من فتاوى الشيخ محمد رشيد رضا جاء في موسوعته للفتاوى ما يلي:
سؤال: هل ورد في ليلة النصف من شعبان والدعاء المختص بها أحاديث صحيحة يُعمل بها؟
الجواب" إن اتخاذ هذه الليلة موسماً من مواسم الدين من البدع الحادثة في القرون المتوسطة، وهذا الدعاء ابتدعه أحد الجهال، وما يقولونه في فضائل الليلة غير صحيح.......وقال الحافظ أبو الخطاب بن دحية في العلم المشهور:حديث ليلة النصف من شعبان موضوع.....وقال التقي السبكي في تقييد التراجيح:الاجتماع لصلاة النصف من شعبان وصلاة الرغائب بدعة مذمومة....وقال النووي: هاتان الصلاتان -النصف من شعبان والرغائب - موضوعتان منكرتان قبيحتان"..(فتاوى الإمام رشيد رضا 1/28:30)
ومع ذلك روي في أخبار مكة للفاكهي أن السلف في القرون المفضلة كانوا يُحيون هذه الليلة قال: "وأهل مكة فيما مضى إلى اليوم إذا كان ليلة النصف من شعبان، خرج عامة الرجال والنساء إلى المسجد، فصلوا، وطافوا، وأحيوا ليلتهم حتى الصباح بالقراءة في المسجد الحرام، حتى يختموا القرآن كله، ويصلوا، ومن صلى منهم تلك الليلة مائة ركعة يقرأ في كل ركعة بالحمد، وقل هو الله أحد عشر مرات، وأخذوا من ماء زمزم تلك الليلة، فشربوه، واغتسلوا به، وخبؤوه عندهم للمرضى، يبتغون بذلك البركة في هذه الليلة، ويروى فيه أحاديث كثيرة"..(أخبار مكة للفاكهي 3/64)
والفاكهي المعروف بابن إسحاق المكي متوفي عام 272هـ، وهذا يعني -وحسب قوله أهل مكة فيما مضى إلى اليوم- أن السلف كانوا يُحيون هذه الليلة في القرون الثلاثة الأولى المشهورة لدى فقهاء ومؤرخي السنة أنها.."القرون المفضلة"..وهذا يعني أن قول الشيخ رشيد رضا.."أنها من بدع القرون المتوسطة"..ليس له محل من الإعراب إلا إذا جاز قوله بالمتوسطة يعني المفضلة الأولى، فذاك مؤرخاً مكياً لم ينقل بالسند فضل هذه الليلة، إنما حكى رأي السامع والشاهد.
في الحقيقة ليس الشيخ رشيد رضا وحده من قال ببدعة إحياء هذه الليلة وضعف أخبار فضلها ، فقد قال أبو شامة(ت665هـ) في كتابه.." الباعث على إنكار البدع والحوادث"... تحت عنوان فصل في بدعة النصف من شعبان:
" صلاة ليلة النصف من شعبان ...هي صلاة طويلة مستثقلة(أي ثقيلة جداً) لم يأت فيها خير ولا أثر إلا ضعيف أو موضوع... وأن الحافظ أبو الخطاب بن دحيه قال في كتاب أداء ما وجب وقد روى الناس الأغفال في صلاة ليلة النصف من شعبان احاديث موضوعه وواحد مقطوع... وقال في كتاب .."ما جاء في شهر شعبان".. من تأليفه أيضا قال أهل التعديل والتجريح ليس في حديث ليلة النصف من شعبان حديث يصح فتحفظوا عباد الله من مفتر يروي لكم حديثا موضوعا يسوقه في معرض الخير"..انتهى..(1/34:36)
