بسم الله الرحمن الرحيم ، والحمد والشكر لله رب العالمين
(أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) الزمر - 36
مقدمة :
هذه سلسلة من المقالات، التي أود من خلالها محاولة فهم الإسلام – دين الله القيم بشكل حنيف قريب الى المراد الإلهي الذي نبتغيه في بحثنا عن الحق، من منطلق عالميته واتساعه لنواميس الكون وسننه والتغيرات التاريخية في المجتمعات منذ نزوله حتى اليوم.
وأنوه أن فهمي لما ورد هنا هو نتاج تدبر خالص لله تعالى مني لكتابه العزيز فقط، حيث أنني لا أعرف غيره مرجعا لي ومصدرا لعلمي وفكري في دين الله تعالى ، وانا اعرض على الكتاب كل صغيرة وكبيرة حسب جهدي وما أوسعنيه الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها، وهو عبارة عن رأي – أراء لي في بعض المسائل في الكتاب، التي لم يتعرض لها الكثير ، وهي نتاج آنيّ في زمننا هذا وفي وقتنا هذا ، ولا يلزم كونه الحقيقة بل هو نسبي بحكم أن الحقيقة لله وحده تعالى عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال، وهي ما نبحث عنه ونرجوا الوصول اليه.
وأكرر ما قاله تعالى – يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
وبعد،
______________
مقدمه :
إن مفهوم مفردة القِـبلة، يرتكز بشكل أساسي، على فهم واضح لمفردات أخرى، ترابطت بها، وهي التولية للوجه، فإن فقهنا كيف نولّي وجوهنا، سنفقه كيف نوليها قِبَل ماذا أو من! وكذلك على فهم عصريّ وخالص من القرءان للمسجد الحرام وماهيته! والإتباع ومفهومه!
وقبل ان ندخل على البحث هذا، يجب كالعادة أن نتجرد دائما أمام القرءان، بما سيقوله لنا، لكي نحاول دائما البحث عن الحق بدون رأي مسبق، وبالفعل أنا أفعل ذلك، فكثيرا ما تفكّرت في القبلة كاتجاه نتوجه إليه في الصلوة كما علمونا، وكثيرا ما غيرت فهمي بالنسبة لهذه المسئلة، وما زلت كثيرا أظن أنه كل مرة، يجب ان أبحث بقلب صاف، حتى يطمئن هذا القلب، إلى ما يصل إليه من القرءان، وخاصة بسبب تاثير كثير من المقالات المتضاربة حول القبلة بكونها اتجاه، وهذا لا بدّ يؤثر على الرأي للإنسان، ولهذا، سأبذل قصارى جهدي هنا، بأن أتجرد من أي رأي مسبق كنت قد اتخذته أو اتبعته، في محاولة جذرية محايدة للبحث عن هذا المفهوم، الذي يقول لنا أن نتجه نحو شيء أو لا نتجه!
وكما قلت هنا، لكي نفقه مفردة قِبلة علينا أولا فقه مفردتي التولية وكذلك شطر وغيرها مما تم ارتباطه بهذه المفردة، ثم سنعود لفهم القبلة وما هيتها.
______________
مفردات ملازمه :
سنبحث بداية في محاولة منا لفقه مفردة " قِبلة" بشكل تجريدي، فهم بعض المفردات التي ارتبطت بهذه المفردة، وسنبدا بمفردة "التولية"! فهي حسب ظني مفتاح فهم القبلة، لأن اغلب الآيات ارتبطت بها، وبما أننا بحثنا هذه المفردة في الجزء الأول من هذه السلسلة التي تبحث في الصلوة من القرءان، فسنعود، ولا بدّ من أن نكرر بعض ما ذكرناه هناك، ونبحث فيه من جديد، لعلنا نجد بعض ما يوصلنا لفهم هذه المسئلة.
ومن البحث الأول للصلوة، وصلنا إلى أن التولّي هو عكس الإتيان، أي الحركة في الإتجاه المعاكس، وهذا قد يكون معنويا بأن يتولّى الإنسان عن الله، وقد يكون ماديا كما تولّى فرعون فذهب فجمع ثم أتى بالسحرة، ومفردة تولّى بحد ذاتها لا تعني السوء في الفعل، بل هي أن تتجه نحو مبدأ ما أو مكان ما أو شيء محدد معنوي كان أو ماديّ! فمن تولّى عني فهو أتى غيري!
أي أن مفردة التولّي مرتبطة بالمتحدث نفسه، فلو كنت أنا وشخص آخرمقابل لي، وبيننا ثالث، فالثالث إن تولّى عني فهو أتى الثاني، وإن تولى عن الثاني فهو يأتيني.
