التّرادف في اللُّغة ظاهرة علمية
إنَّ التّرادف من رَدَفَ الشّيءَ بالشّيء إذا أتبعته به، أو ألحقته به،ومن هذا الوجه نستخدم في لُغتنا اليوميَّة أنَّ فلاناً رديفٌ لفلان، بمعنى تابع ومُلحق به، ونقول للتّلاميذ في باحة المدرسة عندما يصطفُّون خلف بعضهم بعضاً: ترادَف؛ بمعنى أنْ يقوم كُلُّ تلميذ بعمليَّة الالتحاق والإتباع لمَنْ قبله؛ بواسطة وَضْع كفِّ اليد على كتف من قبله؛ حيثُ يصبح مُلحقاً وتابعاً له.
والأرض وأخواتها من الكواكب كُلُّها مُترادفة مع الش&oslّمس،فهُم مُشتركون بشيء، ومُختلفون بآخر،فالتّرادف لا يمحو هُويَّة الشّيء المُترادف مع غيره، وإنَّما يشركه بصفة، مع الحفاظ على التّباين والاختلاف في كُلٍّ منهما.
فالتّرادف في اللُّغة بهذا المعنى هُو المُستخدَم سابقاً، فقد قام العَرَب بجَعْل الكَلمات ذات الصّلة مع بعضها من حيثُ أصل الدّلالة، واختلافها من حيثُ الشّكل والأُسلُوب في نمط واحد؛ وقالوا: هذه الكَلمات مُترادفة. بمعنى أنَّها تابعة لبعضها؛ لوُجُود صلة فيما بينها، مع الحفاظ على التّباين والاختلاف لكُلٍّ منها؛ نحو:
كُلُّ كَلمة تبدأ بحرف القاف والطّاء (قط) تدلُّ في أصلها وعُمُومها على التّفريق والفَصْل والصّرم؛ انظر مثلاً: قَطَعَ، قَطَفَ، قَطَمَ، قَطَلَ…. إلخ.
فكُلُّ هذه الكَلمات لا تخرج عن دلالة الفَصْل والتّفريق والصّرم؛ فهي مُترادفة من هذا الوجه؛ أيْ تابعة في أصل الدّلالة لبعضها،ولكنْ؛ لكُلِّ واحدة منها صُورة وإسقاط على الواقع مُختلفة عن أُختها، وهذا التّباين والفرق كان نتيجة اختلاف الحرف الثّالث، الذي أُضيف للكَلمة (قط)، فدلالة كَلمة (قَطَعَ) غير دلالة كَلمة (قَطَفَ) أو (قَطَمَ).
وكَذلك كُلُّ كَلمة تبدأ بحرف الغين تدلُّ في أصلها وعُمُومها على السّتر والتّغطية والغياب والعُمق؛ انظر مثلاً:
غاص، غيم، غاب، غامق، غرغر، غُرُور، غبي، غفل،غرق غطس........... إلخ.
وكَذلك كُلُّ كَلمة تبدأ بحرف السّين (س) تدلُّ في أصلها وعُمُومها على الحَرَكَة؛ انظر مثلاً: سبح، سبق، سبى، سمى، سار…..إلخ.
والوجه الآخر للتّرادف عند العَرَب هُو إطلاقه على الكَلمات التي تشترك بالدّلالة تضمُّناً؛ أي العلاقة الضّمنيَّة من حيثُ العُمُوم والخُصُوص؛ نحو: جاء وأتى وحضر، أراد وشاء، قرأ وتلى، تكَلَّم وتحدَّث، ذهب وخرج........ إلخ.
فهذه الكَلمات ذات علاقة مع بعضها بعضاً، وهي علاقة الخاصِّ بالعامِّ، أو علاقة تضمُّنيَّة؛ فهي من هذا الوجه مُترادفة، ولكنْ؛ في الوقت نفسه، مُتباينة عن بعضها في عمليَّة إسقاطها على الواقع، فدلالة كَلمة (الأكل) غير (الطّعام)، ودلالة كَلمة (ذهب) غير (خرج)، وكَلمة (ولج) غير (عبر) وغير (خرق).
هذا مفهوم التّرادف الذي كان يستخدمه العَرَب أصلاً قبل تدوين اللُّغة وقواعدها، والقول بوُجُود التّرادف في اللُّغة إنَّما هُو إثبات لظاهرة علْميَّة كونيَّة انعكست على اللُّغة.
أمَّا استخدام مفهوم التّرادف بمعنى مُطابقة دلالة الكَلمات لبعضها رغم اختلاف ألفاظها؛ فهُو قول صادر تساهلاً في استخدام اللُّغة من قبَل عامَّة النّاس، وليس أصلاً في اللُّغة، ومع ضعف النّاس بلُغتهم الأصليَّة الصّحيحة وفُشُوِّ اللّحن والخطأ وجُمُود الدّراسة والإبداع وتناسي الفُرُوقات بين الكَلمات والتّساهل في استخدام الألفاظ المُختلفة لدلالة واحدة لحُصُول الفَهْم عند المُخاطب؛ انتشر بين النّاس مفهوم أنَّ اللُّغة تحتوي على ألفاظ مُختلفة، ولكنَّها من حيثُ الدّلالة واحدة في الواقع،واستمرَّ هذا الاستخدام، وشاع بين النّاس،وعندما قام العُلماء بدراسة هذه الظّاهرة تأثَّروا بشُيُوعها بين النّاس، وظنّوا ـ وَهْمَاً منهم ـ أنَّ هذه الظّاهرة صحيحة لُغة، فأدخلوها في قواعد اللُّغة ونظامها تحت عُنوان التّرادف، ولكنْ؛ بمفهوم عامَّة النّاس.