وأيضاً روى ابن وضاح القرطبي(ت286هـ) في كتابه.."البدع والنهي عنها"..قوله : حدثنا هارون بن سعيد قال: حدثنا ابن وهب قال: حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم , قال: «لم أدرك أحدا من مشيختنا ولا فقهائنا يلتفتون إلى ليلة النصف من شعبان , ولم ندرك أحدا منهم يذكر حديث مكحول , ولا يرى لها فضلا على ما سواها من الليالي» . قال ابن أبي زيد: «والفقهاء لم يكونوا يصنعون ذلك»..(البدع لابن وضاح 2/92)
وهذا يعني فارقا بين عمل أهل مكة وعمل أهل قرطبة، فأهل مكة يُحيون الليلة بينما أهل قرطبة يرون بدعيتها..وإن لم يكن ليذكرها ابن وضاح في النهي عن البدع، ولربما كان أهل مكة أيضاً يرون بدعيتها نزولاً لرأي شيوخ السند لدى ابن وضاح الذين يُعزون هذا الرأي لعبدالرحمن بن زيد بن أسلم المدني والمتوفي عام 183هـ، فإذا كان أهل المدينة حسب رأي ابن أسلم يرون بدعية إحياء هذه الليلة فأهل مكة ليسوا بدعاً من ذلك، فثقافة وسلوك المدنيين كانت تبعاً لأهل مكة في الشائع، وإحياء الليالي من الأمور الشائعة التي يتناقلها الناس تواتراً لفظياً وعملياً.
وفي حديث شريك عند عبدالله بن حنبل شاهد على اختلاف السلف حول فضل تلك الليلة، حيث قال.." حدثني أبو معمر، حدثنا عباد بن العوام، قال: قدم علينا شريك فسألناه عن الحديث، «إن الله ينزل ليلة النصف من شعبان» قلنا: إن قوما ينكرون هذه الأحاديث، قال: فما يقولون؟ قلنا: يطعنون فيها، فقال: إن الذين جاءوا بهذه الأحاديث هم الذين جاءوا بالقرآن وبأن الصلوات خمس وبحج البيت وبصوم رمضان فما نعرف الله إلا بهذه الأحاديث "..(السنة لعبدالله ابن أحمد بن حنبل 1/273)
ومعنى كلام شريك أن المسلمون على عهده كانوا يختلفون حول هذه الليلة، ولكن رأى رُجحان أحد هذه الآراء بحُجة أن من جاءوا بها جاءوا بالقرآن وبالفرائض، وهذا يكشف دافع من دوافع أهل الحديث في عملهم إبان عصر التدوين، حيث كانوا يعتقدون أن القرآن جاء بنفس طريقة الحديث، وبالتالي كان الطعن في الحديث ورواته هو طعن في القرآن بالضرورة، ومعه يظهر أن معنى التواتر كان مجهولاً في هذه الحقبة، وغالباً تم الكشف عنه في عصور متأخرة في تقديري أنها تزامنت مع شيوع التدوين كرد فعل على التشكيك في الحديث وطُرق نقله.
لكن لو اعتبرنا بالآثار السابقة وفرضنا تأويل ذلك التناقض في روايات البدع لابن وضاح وأخبار مكة للفاكهي بثبوت الخلاف عند عبدالله بن حنبل ربما نرى خيطاً دقيقاً يكشف سر هذا الخلاف، وفي تقديري أنه جاء باعتقاد فردي يرى أن ليلة النصف من شعبان هي ليلة القدر وذلك بتصحيح هذين الخبرين:
1-عن عائشة، قالت: كنت إلى جنب النبي صلى الله عليه وسلم ففقدته فاتبعته فإذا هو بالبقيع رافعا يديه يدعو، فقال: «يا ابنة أبي بكر أحسبت أن الله يحيف عليك ورسوله، إن الله ينزل في هذه الليلة النصف من شعبان فيغفر فيها من الذنوب أكثر من عدد شعر معز كلب»..(مصنف ابن أبي شيبة 6/108)