وحين يرتبط التولّي عن شيء فيه خير، نفهم حينذاك، بأنه عمل سيّء، فمن يتولّى عن الله، فهو يبتعد عنه. هذا إن كان الفعل في المجمل والمبدأ، ولكن حين يرتبط بجزئية من الشخص، كالوجه، فيصبح الفعل أكثر خصوصية من الكل، وحين نقول تولّى عن، هي ليست مثل، ولّى الشيء ، فاستخدام عن، مع مفردة ولّى تفيد الابتعاد عن الشيء، حسب السياق، ماديا أو معنويا!
إذن الخلاصة التي نريد أن نثبتها هنا بناءا على البحوث السابقة والآنيّة، هي أن فعل التولّي يدلّ على التوجّه القلبي أو المعنوي أكثر منه الحركي، على الأقل في أغلب القرءان الكريم.
ثم هناك مفردة الإقبال، وهي مشابهة لمفردة التولّي في بعض الأمور، لكنها ذات دلالة حركية في الأغلب عن كونها معنوية، وهي وردت في الأغلب إن لم يكن كلها، بكونها حركة – ماديه - اتجاه شخص آخر. ولكن ماذا سيحدث إن أخذنا من فعل الإقبال، إسما؟ فيكون قِبلةً ؟ هذا ما سنراه لاحقا في البحث.
وأخيرا هناك مفردة مهمة جدا وهي مفردة الإتباع، فكثيرا ما ارتبطت القبلة بهذه المفردة، وهذا بالتأكيد ليس من عبث، والإتباع لا يكون الا للأثر، فحين أتبعُ ملة إبراهيم، فأنا لم أر إبراهيم ولم أعرفه، ولم أقرأ صحفه كما كانت بين يديه، بل كل اتباعي له كان من أثره، في القرءان الكريم، أي أنا أتبع الأثر الذي تمّ تبليغي به عن إبراهيم كما بقية الأنبياء، وكذلك اتباعي النبيّ، يكون باتباعي أثره الحق الذي ورد في القرءان، ولا أتبع اثرا ظنّا لا علاقة له به، كما فعل أغلب أهل التراث.
ولكي نفهم مدلول القِبلة في القرءان الكريم، علينا أن نأخذ بالإعتبار، كل هذه المفردات ومدلولها، حين نقوم بدراسة الآيات الخاصة بالقِبلة في القرءان الكريم.
______________
قضية تاريخ القبلة والمسجد الحرام من المسجد الأقصى :
من منطلق أن الإتباع يكون للأثر الحق، الذي هو هنا القرءان الكريم، وأن الإقبال في الأغلب ماديّ المدلول، وأن التوجّه في الأغلب معنويّ المدلول، وأن التولّي قد يكون إتيانا ويحمل الماديّ والمعنويّ معا أحيانا، نبدأ البحث.
بداية، من المعلوم من القرءان الكريم، أن القبلة لا بد أن تكون واحدة لكل الملل، سواء ملة اليهود أو النصارى أو إبراهيم، أي هي واحدة لا بد للإسلام كله، فالإسلام دين كل هذا الملل في نهاية الأمر، وأول مرة تم ذكر القبلة هو في موسى وقومه، في ظل ظروف القهر الفرعوني على قوم موسى واستعبادهم وكل القسوة عليهم، فتم ذكرها مباشرة حين قرر موسى أن يهرب ببني إسرائيل من فرعون، فخاف كثيرون من قومه، وتم تبليغ موسى باتخاذ بيوتهم قبلة، ولم يتم ذكر أن الصلوة مرتبطة بهذه القبلة، بل أتى الحديث عن الصلوة بعد انتهاء الحديث عن قبلتهم، ولنقرأ الآيات معا ثم نعود الى موضوعها :
( فَلَمَّا جَآءَ ٱلسَّحَرَةُ قَالَ لَهُم مُّوسَىٰٓ أَلْقُوا۟ مَآ أَنتُم مُّلْقُونَ ﴿٨٠﴾ فَلَمَّآ أَلْقَوْا۟ قَالَ مُوسَىٰ مَا جِئْتُم بِهِ ٱلسِّحْرُ ۖ إِنَّ ٱللَّهَ سَيُبْطِلُهُۥٓ ۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ ٱلْمُفْسِدِينَ ﴿٨١﴾ وَيُحِقُّ ٱللَّهُ ٱلْحَقَّ بِكَلِمَـٰتِهِۦ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُجْرِمُونَ ﴿٨٢﴾ فَمَآ ءَامَنَ لِمُوسَىٰٓ إِلَّا ذُرِّيَّةٌۭ مِّن قَوْمِهِۦ عَلَىٰ خَوْفٍۢ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَإِي۟هِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ ۚ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍۢ فِى ٱلْأَرْضِ وَإِنَّهُۥ لَمِنَ ٱلْمُسْرِفِينَ ﴿٨٣﴾ وَقَالَ مُوسَىٰ يَـٰقَوْمِ إِن كُنتُمْ ءَامَنتُم بِٱللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوٓا۟ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ ﴿٨٤﴾ فَقَالُوا۟ عَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةًۭ لِّلْقَوْمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ ﴿٨٥﴾ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلْكَـٰفِرِينَ ﴿٨٦﴾ وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًۭا وَٱجْعَلُوا۟ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةًۭ وَأَقِيمُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ ۗ وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴿٨٧﴾ وَقَالَ مُوسَىٰ رَبَّنَآ إِنَّكَ ءَاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُۥ زِينَةًۭ وَأَمْوَ ٰلًۭا فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا۟ عَن سَبِيلِكَ ۖ رَبَّنَا ٱطْمِسْ عَلَىٰٓ أَمْوَ ٰلِهِمْ وَٱشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا۟ حَتَّىٰ يَرَوُا۟ ٱلْعَذَابَ ٱلْأَلِيمَ ﴿٨٨﴾قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَٱسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ ٱلَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴿٨٩﴾ ۞ وَجَـٰوَزْنَا بِبَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ ٱلْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُۥ بَغْيًۭا وَعَدْوًا ۖ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَدْرَكَهُ ٱلْغَرَقُ قَالَ ءَامَنتُ أَنَّهُۥ لَآ إِلَـٰهَ إِلَّا ٱلَّذِىٓ ءَامَنَتْ بِهِۦ بَنُوٓا۟ إِسْرَٰٓءِيلَ وَأَنَا۠ مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ ﴿٩٠﴾ ءَآلْـَٔـٰنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ ﴿٩١﴾ فَٱلْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ ءَايَةًۭ ۚ وَإِنَّ كَثِيرًۭا مِّنَ ٱلنَّاسِ عَنْ ءَايَـٰتِنَا لَغَـٰفِلُونَ ﴿٩٢﴾)
إذن من السياق، نفهم أن الله سمح لموسى وهارون أن يبوّءا لقومهما بيوتا في مصر وأن يجعلوها قبلة لهم!
وهنا لا بد أن نقف طويلا...!
فمن المعلوم أن قوم موسى كان لهم بيوت، وهذا مما لا بدّ منه، في مصر، وهم كانوا يعيشون فيها، وبعد حادثة السّحرة، حصل أو طرأ تغيير على الأحداث بشكل مطّرد وبيّن، فالقوم كما يبدو طلبوا الرحيل والهروب من فرعون وجنده، وطمأنهم موسى، وقال لهم أن يتوكلوا على الله، وأن الله منجيهم، وهنا حدث أمر طاريء وخطير كما يبدو!
فلم أوحى الله تعالى إلى موسى وأخيه أن يُبَوِّءا لقومهما بمصر بيوتا أولا؟ وثانيا أن يجعل قومهم بيوتهم قبلة لهم ؟
فهل لم تكن لهم بيوت من قبل؟ بالطبع كان لهم بيوت، فكيف يبوِّءا لهم بيوتا من جديد؟ أو أنّ مفردة يبوِّء هنا تدل على شيء آخر ؟!!
هنا لا بد سأفتري على الله الكذب بأن استنبط وأجتهد برأيي بناءا على الموقف واستخدام المفردات الخاصة في الوصف الذي قرأناه، لكي أحاول تحليل الموقف والقضية، والوصول إلى ما يشبه الواقع الذي يمكن فهمه من خلال كل هذا!
وقبل كل هذا، علينا فقه مفردة تبوّيء!
ألآية المفتاح لفقه مفردة البَوْء هي ما فعله النبي بمن معه من المؤمنين حين بوأهم مقاعد للقتال، والآية عن ابني آدم حين هدد أحدهم الآخر بقتله والآية عن يوسف بعد أن اصبح له ملك مصر!
في ابني آدم قال تعالى ( إِنِّىٓ أُرِيدُ أَن تَبُوٓأَ بِإِثْمِى وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَـٰبِ ٱلنَّارِ ۚ وَذَ ٰلِكَ جَزَ ٰٓؤُا۟ ٱلظَّـٰلِمِينَ ) المائدة – 29 ، وهنا بكل وضوح نفهم ان أحدهما، أي الذي لا يريد أن يعتدي، قال للمعتدي، أنه سيكون مسالما ولن يعتدي عليه، وبهذا هو ينبهه بأنه سيبوء بإثمين، إثم الاعتداء والقتل المحرّم، ومنه سيكون في النار، ومنه، نفهم أن البوء هو الحصول على أو كسب إثم، معنويا بالطبع، سيؤدي الى كسب مكان ماديا!
