سُورة "الصَّف" في إشارَة قويَّة واضحَة؛ أن يا بني الإسلام إنَّه لا وِحدَة لكُم ولا رصَّ لصفُوفكم إلا بالتِّجارَة الغيبيَّة!
ألا تَرون كيفَ أنَّ التُّجَّار النَّشِطين يتعاونُون وينسجمُ بعضُهم مَع بعض، ويتفاهمُون فيما بينهُم تفاهُمًا عَجيبًا؟! لأنَّ الحَركي يتلاقَى مع مَن يتحرَّك مثله؛ سيَما مَع وُضوح الرُّؤيَة، وتحدُّد الخارطَة، واتِّحاد الأهداف والغايات القريبَة والبعيدَة؛ وأمَّا بدُون جُهد وتِجارَة؛ فما يُسمَّى ب "مُؤتمرات التقارب والوحدَة" في العالَم الإسلامي شاهدة على مسرحيَّات مُضحكَة، وبروتوكولات عقيمَة؛ وقُلوب تحسبُها جميعًا وهي شتَّى!! تنتهي بالتقاط بعض الصُّور، وتحرير بعض التَّوصيات، ولا شَيء بعد ذَلك!!
اللهم إنَّا نسألُك حُسن الفَهم عَنك، وقُوَّة الجُهد في سبيلِك إلى أن نلقاكَ وأنتَ راضٍ عنَّا! يا رب!!