أتصور المواطــنَ العربي وقد استيقظ ذات صباح يــَـشي بغموض فيجد عينيه تدوران في محجريهما بسرعة أكبر من سرعة استيلاء داعش على أي مــوقع مراقـَـب من الجو والبحر والبر، والمواطن يبحث عن أي شيء يستوعبه أو يفهمه أو يعرف كــُـنـَـهه، فلا يعثر إلا على طلاسم مغروزة في ألغاز ومختبئة داخل صندوق أسرار غير قابل للفتح!
كل قوانين الكون السماوية والأرضية غير عصيــّــة على الفهم أو على الأقل الوصول إلى نتائج قد تميل إلى الصواب أو تنحاز إلى الخطأ، أما المشهد العربي فيحتاج إلى التخمين بدلا من التحليل، والاستنتاج بدون مقدمات، والتنجيم بغير أبخرة تتصاعد في غرفة تتوسطها بلــّـورة سحرية.. لا شرقية ولا غربية!
ينتفخ المحلل الاستراتيجي والأمني والثقافي والفكري والسياسي والديني، ويضع ساقا فوق ساق، ويفتح فاها ويضرب لسانه في سقف حلقه، وفجأة تصدمه الصورة المطلوب منه تحليلها، وشرح جوانبها، وتفسير غموضها، ومعرفة مصدرها، والإشارة إلى مــَــنْ هم داخل الصورة، فإذا بالذين يتحركون في الخلفية أكثر عدداً من الظاهرين على سطحها!
يحاول المسكينُ معرفة كيفية وصول داعش إلى ربوة أو تل أو وادٍ غير ذي زرع أو مصفاة للنفط أو حاجز لجيش عراقي أو كردي أو مقاومة سورية تحاذي قاطعي رؤوس أو مصاصي دماء تحت راية سوداء لا ينقصها إلا صورة جمجمة يخترقها سيف، أو.. مصحف تسيل منه الدماء!
التقدم التكنولوجي الغربي والروسي والصيني والأمريكي قادر على تصوير الملابس الداخلية لأي داعشي أو معرفة عدد القمل في شعر لحيته، ومع ذلك فداعش تتقدم، وتطرد الجيوش، وتذبح المقاومين، وتستولي على حقول نفط لا تتوقف، إنما يستمر العمل بها، وتصدير النفط بكميات كبيرة، ونقله، وبيعه، وتحويل الأرباح إلى مصارف تعرفها الدنيا كلها، ويمكن لأصغر هاكر أن يدخل عليها ويحصيها!
يحاول المسكين معرفة القاتل والقتيل، الناهب والمنهوب، فلا يعثر على أي سبب حتى لو تعمدت داعش استعجال حضور القاذفات الأمريكية والفرنسية وغيرها بذبح الضيوف الغربيين، فالمطلوب حربٌ برية، وتدخــُّـل غربي، والسجود العربي على أعتاب الاستعمار الجديد الذي يعيد بمعرفته رسم خريطة جديدة في العهد الأمريكي!
يحاول المسكين معرفة خفايا المشهد الليبي فيصطدم بالحدود المصرية والتونسية والجزائرية ، ولا يفهم من يقتل من، وكيف أجمع الليبيون على تمزيق بلدهم لتــَـرْضىَ السماءُ عنهم، فالخلافة ليست فقط فكرة، إنما هي رقبة مذبوحة وملقاة أمام عدسات التصوير.
يحاول المحلل المسكين فهم روابط تنظيم الاخوان في استانبول والقاهرة والدوحة وبنغازي وطرابلس الغرب وغزة ولندن فينتهي إلى اللغز الذي لا حل له، أي وقوف الإدارة الأمريكية في الوسط بين الإخوان وأنظمة الحُكم العربية والإسلامية، ويتعجب من قدرة الاخوان على اختراق الدولة التي تحاربهم ظاهراً حتى أن ثلاثة أرباع المصريين المسلمين المهاجرين إلى العالم الجديد رابعيون صــُـفــْـرٌ، وليسوا رَبعيــين صــِـفْراً!
داعش تطرق أبوابَ بغداد، والجيش العراقي الذي بناه الأمريكيون من جديد أضحىَ هشاً، ويمكن لأي داعشي أن يطارد، بمفرده، كتيبة عراقية، فتهرب من وجهه كما كان جيش العقيد يهرب من أمام التشادييــن المسلحين ببنادق خــُـردة، والطائفية تــُـضعف الوطنية، والمذهبية ترتدّ على صاحبها، والنعرات الاستعلائية في العراق نوع من الانتقام و.. ليس الإيمان!
خليفتان، واحد في أنقرة والثاني في الموصل! الأول يحبس عبد الله أوجلان والثاني يحارب روحه، بينهما علاقة خفية لا يعرفها غير سيد البيت الأبيض. فجأة تولد أجنــّــة من رحم داعش حول مطار طرابلس الغرب، وفي تونس، وفي سيناء، وعينا الخليفتين علىَ مصر فلا مصالحة قبل محاسبة فــضّ اعتصاميّ رابعة والنهضة، أما القتلى في تركيا والعراق وسوريا فليسوا بأهمية الرابعيين!
الخريطة الجديدة تتضح معالمها في كل صباح ويتم التشويش عليها في المساء، فكل جهة ترسم جزءًا منها، لكن ما يجمع كل خليفة بالآخر التفسير الأمريكي للإسلام و.. التفسير الاخوانجي له!
انتصر العرب في غزة والدليل أنه سيقومون بدفع المليارات لإعمارها، وثلث الأموال ستذهب إلى مصلحة الضرائب الإسرائيلية والموانــىء والغرامات، وتنشط مصارف الدولة العبرية، فالعرب يساهمون أيضا في تنمية وتنشيط اقتصاد إسرائيل في مقابل أن يحتفل قادة حماس بانتصارهم، وماذا يعني آلاف الشهداء وعشرات الآلاف من المنازل المدمــَّـرة، فنتينياهو يعرف مــُـسبقا أن الضفة وغزة منفصلتان تماماً، وقادة الثانية يحصدون النصر الإعلامي بينما قادة الأولى يعقدون مؤتمرات إعادة الإعمار وقوات الاحتلال الإسرائيلي تضحك حتى الثمالة!
هل فهمتم شيئاً؟ سيقول قائل: أنت تخلط الأوراق، وتغالط نفسك، فنحن العرب لدينا ثلاثمئة مليون محلل سياسي واستراتيجي ومئة مــَـدْرَسة في أصول الحُكم منها المدرسة القطرية والتركية والغزية والجزائرية والداعشية والمصرية والخليجية والاخوانجية والسلفية حتى لا نتناسىَ المدرسة اللبنانية التي أغلقت أبوابها لحين انتخاب رئيس جديد في المرة الثانية بعد العشرين أو الخمسين!
تتوقف عينا المواطن العربي عن التحرك والدوران والتسبيل والبحلقة ليكتشف أنه بحاجة إلى الراحة وربما مشاهدة ( حلاوة روح) لعل الجنس يحل مشاكل السياسة، والجسد الهيفائي يرفع مستوى الذكاء فيــَـصـِـل المسكينُ إلى حلّ ثلث ألغاز الوطن العربي الكبير قبل أن يتسابق الداعشيون والحوثيون لمعرفة الفائز في الوصول الأول لقصر الرئاسة!
من لم يفهم شيئاً من هذا المقال فقد فهم كل شيء!
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
أوسلو في 11 أكتوبر 2014