بينما في آية القتال وفي آية يوسف، كلاهما تدل على الحصول على المكان ماديا وكسبه معنويا ( وَكَذَ ٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى ٱلْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ ۚ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَآءُ ۖ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ) يوسف – 56، ( وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ ٱلْمُؤْمِنِينَ مَقَـٰعِدَ لِلْقِتَالِ ۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) آل عمران – 121، ففي كلا الآيتين هنا نرى المكان، تحديد المكان المادي، مع مدلوله المعنوي معا، فالمقاعد للقتال ليست للجلوس بل هي أماكن حربية عسكرية تتضمن المكان والدّوْر معا، أي تتضمن المدلول المادي والمعنوي معا، فتكون مقاعدا، أي ليلتزموا بهذه الأماكن والمهام الموكلة إليهم وكأنهم ملتصقين بمقعد!
وكذلك أصبح يوسف بحكم كونه مسؤولا عن خزائن مصر، يذهب أينما يشاء، في أي مزرعة أو حقل أو مكان ليشرف عليه، وقد يقوم فيه، وقد لا يقوم فيه، فأصبحت كل أرض مصر الزراعية مكانا له يذهب اليها حيث يشاء!
ومنه: التبوّء هو الحصول على مكان محدد ماديا، ينتج عنه كسب لمهام أو مسؤوليات أو تبعات أخرى معنوية تباعا لهذا المكان، أما البَوْء فهو عكس التبوّء تماما في الترتيب، أي بسبب مهام أو مسؤوليات معنوية، سيتم الحصول على مكان مادي!
وفي موضوعنا هنا، موسى وأخوه سيقومان بتبويء قومهما بيوتا في مصر، ثم سيجعلوا هذه البيوت قِبلة لهم.
ومنه، أستنبط التالي ظنا مني : حين قرر موسى وهارون الهرب مع قومهم من فرعون وجنده كان لزاما عليهم الإختباء لفترة أيام قليلة، حتى يستطيعوا الهرب خفية دون الشعور بهم، وبما أنه آمن مِن قوم فرعون القليل، فقد تم توزيع بني اسرائيل على هذه البيوت المصرية الأصل، أي ممن آمن من قوم فرعون، فأصبحت هي أماكن مخصصة لقوم بني إسرائيل، للبقاء فيها، حتى يتم الهروب بهم، فتكون هي قبلتهم، التي يذهبون اليها، للإختباء، ولا يذهبون الى بيوتهم التي سهل مراقبتها وحصرهم بها وجمعهم فيها!
فالقضية هنا ليست قضية اتجاه في الصلوة أبدا، بل أماكن مختلفة، يقبلون عليها، فتكون هي قبلتهم، حتى يحكم الله بأمره، ويهربون من فرعون وجنده.
هذا تحليل ما كان مع موسى وقومه، ويبقى علينا فهم آيات القبلة عن النبي محمد، ومن معه وأهل الكتاب والعلاقة بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى!
ساقول افتراءا مني على الله الكذب، بأن اليهود والنصارى كانوا يعلمون بالمسجد الحرام والمسجد الأقصى، وأن قبلة اليهود "أصبحت" هي المسجد الأقصى، والذي تم فيه لقاء الأنبياء مع الوحي، وإرسال الرسالات لهم، وخاصة موسى، الذي تلقى الألواح عنده، والذي أُسري به مع أهله من المسجد الحرام، إلى المسجد الأقصى الذي بارك الله من حوله، وبالطبع، الشجرة المباركة هناك، فالمسجد الأقصى موجود في الأرض المباركة، بحكم بركة الشجرة ومن حولها، ( فَلَمَّآ أَتَىٰهَا نُودِىَ مِن شَـٰطِئِ ٱلْوَادِ ٱلْأَيْمَنِ فِى ٱلْبُقْعَةِ ٱلْمُبَـٰرَكَةِ مِنَ ٱلشَّجَرَةِ أَن يَـٰمُوسَىٰٓ إِنِّىٓ أَنَا ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَـٰلَمِينَ) القصص – 30، فموسى كان في البقعة المباركة، وهي ذات الشجرة التي علم بها المؤمنين، أقول أنا ظنا مني، بسبب ما في الآيات، من علمهم لها، حيث قال تعالى عنهم ( لَّقَدْ رَضِىَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ ٱلشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَـٰبَهُمْ فَتْحًۭا قَرِيبًۭا ) الفتح – 18، فالمسجد الأقصى لا بدّ يقع هناك في الأرض المباركة وليس المحرمة ( سُبْحَـٰنَ ٱلَّذِىٓ أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِۦ لَيْلًۭا مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَى ٱلْمَسْجِدِ ٱلْأَقْصَا ٱلَّذِى بَـٰرَكْنَا حَوْلَهُۥ لِنُرِيَهُۥ مِنْ ءَايَـٰتِنَآ ۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ) الإسراء – 1، فكل مفردات البركة جائت في المسجد الأقصى، عند الشجرة المباركة، في البقعة المباكة أي من حول المسجد كله مبارك!