واستمرَّت الأبحاث في اللُّغة من قبَل العُلماء، ولكنْ؛ جميعاً وافقوا على مفهوم التّرادف الشّعبي، فمنهم مَنْ أنكر هذه الظّاهرة الشّعبيَّة، وبإنكاره ذلك نفى مُصطلح التّرادف في اللُّغة، ومنهم مَنْ وافق وأقرَّ مفهوم التّرادف بالمعنى الشّعبي، وأخذ النّقاش والاختلاف في الأبحاث لهذه الظّاهرة اسم التّرادف في اللُّغة، وانقسم العُلماء فريقَيْن بين مُؤيِّد لوُجُود كَلمات مُختلفة بالألفاظ ومُتطابقة بالدّلالة تحت اسم التّرادف، وذهب فريق آخر لإنكار هذا الاستخدام؛ لأنَّه مُخالف لما عليه الواقع ـ آفاق وأنفس ـ واللُّغة، وأنَّ اختلاف المبنى يُؤدِّي ـ قطعاً ـ لاختلاف المعنى،ولكنَّهم تأثَّروا باستخدام الفريق الأوَّل لمُصطلح التّرادف، فأنكروا التّرادف في اللُّغة ردَّاً على الفريق الأوَّل.
لذلك فأوَّل عمل يجب أنْ نقوم به هُو إرجاع مفهوم التّرادف إلى أصله؛ حيثُ إنَّه مُصطلح صحيح لُغة.
والكون ـ آفاق وأنفس ـ واللُّغة قائمان على ظاهرة التّرادف بالمعنى الصّحيح، وبالتَّالي؛ يجب عدم التَّأثُّر بعامَّة النّاس واستخدامهم لمُصطلح التّرادف بشكل خاطئ، والصّواب هُو تصحيح مفهوم التّرادف عند النّاس، وليس إنكار ظاهرة التّرادف.
الأمر الثّاني الذي يجب أنْ يُؤخذ بعين الاهتمام والجدِّيَّة هُو أنَّ اللُّغة تُدرس من أُصُولها ومصادرها،وليس بما اشتهر على ألسنة النّاس، أو
ما شاع بينهم من استخدام لدلالة الكَلمات والأساليب في الخطاب، فمعروف أنَّ النّاس تميل في الخطاب والتّواصل مع بعضهم إلى التّساهل في الألفاظ، واستخدام الأساليب في الخطاب، ولو كان ذلك على حساب صحَّة اللُّغة بلاغةً وقواعدَ، وصحَّة اللّسان فصاحة، مادام أنَّ المُخاطَب قد حصل عنده الفَهْم والقَصْد للمُتَكَلِّم.
فأصل اللُّغة المُسلَّم به دُون جَدَل هُو النَّصُّ القُرآني لخصائصه عن سائر المصادر الأُخرى، فيجب الانطلاق منه في الدّراسة، ومعرفة صحَّة المسألة لُغة من خلال نَظْم خطابه وأُسلُوبه لاستخدام المُفردات في الجُمل حسب واقع الحال لكُلِّ نصٍّ.
فظاهرة التّرادف ظاهرة علميَّة موجودة في اللُّغة بالمعنى الصّواب، كما استخدمه العَرَب القُدامى قبل التّدوين؛ وهُو إلحاق الكَلمات المُشتركَة بأصل واحد، والمُختلفة بالشّكل والأُسلُوب حين إسقاطها على الواقع ببعضها، ووَضْعها في خندق واحد تحت اسم التّرادف، الذي يدلُّ ـ في حقيقته ـ على المقولة التي تقول:
[ إذا اختلف اللّفظ اختلف المعنى، وأيُّ زيادة في المبنى إنَّما هي زيادة في المعنى ].
أمَّا ما يشاهده عامَّة النّاس من إطلاق مجموعة من الأسماء أو الصّفات على شيء واحد في الواقع، ويظنُّون أنَّ هذه الأسماء والصّفات المُختلفة باللّفظ مُتَّفقة بالمعنى؛ فهذا وَهْمٌ وقُصُور منهم في إدراك الفُرُوقات والتّباين والمُناسبة التي اقتضت إطلاق هذه الصّفات على شيء واحد؛ انظر مثلاً للسَّيَّارة في الواقع؛ كيف أخذت عدَّة أسماء وصفات، وذلك لاختلاف وظائفها، أو اشتراكها بعدَّة وظائف،فَمَنْ نَظَرَ إلى السَّيَّارة من ناحية وظيفة نَقْل النّاس أطلق عليها اسم (ناقلة)، ومَنْ نَظَرَ إليها من ناحية وظيفة أنَّها تجمع النّاس ـ بالنّسبة للسَّيَّارة الكبيرة ـ أطلق عليها اسم (حافلة)، ومَنْ نَظَرَ إليها من ناحية وظيفة الرُّكُوب أطلق عليها اسم (مركبة)، ومَنْ نَظَرَ إليها من ناحية وظيفة تخصيصها لحَمْل البضاعة وشَحْنها أطلق عليها اسم (شاحنة).
هكذا وُلدت الأسماء والصّفات للأشياء من خلال وظيفة الشّيء في الواقع، فإذا تعدَّدت وظائفه تعدَّدت أسماؤه، فكُلُّ اسم أو صفة يُوجد في دلالتها ما لا يُوجد في صفة أُخرى، فالمُسمَّى واحد في الواقع، والصّفات مُختلفة، والاسم هُو صفة تمَّ اختيارها دُون غيرها من الصّفات للدّلالة على شيء؛ كاسم عَلَم له؛ ليتمَّ التّخاطب والتّواصل والتّفاهم عند قوم مُعيَّنين، مع إمكانيَّة اختيار غيرها من الصّفات لتكون اسماً عند آخرين، وهذا ما هُو حاصل في الواقع بين المُجتمعات العَرَبيَّة.