2-عن علي بن أبي طالب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا كانت ليلة النصف من شعبان، فقوموا ليلها وصوموا نهارها، فإن الله ينزل فيها لغروب الشمس إلى سماء الدنيا، فيقول: ألا من مستغفر لي فأغفر له ألا مسترزق فأرزقه ألا مبتلى فأعافيه ألا كذا ألا كذا، حتى يطلع الفجر "..(سنن ابن ماجة 1/444)
والنزول في عُرف المحدثين يعني قدسية وبركة ، فإذا منحها الله لليلة من الليالي كانت لها الفضل على ما سواها، وقد روى أبو بكر الطرطوشي المالكي(ت520هـ) أن جمعاً من الناس والرواة كانوا يرون أن ليلة النصف من شعبان هي ليلة القدر فقال:
" قال بعضهم: هي ليلة النصف من شعبان.......وهذا مذهب عكرمة مولى ابن عباس؛ قال: " هي ليلة النصف من شعبان(يقصد ليلة القدر)، يبرم فيها أمر السنة، وينسخ الأحياء من الأموات، ويكتب الحاج، فلا يزاد فيهم أحد ولا ينقص منهم أحد "....وروى عثمان بن المغيرة؛ قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان، حتى إن الرجل لينكح ويولد له، ولقد خرج اسمه في الموتى»... وقال قتادة، وابن زيد، ومجاهد، والحسن، وأبو عبد الرحمن السلمي، وأكثر علماء العراق: هي ليلة القدر "...انتهى (الحوادث والبدع 1/129)
وهذا يعني أن صفة التقديس لليلة النصف من شعبان جاءت عن اعتقادٍ راسخ بأنها ليلة القدر التي تنزل الملائكة والروح فيها، فإذا تنزلت الملائكة لا ضير من نزول الله –حسب معتقدهم-وفي ذلك خلاف شديد بين أهل الحديث أنفسهم، حيث انقسموا إلى فريقين الأول: يرى تأويل النزول وحمله على المجاز ومن هؤلاء الأشاعرة والماتوريدية، والثاني: يرى حقيقة النزول مع إقرارهم بجهل الكيفية وهؤلاء هم الحنابلة ، أما سائر مذاهب أهل الرأي فترى في أخبار النزول جميعها مكذوبة، والقول بصحتها بدعة محدثة وزندقة وتجسيم.
وفي تقديري أن جميع أخبار نزول الله للسماء الدنيا جاءت من هذه الخلفية، أي بتطرف البعض في تقديس ليلة النصف من شعبان زعموا نزول الله فيها، أو بتطرف البعض في تقديس قيام الليل زعموا نزول الله كل ليلة، وهكذا فالنزول في ظنهم يعني بلوغ أعلى مراتب القداسة حيث لا فضل بعد ذلك، والغريب أن أحدهم تطرف في تقديس هذه الليلة حيث زعم «أنه كان يجز رأسه في النصف من شعبان، ثم يخرج حاجا»..(مصنف ابن أبي شيبة 3/345).
وكانت الأداة لنشر هذه العقائد بين الناس هم القُصّاص أو القصاصون، حيث كانوا يجلسون في المساجد فيُحدثون الناس بهذه الأخبار التي كان مبعثها الرهبة والتشويق لنيل السمعة والتربّح ولو بالكذب، حيث جاء عن ابن حنبل وإبنه أنهما كانا يمران بمسجد فسمعا قصّاصاً يذكر حديث نزول الله في ليلة النصف من شعبان، فخاف ابن حنبل وارتعد وأمر ابنه بتحذير هذا القصّاص من الكذب، والقصة في كتاب .."الاقتصاد في الاعتقاد"..لتقي الدين المقدسي المتوفي عام 600 هجرية(1/110).