ومن الآيات التالية، نفهم أن المؤمنين ممن اتبع النبي، ومن غيرهم، يعلمون بالمسجد الأقصى، الذي له مكانته عند الذين أوتوا الكتاب من قبل :
(سَيَقُولُ ٱلسُّفَهَآءُ مِنَ ٱلنَّاسِ مَا وَلَّىٰهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ ٱلَّتِى كَانُوا۟ عَلَيْهَا ۚ قُل لِّلَّهِ ٱلْمَشْرِقُ وَٱلْمَغْرِبُ ۚ يَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَ ٰطٍۢ مُّسْتَقِيمٍۢ ﴿١٤٢﴾ وَكَذَ ٰلِكَ جَعَلْنَـٰكُمْ أُمَّةًۭ وَسَطًۭا لِّتَكُونُوا۟ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًۭا ۗ وَمَا جَعَلْنَا ٱلْقِبْلَةَ ٱلَّتِى كُنتَ عَلَيْهَآ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ ۚ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ ۗ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَـٰنَكُمْ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٌۭ رَّحِيمٌۭ ﴿١٤٣﴾ قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِى ٱلسَّمَآءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةًۭ تَرْضَىٰهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا۟ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُۥ ۗ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُوا۟ ٱلْكِتَـٰبَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَـٰفِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ﴿١٤٤﴾ وَلَئِنْ أَتَيْتَ ٱلَّذِينَ أُوتُوا۟ ٱلْكِتَـٰبَ بِكُلِّ ءَايَةٍۢ مَّا تَبِعُوا۟ قِبْلَتَكَ ۚ وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍۢ قِبْلَتَهُمْ ۚ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍۢ قِبْلَةَ بَعْضٍۢ ۚ وَلَئِنِ ٱتَّبَعْتَ أَهْوَآءَهُم مِّنۢ بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ ۙ إِنَّكَ إِذًۭا لَّمِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ ﴿١٤٥﴾)
ومن الايات هذه نعلم أن النبي يعلم بكلا القبلتين، كما يعلم الذين أوتوا الكتب بهما، وأن الذين أوتوا الكتاب يعلمون أن المسجد الحرام أَوْلَى أن يُتّبعَ من المسجد الأقصى، وأنهم يعلمون أن هذا هو الحق من عند الله، والإتباع يكون لما تم إرساله عادة، كما قلنا أعلاه، من أثر حق، والألواح تم تلقيها عند المسجد الأقصى، ولهذا كان اتباعهم له كمرجع أو وجهة معنوية في الرسالة، والقضية أصبحت عندهم ليست مكان ماديّ ابدا، بل هو تحريف لما علموه من قبل وما أرادوه لهم خالصا، فكما قال تعالى للنبي أن يقول ( قُل لِّلَّهِ ٱلْمَشْرِقُ وَٱلْمَغْرِبُ ۚ يَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَ ٰطٍۢ مُّسْتَقِيمٍۢ ) ، وفي آية أخرى عن التولية تنفي الإتجاه جملة وتفصيلا حين يكون الإتجاه مرتبطا برسالة، حين يقول تعالى ( لَّيْسَ ٱلْبِرَّ أَن تُوَلُّوا۟ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنْ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلْءَاخِرِ وَٱلْمَلَـٰٓئِكَةِ وَٱلْكِتَـٰبِ وَٱلنَّبِيِّۦنَ وَءَاتَى ٱلْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ ذَوِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَـٰمَىٰ وَٱلْمَسَـٰكِينَ وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ وَٱلسَّآئِلِينَ وَفِى ٱلرِّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَـٰهَدُوا۟ ۖ وَٱلصَّـٰبِرِينَ فِى ٱلْبَأْسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَحِينَ ٱلْبَأْسِ ۗ أُو۟لَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُوا۟ ۖ وَأُو۟لَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ ) البقرة – 177، حيث نرى في هذه الاية بكل وضوح، أن تولية الوجه ليست هي المهمة بحد ذاتها، فهي قضية تنتج عن قضايا كثيرة تسبقها، وقام بعدّ بعض منها، ومن ضمنها الصلوة، أي أنها قضية لا ترتبط بالصلوة من كل بدّ!