فتفاعل النّاس مع الأشياء مُختلف عن بعضهم، وكَذلك رُؤيتهم لوظائف الأشياء واستخدامهم لها مُختلف حسب احتياجات كُلِّ قوم، ومن هذا الوجه ظهر تعدُّد الأسماء لشيء واحد في الواقع، بل وأدَّى ذلك إلى تعدُّد اللُّغات ووُجُود كَلمات في لُغة، ونَفْيها في لُغة أُخرى، وذلك راجع إلى البيئة الجَغرافيَّة والثّقافيَّة والتّفاعل معهما.
إنَّ النَّصَّ القُرآني نزل عَرَبي اللُّغة كدلالات، مُرتبط بمدلولات في الواقع، فكان من الطّبيعي جدَّاً أنْ يتَّصف بصفة الواقع، واللُّغة التي انبثقت منه، فكان القُرآن كتاباً كونيَّاً ـ آفاق وأنفس ـ من حيثُ المضمون، وعَرَبي اللُّغة من حيثُ الظّاهرة الصّوتيَّة، التي هي انعكاس وتفاعل الإنسان مع الواقع، فاحتوى القُرآن ظاهرة التّرادف كما هي موجودة في الواقع، وكما انعكست في اللُّغة العَرَبيَّة، ولهذا؛ تمَّ اختيار اللُّغة العَرَبيَّة دُون غيرها؛ لتحتوي الظّاهرة الصّوتيَّة للنَّصِّ القُرآني، كونها لُغةً مُرتبطة بالواقع، مُتلاحمة ومُتناغمة معه، تعكس وظائفه واختلافاته وصفاته بشكل دقيق أشبه بالمرآة.
لذا؛ يجب الانتباه وأَخْذ الحذر أثناء دراسة النَّصِّ القُرآني، فهُو نصٌّ حيٌّ لارتباطه بالحياة، ونصٌّ واقعيٌّ لارتباطه بالواقع، فكُلُّ لفظة فيه تدلُّ على معنى مُختلف عن لفظة أُخرى، ولكنَّها ليست مُنقطعة عن بعضها، بل هي مُترادفة في النّهاية، بشكل أو بآخر، لتُشكِّل مع بعضها النَّصَّ القُرآني المُتلاحم، الذي يعكس الواقع المُترادف بأجزائه لتحقيق التّلاحم والتّناغم الكوني.
وسنأتي بأمثلة لنُبيِّن أنَّ اختلاف اللّفظ يُؤدِّي إلى اختلاف المعنى ـ حتماً ـ ضرورة واقعيَّة ولُغويَّة وقُرآنيَّة، ويجب على الباحث أنْ يتنبَّه للفُرُوقات بين الكَلمات من خلال مدلولها في الواقع، ومن خلال سياقها في النَّصِّ، فالفُرُوق بين الكَلمات قد يقصر المُعجم اللُّغوي عن إظهارها، وهذا لا يعني انتفاء الفرق بين الكَلمتَيْن، فيجب على الباحث أنْ يعتمد على النَّصِّ القُرآني أوَّلاً، وينظر كيف استخدم هذه اللّفظة، وبأيِّ مُناسبة وسياق، وذلك من خلال تتبُّع الكَلمة في النَّصِّ القُرآني كُلِّه بشكل كامل، أمَّا الكَلمات التي لم يستخدمها القُرآن؛ فيتمّ فَهْمها وإظهار الفُرُوق بينها من خلال دراسة نشأة كُلٍّ منها، واستخدام العَرَب لها قديماً، وإلحاقها بأصلها مع أخواتها المُترادفة، فيظهر ـ بالتَّالي ـ معناها وتباينها عن أخواتها، وعلم اللّسانيَّات يبحث في ذلك، وهُو في تطوُّر مُستمرٍّ، واخترتُ من الكَلمات مجموعة شائعة بدلالتها الواحدة؛ وهي كَلمات مُستخدمة في النَّصِّ القُرآني؛ وهي: جاء وأتى وحضر، أراد وشاء، قرأ وتلى، وذلك كَنموذج يحتذي به القارئ في عمليَّة إيجاد الفُرُوق والتّباين بين الكَلمات المُختلفة لفظاً، فإنَّ وصل إلى الفُرُوق فبها ونعمت، وإنْ لم يصل فإنَّ هذا لا يعني انتفاء الفُرُوق بين الكَلمات، بل يجب عليه أنْ يُتابع البحث حتَّى يصل؛ لأنَّ اختلاف اللّفظ يُؤدِّي إلى اختلاف المعنى قطعاً.
أ ـ الفرق بين جاء وأتى وحضر:
إنَّ هذه الكَلمات المُترادفة قد يظنُّ السّامع لها للوهلة الأُولى أنَّها ذات دلالة واحدة في الواقع، وذلك من جرَّاء استخدام النّاس لها دُون تمييز بينها، فما يجب أنْ نستخدم فيه كَلمة (جاء) نستخدم فيه كَلمة (أتى)، وكَذلك كَلمة (حضر)، ويتمُّ فَهْم الخطاب بين النّاس؛ لأنَّ الأصل في الخطاب هُو إفهام النّاس، وكون الفَهْم قد حصل، فيتساهل النّاس في استخدامهم للكَلمات محلّ بعضها بعضاً؛ من مُنطلق أنَّ الألفاظ خَدَمٌ للمعاني، والمعاني سيِّدة الألفاظ، وهذه الحالة مقبولة في مجرى الحديث بين النّاس، ولا ينبغي أنْ تتجاوزه إلى الدّراسة والأبحاث اللُّغويَّة، ناهيك عن النَّصِّ القُرآني؛ لأنَّ النَّصَّ القُرآني نزل مُستخدماً نظام اللُّغة العَرَبيَّة بشكل صحيح، وصاغ النَّصَّ بشكل بليغ، لا يُوجد فيه تساهل في استخدام اللُّغة؛ لأنَّ ذلك لو تمَّ في واقع الحال لتمَّ القضاء على النَّصِّ القُرآني؛ لارتباطه باستخدام قوم في زمن ومكان مُعيَّنَيْن، ممَّا يقتضي انتفاء صلاحيَّته لكُلِّ زمكان من جرَّاء التّساهل، الذي يصل ـ في النّهاية ـ إلى التَّسيُّب وضياع الفُرُوقات بين الكَلمات، وبالتَّالي؛ يصحُّ ـ عندهم ـ أنْ نخلط بين الكَلمات، دُون أنْ تتغيَّر دلالة النَّصِّ، والواقع أنَّ أيَّ تغيير في كَلمات القُرآن يترتَّب عليه تغيير في دلالة النَّصِّ من حيثُ إسقاطه على الواقع، واللّه ـ عزَّ وجلَّ ـ عندما اختار كَلمة دُون غيرها من الكَلمات فقد اختارها من مُنطلق العلم والحكمة، وأنَّ ذلك المعنى لا يُؤدِّيه إلاَّ هذه الكَلمة، دُون سائر أخواتها المُترادفة، وبناء على ذلك؛ لكَ أنْ تتصوَّر ـ أخي القارئ ـ كم الأمر على درجة من الأهمِّيَّة عندما نتعامل مع النَّصِّ القُرآني دُون تمييز أو تفريق بين دلالة الكَلمات المُترادفة؛ أيْ نتعامل مع النَّصِّ القُرآني بأُسلُوب العوام وتعاملهم فيما بينهم، فكم من الدّلالات والمعاني التي غابت عن الدّراسة والفَهْم بسبب التّعامل العامِّي مع النَّصِّ القُرآني؛ ممَّا أدَّى مع الزّمن إلى النَّظَر إلى النَّصِّ القُرآني كَنَظرتنا إلى حديث بعضنا بعضاً، ونكتفي بتقديسه وتلاوته، دُون قراءته، فتفرَّغ من مُحتواه، وغاب عن السّاحة الاجتماعيَّة وطاولة البحث والدّراسة، وصار يتمُّ فَهْمُهُ حسب فَهْم الإنسان العامي للُّغة، وما شاع منها على الألسنة، فكان ذلك من أ حد أسباب انحطاط المُسلمين ثقافيَّاً وعلميَّاً.
انظر على سبيل المثال كيف أورد المُعجم(1) دلالة كَلمة (جاء):
جاء يجيء جيئاً: أتى.
وإذا فتحنا على مادَّة (أتى) نجد المُعجم يذكر:
أتيتُهُ أَتْيَاً وإتْيَاناً: جئتُهُ.
فدلالة كَلمة (أتى وجاء) في المعاجم هي واحدة، وكَذلك كَلمة (أراد وشاء)، وغيرها من الكَلمات المُترادفة الكثيرة، فكُلُّها ـ في النّهاية ـ دلالتها واحدة؛ فأيُّ عبث بعد ذلك، وأين الإحكام في اللُّغة؟ وهل يصحُّ في الاستخدام اليومي أنْ نُطلق على الأشياء المُختلفة أسماء عدَّة يصحُّ أنْ تصلح لبعضها بعضاً؛ نحو السَّيَّارة والطَّيَّارة والغوَّاصة.... إلخ؟! فهل يصحُّ استخدام كَلمة (غوَّاصة) للسَّيَّارة، والعكس؟!!.
إذاً؛ المُعجم اللُّغوي ليس له قداسة، وليس هُو الفَصْل في الخطاب، وليس هُو بُرهاناً بحَدِّ ذاته، وإنَّما هُو وسيلة مُساعدة لدراسة دلالة الكَلمة، ويجب البحث في المعاجم كافَّة على حَدٍّ سواء، والاعتماد على النَّصِّ القُرآني كونه حُجَّة لُغويَّة بنفسه، لا يحتاج لأيِّ جهة تُثبتُهُ، إضافة إلى دراسة الكَلمة من خلال نشأتها وبنيتها.
وعود على بدء إلى كَلمة (جاء) و (أتى):
إنَّ استقراء الآيات الكريمة التي وَرَدَ فيها أحد اللّفظَيْن، أو كلاهما، نجد أنَّ بين اللّفظَيْن فوارق عميقة في الدّلالة، قد تخفى للوهلة الأُولى، وهذا الخفاء سبب في عدم التّمييز بين دلالتهما وإعطائهما الدّلالة نفسها في الواقع، والأمر ليس سهلاً في التّمييز بين دلالتهما، فهُو يحتاج إلى تأنٍّ وعُمق في التّفكير والتَّدبُّر بحال كُلِّ كَلمة، وكيف تمَّ استخدامها في الدّلالة على الواقع؛ لأنَّ المقاصد والمعاني هي الأساس والمُنطلق في التّمييز بين دلالة الكَلمات، وليس الألفاظ، ولذلك قال عُلماء اللُّغة: المعاني والمقاصد سيِّدة الألفاظ، والألفاظ خَدَمٌ للمعاني.
وهذا يعني أنَّنا إذا أردنا أنْ نعرف الفرق بين دلالة كَلمتَيْن مُترادفتين فيجب دراسة محلِّ الخطاب للنَّصِّ الذي وَرَدَتْ فيه الكَلمة، ومن خلال إسقاط النَّصِّ على الواقع تبدأ عمليَّة ظُهُور الفوارق بين دلالة الكَلمات بشكل خفي، إلى أنْ تظهر كاملة، فتصيب الباحث ذُهُولاً من الفرق الكبير بين دلالة الكَلمتَيْن اللَّتَيْن كان في بدء البحث يظنُّ أنَّ دلالتهما واحدة.