الغريب بعد هذا كله أننا إذا نظرنا في التراث السني برمته حول فضل ليلة النصف من شعبان فسنرى اختلافاً يصل إلى حد التكفير، فطائفة تُثبت فضلها وقيامها وترى أن من يُنكر ذلك هو يُنكر فضل القرآن بالضرورة، وطائفة ترى بدعية إحياء هذه الليلة بأي شكل، حتى أننا نرى تقي الدين المقدسي يُشبّه أفعال من يُحيي هذه الليلة بأفعال المجوس بقوله.." وما احدثه المتلاعب بالشريعة المحمدية راغب في دين المجوسية لأن النار معبودهم وأول ما حدث ذلك في زمن البرامكة فأدخلوا في دين الإسلام ما يموهون به على الطعام وهو جعلهم الإيقاد في شعبان كأنه في سنن الإيمان ومقصودهم عبادة النيران وإقامة دينهم وهو اخسر الأديان حتى إذا صلى المسلون وركعوا وسجدوا وكان ذلك الى النار التي أوقدوا ومضت على ذلك سنون وإعصار تبعت بعد ذلك فيء سائر الأمصار"..انتهى ..( الباعث على إنكار البدع والحوادث1/36)
أخيراً وبعد استعراض الآراء في هذه الليلة أرى أن فضائل الأيام والصلوات جاءت بنفس الطريقة وبنفس الأدوات، ففضائل يوم عاشوراء ويوم عرفة والتسعة الأوائل من ذي الحجة، وصلوات كالتراويح والتسابيح. جاءت جميعها بصفة تقديسية عن طريق القُصّاص الذي أشاعوا هذه الأخبار ، ولأن دوافع تقديسهم متشابهة بأخبار-سواء مرفوعة أو موقوفة- ترى هذه القدسية، والأجيال الأولى من المحدثين والرواة كانوا يرون أن هذه الأخبار تماثل في قدسيتها قدسية القرآن، فقبلوها وأشاعوها حتى اختلطت في سلوك الناس، فأنكرها البعض وتعصّب لها آخرون .
كذلك في أن إحياء هذه البدع غالباً ما يأتي بطريقة فردية ثم تتوسع شيئاً فشيئاً حتى تختلط في عقول الناس وسلوكياتهم ، فيصعب على الشخص العادي رؤية هذه البدعة على حقيقتها لشيوعها ودفاع البعض عنها، وفي ذلك قصة لطيفة ذكرها الشاطبي في الاعتصام عن الطرطوشي عن أبي محمد المقدسي قال:
"لم يكن عندنا ببيت المقدس صلاة الرغائب هذه التي تصلى في رجب وشعبان . وأول ما أحدثت عندنا في سنة ثمان وأربعين وأربعمئة، قدم علينا في بيت المقدس رجل يعرف بابن أبي الحمراء، وكان حسن التلاوة، فقام فصلى في المسجد الأقصى ليلة النصف من شعبان، فأحرم خلفه رجل، ثم انضاف إليهما ثالث ورابع، فما ختمها إلا وهو في جماعة كبيرة، ثم جاء في العام القابل فصلى معه خلق كثير، وشاعت في المسجد، وانتشرت الصلاة في المسجد الأقصى وبيوت الناس ومنازلهم، ثم استمرت كأنها سنة إلى يومنا هذا"...انتهى (الاعتصام للشاطبي 1/288)
أرجو التدقيق في اللفظ.."كأنها سنة"..وهو يعني أن السنن غالباً ما تأتي بطريق العادة ولا أصل لها، قياساً على ما رُوي في أخبار التراويح ويوم عاشوراء ، إذ ظهر في بحوثٍ سابقة لنا أنه لا أصل لكليهما في صدر تاريخ المسلمين، وأن شيوع قداستهما جاء بنفس طُرق وأدوات بدعة النصف من شعبان، ولكن الفارق غالباً ما يخص زمان ما بعد الصحيحين وتفرّق المسلمين لمذاهب وملل سياسية، والمعنى أنه إذا ثبت الخبر في الصحيح غالباً ما يصير سنة عملية تتوسع شيئاً فشيئاً حتى تلامس مرتبة الفرض، ولكنه يظل في نطاقه المذهبي لا يؤمن به أصحاب المذاهب الأخرى، مما ينفي عنه صفة السنة لعدم تواتره أو اتفاق المسلمين على صحته.