ومن هنا، السفهاء من الناس، ممن لا يعلمون ما هو البِرّ سيقولون، ما الذي ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، فما معنى كانوا عليها؟ لم لم يسالوا " ما ولاهم عن قبلتهم التي يتجهون إليها " أو " كانوا إليها " وليس عليها ؟ ويستمر الخطاب بالحديث عن القبلة التي كان النبي " عليها " بقوله تعالى ( وَمَا جَعَلْنَا ٱلْقِبْلَةَ ٱلَّتِى كُنتَ عَلَيْهَآ) ولم يقل التي كنت إليها، فالاتجاه يكون للشيء وليس على الشيء، فأن أكون أنا " على صراط مستقيم" ليس مثل أن أتجه "إلى صراط مستقيم" ! والإتباع يكون لما " في الرسالة " وليس لمكان ما نتبعه حسب أهوائنا!
ولهذا جاء الحديث هنا عن شيء خطير جدا، وليس المكان فقط ، والذي لا بد أن نصل إليه في نهاية بحثنا هذا ، فالقضية ليست قضية مكان بل اعظم من ذلك ( وَمَا جَعَلْنَا ٱلْقِبْلَةَ ٱلَّتِى كُنتَ عَلَيْهَآ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ ۚ) فمن يتبع الرسول – لنلاحظ وليس النبي - ، فلو كانت القضية قضية اتجاه لمكان، فالنبي هو أولى هنا ذكره من الرسول، لكون النبي أيضا يتبع الرسالة، ولكن تم ربط القضية بالرسول وليس النبي، أي هي الرسالة ذاتها التي ينقلب البعض على عقبيه منها، ثم لو كانت القضية قضية اتجاه لمكان ما، فلم ينظر النبي في السماء ولا ينظر باتجاه المكان الذي يرغبه ؟ ( قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِى ٱلسَّمَآءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةًۭ تَرْضَىٰهَا ۚ)، ولم هو يقلب وجهه في السماء وليس على الأرض؟
فلو كانت القبلة هي كما يقال في التراث، أن أتجه نحو المسجد الحرام، وليس نحو المسجد الأقصى، فلم لم ينظر النبي نحو المسجد الحرام؟ بل نظر في السماء، وكأنه يبحث عما هو أكبر من الإتجاه في الصلوة، هذا إن كان هناك اتجاه في الصلوة أصلا!
حين تعب إبراهيم من البحث عن الحق، كان يبحث دوما عنه في السماء، فلما تعب من ذلك حدث ما حدث ( فَنَظَرَ نَظْرَةًۭ فِى ٱلنُّجُومِ ﴿٨٨﴾ فَقَالَ إِنِّى سَقِيمٌۭ ﴿٨٩﴾ فَتَوَلَّوْا۟ عَنْهُ مُدْبِرِينَ) ، فبعد أن بحث عن القمر والشمس والنجوم قال ( إِنِّى وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ حَنِيفًۭا ۖ وَمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ)، وهذه هي القبلة الأولى المعنوية التي أظنها، فهنا استخدم مفردة " للذي" حين قال وجهت وجهي، وكذلك النبي، نظر في السماء بحثا عن مكان يتبعه؟ فهل يتبع المسجد الأقصى أم المسجد الحرام؟ وقضية الإتباع هنا غاية في الأهمية، يجب أن لا نغفلها أبدا لأن أخر آيات تحدثت فقط عن الإتباع وليس عن الإتجاه !
وحين وجه إبراهيم وجهه لله وحده، وهجر قومه وذهب الى الله مهاجرا وأسلم له وجهه، واستسلم له، بوأه الله تعالى مكان البيت الحرام !
( وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَ ٰهِيمَ مَكَانَ ٱلْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِى شَيْـًۭٔا وَطَهِّرْ بَيْتِىَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلْقَآئِمِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ ﴿٢٦﴾ وَأَذِّن فِى ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًۭا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍۢ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍۢ ﴿٢٧﴾ لِّيَشْهَدُوا۟ مَنَـٰفِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا۟ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِىٓ أَيَّامٍۢ مَّعْلُومَـٰتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّنۢ بَهِيمَةِ ٱلْأَنْعَـٰمِ ۖ فَكُلُوا۟ مِنْهَا وَأَطْعِمُوا۟ ٱلْبَآئِسَ ٱلْفَقِيرَ ﴿٢٨﴾ ثُمَّ لْيَقْضُوا۟ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا۟ نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا۟ بِٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ ﴿٢٩﴾ ذَ ٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَـٰتِ ٱللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌۭ لَّهُۥ عِندَ رَبِّهِۦ ۗ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ ٱلْأَنْعَـٰمُ إِلَّا مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ ۖ فَٱجْتَنِبُوا۟ ٱلرِّجْسَ مِنَ ٱلْأَوْثَـٰنِ وَٱجْتَنِبُوا۟ قَوْلَ ٱلزُّورِ ﴿٣٠﴾) الحج – 26:30، فقوم موسى بوأ الله لهم بيوتهم قبلة، أما من سبقهم، وهو بالطبع إبراهيم، أول من بوأه الله مكان البيت، فكما يبدو، بل ومن الواضح جدا هنا، أن التبويْء كان للمكان، بكليّته، والذي يحوي المسجد الحرام كله، والذي جزء منه البيت العتيق، أي هو توصيف للقرية كلها، مكانها، وفيها مسجد محرّم، وفي المسجد يوجد بيت عتيق، فالبيت العتيق جزء من المكان الذي بوأه الله لإبراهيم، وهي كانت أول قبلة، للحج!