قال تعالى: [ حتى إذا أتوا على واد النمل ](النّمل 18).
وقال: [ ولقد أتوا على القرية التي أُمطرت مطر السوء ](الفُرقان 40).
وقال: [ هل أتى على الإنسان حين من الدهر ](الإنسان 1).
نُلاحظ في الآيات الثّلاثة أنَّ فعل (أتى) جاء بعده حرف على، ولو افترضنا ـ من باب النّقاش ـ أنَّنا وضعنا فعل (جاء) بدل فعل (أتى) في النُّصُوص المذكورة لَوَجَبَ حَذْفُ حرف (على)، ويصير النَّصّ (حتَّى جاءوا واد النّمل)، فيصير المعنى مُختلفاً تماماً عن جُملة (أتوا على)، وكَذلك جُملة (أتى على) لو جعلناها (جاء على) لتغيَّر المعنى تماماً، ولنرَ ذلك ـ عمليَّاً ـ من خلال النَّصِّ القُرآني نفسه [ هل أتى على الإنسان حين من الدهر ] فلو قُلنا (هل جاء على الإنسان حين من الدّهر) لأفادت أنَّ الإنسان محلٌّ لرُكُوب الدهر عليه ، ومطيَّة له، وصار الكلام ـ حسب السّياق ـ مُتعلِّقاً بالدّهر، وليس بالإنسان، ولَوَجَبَ تقديم كَلمة الدّهر على كَلمة الإنسان؛ كونه المعنيّ في النَّصِّ، نحو قولنا: هل جاء على الفَرَس زيدٌ. فمحلُّ السُّؤال والاهتمام هُو الفَرَس، وليس زيداً، بخلاف لو قُلنا: هل جاء زيدٌ على الفَرَس؛ لصار زيدٌ محلاً للسُّؤال والاهتمام، وليس الفَرَسَ.
ففعل (جاء) لو تمَّ استخدامه في النُّصُوص المذكورة بدل فعل (أتى) لَوَجَبَ حَذْفُ حرف (على)، وصار المعنى هُو مُجرَّد الوُصُول والحُضُور والانتقال من إلى، بخلاف فعل (أتى) في النُّصُوص؛ فهُو يتكَلَّم عن فعل زائد على فعل المجيء، فما هُو؟
لو أمعنّا النَّظَرَ في كَلمة (جاء) لوجدنا أنَّها تنتهي بالهمزة، التي هي بداية كَلمة (أتى)، ممَّا يدلُّ على أنَّ نهاية فعل (جاء) هي بداية فعل (أتى)، وإذا قُمنا بتحليل دلالة أحرف كَلمة (جاء) وكَلمة (أتى) نُلاحظ في ـ واقع حال كُلٍّ منهما ـ أنَّ فعل (جاء) هُو بداية فعل (أتى)؛ انظر مثلاً قولنا: جاء زيدٌ على الطّعام، ماذا يدلُّ في واقع الحال؟
وقولنا: أتى زيد على الطّعام، ماذا يدلُّ في واقع الحال؟
ففعل (جاء) في الجُملة الأُولى يدلُّ على مُجرَّد وُصُول وحُضُور زيد في وقت الطّعام تماماً.
انظر قوله تعالى: [ وجاءوا أباهم عشاء يبكون ](يُوسُف 16). كيف يدلُّ على مُجرَّد الوُصُول والحُضُور، والانتقال من إلى.
بينما فعل (أتى) في الجُملة الثّانية يدلُّ على حُصُول زيد على الطّعام، والقضاء عليه.
انظر قوله تعالى: [ ما تذر من شيء اتت عليه إلا جعلته كالرميم] (الذّاريات 42).
المُلاحظ من فعل (أتى) أنَّه لا يكون في الواقع إلاَّ بعد عمليَّة الوُصُول إلى الشّيء المعني بالإتيان، فجُملة (أتى زيد على الطّعام) لا يُمكن أنْ تتحقَّق دلالتها إلاَّ إذا جاء زيد إلى الطّعام، ممَّا يدلُّ على أنَّ فعل (أتى) له دلالة زائدة على فعل (جاء) في واقع الحال؛ وهي حُصُول الشّيء في الواقع، ومَنْ يحصل على شيء ـ قطعاً ـ يكون قد جاء إليه، بخلاف مَنْ جاء إلى الشّيء، فلا يُشترط له الحُصُول عليه، فكُلُّ حُصُول يتضمَّن الوُصُول، والعكس غير صحيح؛ أيْ كُلُّ فعل إتيان يتضمَّن فعل المجيء، وليس كُلُّ فعل مجيء يتضمَّن فعل الإتيان.
وبناءً على ذلك؛ تكون جُملة (أتوا على واد النّمل) بمعنى أنَّهم جاءوا ودخلوا في واد النّمل، وليسوا ـ هُم ـ على مشارفه، وكَذلك الآيات الأُخرى تدلُّ على حُصُول الشّيء.
انظر قوله تعالى: [ وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ]ففعل (آتوا) بمعنى طَلَب الحُصُول للزّكاة في الواقع، وهذا لا يتأتَّى إلاَّ إذا تمَّ قبل الإتيان فعل المجيء لمادَّة الزّكاة المُعيَّنة، وبعد ذلك يتمُّ حُصُولها في الواقع من خلال إعطائها للمُستحقِّين؛ فالعطاء للزّكاة مرحلة لاحقة لفعل المجيء بها، بخلاف لو استُخدم فعل (جاء) في النَّصِّ (جيئوا الزّكاة) لصار المعنى أنْ نذهب نحنُ إلى مادَّة الزّكاة، وصار النَّصُّ عَبَثَاً.
