الخلطاء

لطفية سعيد في الخميس ٠٩ - أكتوبر - ٢٠١٤ ١٢:٠٠ صباحاً

 

 قال تعالى : (قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنْ الْخُلَطَاءِلَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ (24)ص

داوود عليه السلام قد أخطأ الحكم في القضية ،عندما تسور محرابه خصمان، طلبا إليه أن يحكم بينهما  في قضية قد بغى بعضعهم على بعض فيها،  وعند حكمه ظن أنما فتنه الله سبحانه ، فاستغفر ربه وأناب فغفر له ربه،  لكن تراه  قد أخطأ أيضا في تقييمه لموضوع الخلطاء ؟ فقد ذكرت الآيات الكريمة أن كثيرا من الخلطاء  يبغي بعضهم على بعض، واستثنت الآيات الكريمة فقط الذين آمنوا وليس جميع المؤمنبن بل من يعمل منهم الصالحات ...  ويا ليت الموضوع قد انتهى عند ذلك بل كان التصريح المباشر من الآيات الكريمة  : (وَقَلِيلٌ مَا هُمْ)لتؤكد بأن هذه الفئة قليلةجدا وبوسع متذوق اللغة أن يشعر بالقصرالذي يعتمد على النفي والاستثناء  في ( ما هم إلا قليل ) .. وكلما كان حجم الاستثناءات كبيرا،  يلقي الضوء  على حجم مشكلة البغي .. أضف إلى ذلك التأكيد الذي بدأت به الآية من استخدام :( إن ، اللام في : ليبغي )

, ولو تتبعنا لفظ خلط في القرآن سنجده قد جاء في آية واحدة يالإضافة إلى الآية التي معنا :

( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)التوبة 

الخلطاء تشعرك بالتداخل الشديد، فهو جمع يكسر كل خصوصية للأفراد،  كما هو حال جمع التكسير الذي يكسر  مفرده ..  فليس مجرد المشاركة مقصدنا بل خلط ومزج يشبه لحد بعيد ما يقوم به جهاز الخلط لطعام ، أم غيره  ...  ولو تأملنا الآية الكريمة سنجد  أن الأعمال الصالحة مخلوطة ومتداخلة مع  الأعمال السيئة بحيث يصعب الفصل بينهما..  وهذا هو ما نهدف إلى مناقشته تحديدا  وهو موضوعنا الأساس ، والاختلاط يأتي من منافذ عدة  منها :  شركة العمل ، أو شركة السكن أو الجوار ،أو القرابة  صداقة... هذه هي أهم العلاقات التي تربط بين الناس  ، لكن الخلطاء قد تجمع  بينهم أكثر من علاقة   وقد تتطور علاقة واحدة لتصل  بهم لهذه الدرجة ، فليس شرط  التعددية .. الصداقة مثلا شيء جميل وراقي ،  لكن لابد من وجود بعض القواعد التي تبنى عليها ... اهمها الاحترام المتبادل  حتى لا ينتهي أمرها ، ليس فقط  بضياعها ، بل وتحولها إلى عداوة وكره شديد ... وبوسعك أن تضرب لنفسك ما شئت من أمثله ، فهي لا تحصى ... أيضا أي علاقة  في نظري لابد أن تقوم على الاحترام ، ووجود الفواصل شيء أساسي  ليتنفس كل المتعاملين حتى لو كانوا   زوجين ....  والفتوى المضحكة التي تتحدث عن رضاع الكبير لإيجاد حلا شرعيا لمن  تجبرهم الظروف على التواجد  معا ،لا تحترم العقل المسلم الذي استوعب الفكر القرآني بكل ما فيه من علم وأمانة ،عجزت السماء عن حملها ...،وفكرة تعميمها في العمل يدلل على ما وصل إليه العقل المسلم من درجات عليا في  الإسفاف العقلي ...   يكفي فقط ان تعلم أبناءك كيفية الاختلاط ،مع وجود حدود وآداب ، ولنأخذ مثالا بسيطا : فالمراة وبكل سهولة تستطيع تشكيل كل المحيطين بها ، وفق ما تضعه من شروط ، وتستطيع أيضا أن تجبر الذكورمنهم  على السلوك المحترم ـ  حتى وإن كان تعاملهم غير ذلك .. فقط   التعليم والتربية المتوازنة، وبعدها لا تخش شيئا على الإطلاق ..ولنا خير قدوة بالذكر الحكيم عند مناقشة  وضع قواعد (للذين آمنوا)  لكيفية التعامل مع أزواج النبي عليه السلام  : 

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِ مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِ مِنْ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (54) الأحزاب

.والرسول الكريم كان أول المنفذين لما جاء به القرآن من تعاليم ، ومع ذلك نرى التطاول على زوجاته أمهات المؤمنين عبر ما يمررونه من رويات مكذوبة تتحدث عن خصوصية النبي مع أزواجه ....

و( بغى والبغي ) قد تم ربطهما تراثيا بالظلم، وهذا ليس دقيقا ، لأن الظلم قد جاء معناه واضحا في وصايا لقمان : (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) لقمان

فلنتأمل معا بعض المواضع التي ذكر فيها لـ (بغى ، البغي ) جاءت في : (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنْ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (القصص  76

وأيضا في : (إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى

سَوَاءِ الصِّرَاطِ ( ص) 22

والبغي قد تناوله القرآن الكريم  في مواضع كثيرة منها  : (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39)الشورى،  

(وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنْ الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) الجاثية 

(بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90البقرة)

وبعد  ... هل أخطأ داوود عليه السلام في تقييمه لموضوع الخلطاء ؟ فقد ذكرت الآيات الكريمة أن كثيرا من الخلطاء  يبغي بعضهم على بعض، واستثنت الآيات الكريمة فقط الذين آمنوا وليس جميع المؤمنبن ،بل فقط من يعمل منهم الصالحات بل وأكدت على أن من يتجنب البغي منهم قليل :( إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ)  سؤال سيظل مطروحا  : (هل أخطأ داوود في هذاالحكم حقا  ) وإذا كانت الإجابة بالنفي ( لا لم يخطئ في تقييمه لحجم من يقع في البغي ) ،  وإن كان لامحالة من الاختلاط   ،فعليك أن تحد حدودا للمخاطين ولنفسك أولا ،حتى نتجنب جميعا  الوقوع في البغي  ، وأظن أنه هدف يستحق  ....  

اجمالي القراءات 11671