فبمجرد أن بوأه المكان، وطهره قال له أن أذّن في الناس بالحج " يأتوك" رجالا ومن كل فج عميق!
يجب هنا أن نتوقف ونتفكّر ونتدبّر قليلا! أعرف أن الأمر جديد ومفاجيء! لكن هذا ما يبدو لي ولفهمي المتواضع البسيط، أن القبلة هي المسجد الحرام لمن يريد الحج إليها وليس لأشياء أخرى !
ومن هنا كان الجواب للنبي الذي احتار بين مكانين، بين مكان كما يبدو، مع الزمن من بعد إبراهيم، تم جعله قبلة لهم من دون المسجد الحرام الذي هو للناس، ، بكتم ما جاء به إبراهيم، فجعلوا القبلة هي المسجد الأقصى خاصا بهم من دون الناس، لأنه من المعلوم أن أهل الكتاب وخاصة الذين ظلموا منهم، لا يرغبون الخير للناس بل لأنفسهم فقط، بل ولن يقبلوا مشاركة الناس لهم بالقبلة التي هي يجب أن تكون لكل الناس، حسب مفهوم الإسلام بكونه دين الله تعالى القيم، منذ خلق السموات والأرض، فاستجاب الله لما في قلب النبي الذي علم بما تبوّأه إبراهيم من قبل:
( فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةًۭ تَرْضَىٰهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا۟ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُۥ ۗ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُوا۟ ٱلْكِتَـٰبَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَـٰفِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ)، ولهذا جاء الأمر للجميع بأن يولوا وجوههم شطره أينما خرجوا!
ومن الطبيعي أن يرفض الذين أوتوا الكتاب هذه القبلة التي هم في السر يعلمون بها، ولكنهم لا يرغبون بها لكونها للناس وليست خاصة بهم، ومنه، فهم لن يتبعوها أبدا، ولهذا يهدد الله تعالى النبي، بأن لا يتبع قبلتهم من بعد ما جاءه من العلم!
( وَلَئِنْ أَتَيْتَ ٱلَّذِينَ أُوتُوا۟ ٱلْكِتَـٰبَ بِكُلِّ ءَايَةٍۢ مَّا تَبِعُوا۟ قِبْلَتَكَ ۚ وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍۢ قِبْلَتَهُمْ ۚ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍۢ قِبْلَةَ بَعْضٍۢ ۚ وَلَئِنِ ٱتَّبَعْتَ أَهْوَآءَهُم مِّنۢ بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ ۙ إِنَّكَ إِذًۭا لَّمِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ)
فلِمَ يهدده لو كانت القضية متوقفة على اتجاه في الصلوة هو في الأصل ليس علميّ أبدا!
فالله تعالى يعلم أن الأرض كروية، وأنه لا يمكنني علميا وماديا أن أتجه في صلاتي الى مكان محدد بعيد عنى أكثر من 15 درجه! فاتجاهي سيكون للسماء وليس للأرض أبدا!
بل ولَمْ ترتبط آيات القبلة أبدا بالصلوة، بل ارتبطت بمفردات التوجه القلبي والإقبال الحركي والاتباع الفكري للقبلة، وهذا لا يمكن تطبيقه إلا على البيت الحرام – الكعبة – والحج!
فما هو العلم الذي جاء النبي، ليعلم منه أنها هي القبلة الحق؟ هو العلم الأثر عن إبراهيم عليه السلام، وعن كون هذا البيت مثابة للناس وأمنا!