وانظر قوله تعالى: [ ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ]
فلو تمَّ استخدام فعل (يجيئون) في النَّصِّ لصار المعنى أنَّ حالة الكَسَل
ـ هي ـ في عمليَّة السَّيْر فقط، بينما عندما استخدم فعل (يأتون) أفاد أنَّ حالة الكَسَل مُتلبِّسة في أداء الصّلاة نفسها، ومن باب أَولى الكَسَل في السّير إليها.
وانظر قوله تعالى: [ أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين ](الأعراف 80).
فالنَّصُّ لا يتكَلَّم عن عمليَّة المجيء فقط؛ الذي يدلُّ على مُجرَّد الوُصُول والحُضُور، وإنَّما يتكَلَّم عن عمليَّة الحُصُول للفاحشة في الواقع، وحُصُول الفاحشة لا يتأتَّى إلاَّ بعد المجيء إليها.
وانظر قوله تعالى: [وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ]
بمعنى أنَّ ما جعلكم الرّسول تحصلون عليه فخذوه، وما منعكم منه فامتنعوا، ومن هذا الوجه؛ تمَّ تفسير (آتاكم) بمعنى أعطاكم، وواضح أنَّ فعل الحُصُول على الشّيء ـ قطعاً ـ بعد فعل المجيء به، أو إليه.
قال تعالى: [ يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك ]
بمعنى؛ إنَّي قد وصلني من العلم ما لم يحصل عندكَ، فيما جاءكَ سابقاً.
وقال: [ أولو جئتك بشيء مبين , قال فأت به إن كنت من الصادقين ] (الشُّعراء30 ـ 31).
بمعنى؛ أَوَلَو أَوْصَلْتُ وأَحْضَرْتُ لكَ أمام ناظرَيْكَ شيئاً مُبيناً، فكان الرَّدُّ هُو أَظْهرْ الذي معكَ إلى ساحة الحُصُول إنْ كُنتَ مُدَّعياً وُصُوله إليكَ.
قال تعالى: [ لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذا لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون ](النّور13). فعمليَّة المجيء بالشُّهداء هي وُصُولهم وحُضُورهم، أمَّا قوله[ لم ياتوا بالشهداء ]أيْ لم يتمّ في واقع الحال حُصُول الشّهادة، والمُلاحظ أنَّ إتيان الشّهادة ـ قطعاً ـ لا يتمُّ إلاَّ بعد وُصُولهم وحُضُورهم، فإذا تمَّ ذلك الوُصُول والحُضُور ترتَّب عليه الحُصُول للشّهادة في الواقع، ولذلك استخدم النَّصُّ القُرآني فعل (جاء) ليدلَّ على الوُصُول والحُضُور، وأتبعه بفعل (أتى) ليدلَّ على أنَّ الغاية من مجيء الشُّهداء إنَّما هُو حُصُول شهادتهم، والإدلاء بها، وعندما نفى عمليَّة إيتاء الشُّهداء يكون قد نفى ـ ضمناً ـ عمليَّة مجيئهم.
قال تعالى: [ فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئاً فرياً ](مريم27).
المُلاحظ أنَّ فعل (أتى) في النَّصِّ لا يدلُّ على مُجرَّد الوُصُول والحُضُور، وإنَّما هُناك أمر آخر مُتلازم مع فعل المجيء؛ ألا وهُو حُصُول أمر على درجة من الأهمِّيَّة، لذلك جاء فعل (أتى) ليُغطِّي الحَدَث كاملاً من حيثُ وُصُول وحُضُور مريم وحُصُول حَدَث مُلازم لفعل مجيئها؛ وهُو حَمْل الطّفل بين يدَيْها، أمَّا استنكار قومها بقولهم [ لقد جئت شيئاً فرياً ]؛ فذلك لأنَّ الحَدَثَ كان ـ بالنّسبة إليهم ـ هُو مُجرَّد وُصُول وحُضُور.
قال تعالى[ ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه ]( التوبة 92 ) وقال [ ولتأت طائفة أُخرى لم يصلوا فليصلوا معك ] (النّساء102).
ففعل (أتى) في النَّصَّيْن المذكورَيْن لا يعني مُجرَّد فعل المجيء لهم كما هُو ظاهر من الوهلة الأُولى، وإنَّما المقصود الاستعداد الحاصل في نُفُوسهم، وإرادتهم للقيام بالعمل المُرافق لفعل المجيء، لذلك استخدم اللّه
ـ عزَّ وجلَّ ـ فعل (أتى).
قال تعالى: [ اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيراً وأتوني بأهلكم أجمعين ] (يُوسُف93).
فلو استُخدم فعل (جاء) بدل فعل (أتى) في النَّصِّ لصار معنى النَّصِّ: أنَّ عمليَّة ارتداد البصر تحصل أثناء ذهابه إلى ابنه، بينما فعل (أتى) أفاد حُصُول ارتداد البصر مُباشرة، وتضمَّن طَلَب فعل مجيء أبيه إليه.
وكَذلك فعل (وأتوني بأهلكم)، فليس المطلوب هُو المجيء بهم فقط، وإنَّما يتضمَّن أنَّ فعل المجيء هُو لحُصُول الإكرام لهم، والعناية بهم.
قال تعالى: [ أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر ](العنكبوت29).
فواضح من النَّصِّ أنَّ فعل (الإتيان) يدلُّ على الحدوث والحُصُول والتّعاطي، وقطعاً؛ لا يتأتَّى ذلك في الواقع إلاَّ بعد فعل المجيء بها، أو إليها.
قال تعالى: [ فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها ](مُحَمَّد18).
فعمليَّة حُدُوث وحُصُول السّاعة إنَّما هُو بغتة، بينما يجيء أشراطها تباعاً، واحد تلو الآخر، ولمَّا يحصلوا جميعا بعدُ.
قال تعالى: [ وجاءوا على قميصه بدم كذب ] (يُوسُف18).
ففعل(جاء) يدلُّ على قيام أُخوة يُوسُف بإحضار دم جديد، ووضعه على القميص، بعد أنْ جاءوا أباهم، ولم يُصدِّقهم، ولو تمَّ استخدام فعل (وأتوا على قميصه بدم) لأفاد أنَّ القميص كان معهم مُنذُ وُصُولهم إلى أبيهم، وعرضوه بشكل مُباشر،ولم يقولوا:[وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين] الخُلاصة أنَّ فعل (جاء) يدلُّ على الوُصُول و الحُضُور والانتقال من إلى، وفعل (أتى) يدلُّ على الحُدُوث والحُصُول.
فكُلُّ فعل (إتيان) يتضمَّن فعل (المجيء)، والعكس غير صحيح، وبالتَّالي؛ لكُلٍّ منهما استخدامه في الواقع حسب الحال الذي يقتضيه، ومن هذا الوجه تظهر البلاغة في الأقوال.
أمَّا كَلمة (حضر)؛ فهي بعيدة جدَّاً عن دلالة كَلمة (جاء وأتى)، وهي من الشُّهُود والوُجُود في المكان المعني، ولا يُشترَط لها عمليَّة الانتقال المكاني من إلى، أو المعنوي.
فالإنسان الموجود في مكان مُعيَّن يكون حاضراً لما يحدث فيه، ولو كان غير قاصد لذلك الفعل، فيكون شاهداً على ما يحصل من خلال عمليَّة حُضُوره.
قال تعالى: [ حتى إذا حضر أحدهم الموتُ قال إني تبت الآن ](النّساء 18).
وقال : [ حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون ] (المُؤمنون99).
وقال: [ وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين ] (المُنافقون10).
فالنَّصُّ الأوَّل: يدلُّ على حُضُور الموت وتواجده في المكان الموجود فيه الإنسان كشاهد، ولم يصل الموتُ إلى الإنسان بعدُ. (حَضَرَ الموتُ).
النَّصُّ الثّاني: يدلُّ على وُصُول الموت، وبدئه في الإنسان.
(جاء الموتُ).
النَّصُّ الثّالث: يدلُّ على حُصُول الموت، وتمكُّنه من الإنسان، وتمَّ استخدام الفعل المضارع (يأتي) ليُخبر اللّه الإنسانَ، ويُوجِّهه إلى الإنفاق والعمل الصّالح قبل أنْ يُصيبه الموتُ، ويتمكَّن منه. (أتى الموت).
ب ـ الفرق بين أراد وشاء:
إنَّ كَلمة (أراد) تدلُّ على القَصْد والعَزْم والتّحديد والرّغبة بشيء مُعيَّن دُون غيره؛ بخلاف كَلمة (شاء)، فهي تدلُّ على الاختيار الاحتمالي، دُون تحديد لشيء بعينه.
لنرَ ذلك من خلال الآيات القُرآنيَّة:
قال تعالى: [ إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون ]
وقال: [ فعال لما يريد ]
وقال [ من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءاً أو أراد بكم رحمة ]
فالمُلاحظ من النُّصُوص السّابقة أنَّ (الإرادة) مُتعلِّقة بالفعل دائماً،
ولا تأتي مُجرَّدة دُون فعل، ممَّا يُؤكِّد على دلالة (أراد) للقَصْد والعَزْم على الشّيء، كَذلك نُلاحظ أنَّ كَلمة (أراد) تدلُّ على تحديدها وتعلُّقها بشيء مُعيَّن؛ أيْ لكُلِّ فعل (إرادة) مُتعلِّقة به، انظر قوله تعالى:[ إن أراد بكم سوءاً أو أراد بكم رحمة ]
ففعل السُّوء له إرادة مُتعلِّقة به، وفعل الرّحمة له إرادة مُتعلِّقة به.
أمَّا كَلمة (شاء)؛ فقد وَرَدَتْ لتدلَّ على الاختيار الاحتمالي المُتساوي بين طرفَيْن، بين الفعل والتَّرْك على حَدٍّ سواء.
قال تعالى: [ لو أراد الله أن يتخذ ولداً لاصطفى مما يخلق ما يشاء ]
فلو قَصَدَ وعَزَمَ اللّه على أنْ يتَّخذ ولداً لقام بعمليَّة الاصطفاء، ممَّا يخلق دُون تحديد لمخلوق بعينه سابقاً، وإنَّما الأمر مُرتهن بعمليَّة الاختيار الاحتمالي.
وقال: [ وما تشاءون إلا أن يشاء الله ] فمشيئة الإنسان في الواقع لها احتمالات، فإذا تمَّ اختيار وتحديد أمر بعينه تحوَّلت المشيئة إلى إرادة.