ومن هنا نستطيع بكل بساطة الآن فهم قضية الخروج مع ارتباطها بالقِبلة، وقضية كتم آيات الله البينات التي جائت بعد الحديث مباشرة عن الصفا والمروة بالبيت الحرام:
( ٱلَّذِينَ ءَاتَيْنَـٰهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ يَعْرِفُونَهُۥ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمْ ۖ وَإِنَّ فَرِيقًۭا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ ٱلْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴿١٤٦﴾ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ ۖ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُمْتَرِينَ ﴿١٤٧﴾ وَلِكُلٍّۢ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ۖ فَٱسْتَبِقُوا۟ ٱلْخَيْرَ ٰتِ ۚ أَيْنَ مَا تَكُونُوا۟ يَأْتِ بِكُمُ ٱللَّهُ جَمِيعًا ۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌۭ ﴿١٤٨﴾ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ ۖ وَإِنَّهُۥ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ ۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَـٰفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴿١٤٩﴾ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا۟ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُۥ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا ٱلَّذِينَ ظَلَمُوا۟ مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَٱخْشَوْنِى وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴿١٥٠﴾) البقرة
فما هو الذي يعرفونه الذين اتاهم الله الكتاب كما يعرفون أبنائهم ؟ قديما كنا نقول أنه القرءان! وجهة نظر تستحق الأخذ بها، لكن في خضم الحديث عن القِبلة، وبالذات في الآية السابقة التي تتحدث عن عدم اتباعهم لقبلة النبي ( وَلَئِنْ أَتَيْتَ ٱلَّذِينَ أُوتُوا۟ ٱلْكِتَـٰبَ بِكُلِّ ءَايَةٍۢ مَّا تَبِعُوا۟ قِبْلَتَكَ ۚ) أي ما تبعوا المكان الذي وليناكَ إياه! وهو البيت العتيق، وهو المسجد الحرام في مفهوم آخر، فهم يعرفونه كما يعرفون أبنائهم، ويعرفون حرمته، ولهذا جاء الحديث عن كتم الآيات البينات في بكّة حين قال تعالى ( إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِ ۖ فَمَنْ حَجَّ ٱلْبَيْتَ أَوِ ٱعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ۚ وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًۭا فَإِنَّ ٱللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ﴿١٥٨﴾ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ ٱلْبَيِّنَـٰتِ وَٱلْهُدَىٰ مِنۢ بَعْدِ مَا بَيَّنَّـٰهُ لِلنَّاسِ فِى ٱلْكِتَـٰبِ ۙ أُو۟لَـٰٓئِكَ يَلْعَنُهُمُ ٱللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ ٱللَّـٰعِنُونَ ﴿١٥٩﴾) البقرة ، فهنا بيناه من بعد كتم له، وبيناه لمن؟ للناس!
ولهذا نفهم لم يقول تعالى في خضم الحديث عن القبلة ( وَإِنَّ فَرِيقًۭا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ ٱلْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) ، فهم قاموا بكتم هذا المكان قديما حتى بينه الله تعالى مرة أخرى وأعاد له مكانته وهدفه وأشهره الحُرم الأربع، ومن بعد ذلك، فلكل وجهة هو موليها، هنا نفهم الإتجاه، الذي نتولاه في قلوبنا، أما حين نخرج، فمن حيث نخرج يجب أن نولي وجوهنا شطر المسجد الحرام، أي نتجه نحوه للحج وليس إلى مكان آخر كما ادّعى التراث حين قال أنه تشد الرحال إلى ثلاث أماكن، وما أظن هذا إلا من الإسرائيليات، ولكي لا يكون للناس علينا حجة، نتجه فقط إلى المسجد الحرام حين نخرج أينما كنا لنحج إليه، وبالطبع هم الوحيدون الذين سيعيبون هذا العمل، وهم الذين ظلموا، وبالطبع هم من قام بتحريف هذا كله مرة أخرى، من بعد موت النبي، بالقول أن الرحال تشدّ إلى ثلاث مساجد، بينما الله تعالى في كل هذه الآيات ومنذ إبراهيم قال بأنه إلى مسجد واحد هو المسجد الحرام !
ومن هنا تتبين لنا خطورة الموقف كله، وكل هذا التهديد بأن لا نتبع قبلتهم، وأن نتبع القبلة الوحيدة، المسجد الحرام، الذي ارتبط بالأشهر الحُرُم، التي لا عدوان فيها أبدا بل سلام بين كل البشر، وهي أشهر أربع متتابعة يعم فيها الخير واجتماع الناس للتعارف والمنافع وتبادل الثقافات والعلم ولإطعام الفقراء والمساكين وهذا كله ما لا يريده الذين ظلموا أنفسهم حتى اليوم ممن ظلم نفسه، بل ومن كون هذا المكان ذاته محرم طيلة العام لكل من دخله أو كان فيه!
______________
خلاصه :
القِبلة : هي مكان نتجه نحوه لنحج إليه أينما كنا ومتى خرجنا.
بيوت قوم موسى القبلة : أي يتجهون نحوها ويذهبون إليها وقت الخوف من فرعون.
القِبلة لا علاقة لها بالصلوة لا من قريب ولا من بعيد بل بالحج فقط.
إنتهى.
والله المستعان
مراجع :
* المرجع الرئيسي الأساسي الحق – كتاب الله تعالى – القرءان الكريم