ولو فهمنا أنَّ المشيئة تعني الإرادة في النَّصِّ لصار الإنسانُ مُجبراً مُسيَّراً بإرادة اللّه، كون إرادة اللّه حتميَّة في التّنفيذ ومُحدَّدة في الواقع، ومُرتبطة بفعله، (فعَّال لما يُريد) وبالتَّالي؛ يصير الإنسان مُنفِّذاً لإرادة اللّه، وهذا يقتضي ـ في واقع الحال ـ نفي الحُرِّيَّة وإبطال المسؤوليَّة والثّواب والعقاب، لذلك تمَّ استخدام كَلمة (شاء) لتدلَّ على أنَّ الإنسان يقوم بمشيئته في عمليَّة الاختيار الاحتمالي، فإذا قَصَدَ وعَزَمَ على أمر مُعيَّن تحوَّلت مشيئته إلى إرادة، وكُلُّ ذلك يجري ضمن مشيئة اللّه، فالإنسان يُؤمن أو يكفر ضمن مشيئة اللّه، وليس بإرادة اللّه، فلا يصحُّ أنْ يقول الإنسان لأيِّ عمل يُريد أنْ يعمله: إذا أراد اللّه؛ لأنَّ هذا يعني نَفْي المسؤوليَّة عن الإنسان، ويصير المسؤول الحقيقي هُو اللّه عزَّ وجلَّ، كون الأمر قد تمَّ فعله بإرادته، والصّواب أنْ يقول: إنْ شاء اللّه؛ كما علَّمنا ربُّنا بقوله: [ ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا ً , إلا أن يشاء الله ]؛ لأنَّ حُصُول الشّيء في الغد أمر احتمالي مُرتبط بالظُّرُوف والإمكانيَّات، وقد يحول بين الإنسان وفعله ظُرُوف مُعيَّنة، وعلى كلا الحالتَيْن (الفعل أو التَّرْك)، فالأمر بمشيئة اللّه، وليس بإرادته؛ لأنَّ الفعل أو التَّرْك إنَّما هُو من الإنسان، وليس من فعل اللّه، وبالتَّالي؛ فالإنسان مسؤول عن أعماله.
فالمشيئة أعمُّ من الإرادة، وسابقة عنها من هذا الوجه.
ج ـ الفرق بين قرأ وتلى:
قرأ: أصل صحيح يدلُّ على جَمْع واجتماع.
تلى: من تلو، وهُو أصل واحد، وهُو الإتباع.
فهُناك فرق كبير بين فعل(القراءة) وفعل(التّلاوة) في الواقع:
قال تعالى: [ قل تعالوا أتلوا ما حرم ربكم عليكم ]
وقال: [ وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم ]
والمقصد من فعل (تلى) في النُّصُوص هُو ذكْر كلام اللّه بشكل صوتي آية تتبع آية، ومن هذا الوجه نقول: سوف يتلو عليكم زيدٌ من سُورة كذا. فالتّلاوة هي مُجرَّد إتباع الكلام بعضه بعضاً، دُون زيادة أو نُقصان، سواء
أ كان من صحيفة أمام التّالي، أم من ذاكرة حفْظه، فكلا الحالتَيْن تُسمَّى تلاوة، وبالتَّالي؛ لا يُشترَط لمَنْ يقوم بالتّلاوة حُصُول الفَهْم والتَّدبُّر.
أمَّا فعل (قرأ)؛ فلابُدَّ له من عمليَّة الجَمْع والاجتماع أنْ تتحقَّق في قلب القارئ، فعندما نقول: إنَّ زيدا قرأ عليكم نصَّاً إخباريَّاً، غير قولنا: إنَّ زيداً سوف يتلو عليكم نصَّاً إخباريَّاً.
فالقراءة للنَّصِّ إنَّما هي جَمْع ما يتعلَّق بهذا النَّصِّ من معاني ودلالات، والقيام بشَرْحه، وتحليله، والاستنباط منه، وإسقاطه على محلِّه من الخطاب، بمعنى آخر؛ القراءة هي فَهْم وتدبُّر وتفكير، وقد يُصاحبها تلاوة، وقد لا يُصاحبها تلاوة، ألا ترى أنَّ المُراقب الجوِّيَّ يقوم بقراءة صُور الأقمار الصّناعيَّة ليتنبَّأ عن الأحوال الجوِّيَّة، وكَذلك الطّبيب يقوم بقراءة الصُّور الشُّعاعيَّة أو صُور الرّنين المغنطيسي أو تخطيط القلب….إلخ، ومن ثُمَّ يُعطي النّتيجة لقراءته.
فعندما طلب اللّه ـ عزَّ وجلَّ ـ من نبيِّه فعل القراءة بقوله: [ اقرأ باسم ربك الذي خلق ] كان يعلم أنَّ النّبي أُمِّيٌّ في الخطِّ وتلاوة المخطوط، مما يُؤكِّد أنَّه طلب منه شيئاً آخر ضمن إمكانيَّة النّبي، وليس هُو إلاَّ فعل القراءة الذي يدلُّ على الفَهْم والتَّدبُّر للخَلْق باسم الرَّبِّ.
وكَذلك قوله تعالى: [ وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون ] ليس المقصود بفعل القراءة في النَّصِّ فعل التّلاوة له، وبالتَّالي؛ فالأمر بالاستماع والإنصات ليس لمَنْ يقوم بالتّلاوة، وإنَّما هُو لمَنْ يقوم بالقراءة، ومَنْ يقرأ القُرآن؟ إنَّهم ـ حسب مواضيع القُرآن ـ عُلماء التّاريخ، والفضاء، والإنسان، والبحار، والأرض، والنّبات.....إلخ، كُلُّ هؤلاء يقرؤون القُرآن، فيجب على الإنسان أنْ يستمع، ويُنصت لهم؛ لأنَّه ـ بعمله ذاك ـ يرفع الجهل عن نفسه، ويُغيِّر ما بنفسه من تخلُّف وانحطاط، ويتعرَّف إلى ربِّه من خلال خَلْقه، ولا شكَّ أنَّ ذلك الفعل سوف يستجلب رحمة اللّه
ـ عزَّ وجلَّ ـ له.