يعتقد الهندوس أن الإله.."براهما"..خلق الكون على طبقات أو درجات أفضل من بعضها البعض ،أعلى هذه الطبقات هم الكهنة أو من يسمونهم.."بالبراهمة"..وأدناها المنبوذون أو الحرافيش بالتعبير المصري والفقراء والعامة بالمعنى الإنساني، وهؤلاء يُعرفون لدى الهندوس بطبقة .."الشودري".. وكل طبقة مُسيّرة لخدمة طبقة أخرى، فطبقة الشودري مُسيّرة لخدمة طبقة المهنيين والحرفيين ، وهؤلاء جميعاً مُسيّرون لخدمة طبقة الملوك والأغنياء والمحاربين، وهؤلاء جميعاً مُسيّرون لخدمة طبقة البراهمة أو كهنة الإله.
من هذه الخلفية الطبقية نشأت عقيدة.."التناسخ "..لدى الهندوس،وتعني أن أي كائن حي بعد موته يعود للعيش في جسد مختلف سواء من جنسه وفصيلته أو من جنس وفصيلة أخرى حسب عمله .
وهو ما يعني أن روح الإنسان بعد موته يمكنها الانتقال إلى جسد إنسان آخر أو حيوان أو حشرة، وتأتي عملية الانتقال ضمن ضوابط تحدد هذا الانتقال وتنظمه، مثال ما ذكره سليمان مظهر في كتابه الموسوعي.."قصة الديانات"..عن اعتقاد الهندوس بأن الأرواح لا تموت لأن مصدرها الإله براهما الذي لا يموت، وبالتالي عليهم معرفة مصائر تلك الأرواح بعد موت الإنسان، فقالوا أن الحياة تستمر فتنتقل روح الميت إلى جسد طفل وليد، فإذا عاش حياةً صالحة في حياته الأولى انتقل لطائفة أعلى في حياته الثانية.
فالرجل الصالح بعد موته –لو كان شودرياً فقيراً- ينتقل إلى العيش في جسد رجل من طائفة الحرفيين والصناع، ولو ظل رجلاً صالحاً في حياته الثانية ينتقل إلى جسد رجل من الملوك والأغنياء في حياته الثالثة، ولو ظل رجلاً صالحاً ينتقل إلى جسد براهمي أو كاهن في حياته الرابعة، حينها يكون لديه مصيران، لو صلح فيتحد مع الإله براهما ويصل للنيرفانا وبالتالي تنتهي دورة حياته، أما لو فسد فينتقل إلى الطائفة الأدنى في حياتة التالية وتستمر الدورة.
وتنطبق عقيدة التناسخ على كل المخلوقات، فجميعهم من الإله براهما، وبالتالي فأن الهندوس يعتقدون.."بوحدة الوجود"..وتعني أن الوجود كله مُشخّص في الإله، فلا موجود حقيقي إلا هو، وجميع من في الكون هم صور متعددة للإله.
بتلك العقيدة-التناسخ-يثبت أن الهندوس وسائر الشعوب التي تؤمن بها لا تؤمن بالبعث، وبالتالي فلا حياة أخرى ما ورائية تحاسَب فيها كل نفسٍ بما كسبت، وبالتالي فلا جنة ولا نار كما هي في الأديان الإبراهيمية .."الإسلام والمسيحية واليهودية"..وتلك حواجز مفصيلة وجدانية بين شعوب آسيا التي تؤمن بالتناسخ وبين غيرهم من الشعوب، خاصةً إذا علمنا أن الصينيون في عقائدهم البوذية يتفقون مع الهندوس في الاعتقاد بالتناسخ، والبوذيون والهندوس يشكلون أكثر من 90% من شعوب آسيا بما يعني أن القارة الآسيوية هي تناسخية في معظمها.
التناسخ في المنطقة العربية ضعيف جداً عدا بعض معتنقي الدرزية والعلوية، ومعتنقيه كثيراً ما يدلون على دينهم بقصص كمن أراد الزواج بحيوان اعتقاداً منه أنه كان زوجاً له في حياته السابقة، أو حنين بعض الأشخاص وقربهم لأمكنة وأناس لا يعرفونهم، والحقيقة أن تلك القصص لا تصلح لقيام ديانة أو معتقد ، بل تصلح لأن تكون مصدراً للشك والظن ، إذ في الإسلام –مثلاً- يوجد نص يقول بأن..."الأرواح جنودُ مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تنافر منها اختلف"..ونص آخر.."كنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه تُرجعون"..والمعنى يرمي أن الأرواح تعارفت وتنافرت في عالم ما ورائي قبل الإحياءة الأولى، أو يكون قد حدث ذلك في الحياة الدنيا، أو يكون الأمر برمته مبهم وغامض شأنه كشأن كثير من الظواهر الروحية كالأحلام والرؤى والتنبؤات وغيرها.
كذلك فالقصص لا تحل إشكالية عدم انطباقها على العامة، أي يجب أن يشعر الجميع بهذا الحنين والرؤى الغيبية لأسس الحياة الأخرى، فالرجل الذي تزوج حيواناً لشعوره بأنه كان زوجاً له في حياته السابقة لابد أن يشعر الجميع بشعوره، لماذا هو بالذات؟..ولماذا تلك القصص تخرج بشكل مطابق لقصص الصوفية وكرامات أوليائهم؟..أي لا يمكن التأكد من صحتها حتى لو صدق المدعي، كذلك فافتراض دورية الحياة وبقاء التناسخ يعني أن الحياة السابقة تسبقها حياة فالأسبق فالأسبق، والقصص لم تُذكر فيها أسس وتفاصيل تلك الحيوات.
بالعموم في تصوّري أن التناسخ جاء بديلاً عند الكهنة ومفكري الهندوسية عن البعث، فالبعث لم يُذكر لديهم كحياة أخرى فيها الثواب والعقاب الخالد، لذلك لزم حل تلك الإشكالية بالتناسخ وبالتالي يحلون أكبر معضلة لديهم وهي.."العدل"..ما هو وما جزاء الظالمين إذا ما كان براهما قد خلق الناس على طبقات ورضي بهذا الخلق كمصير أبدي لا يمكنهم استبداله، وأظن أن الهندوس تساءلوا عن الانتقال الدنيوي بين الطبقات، فالشودري يمكنه أن يكون حرفياً، ويمكنه أن يصبح غنياً من الملوك، فعلى أي وضع ستكون حياته التالية ؟!
إن فكرة التناسخ هي فكرة مثيرة في ذاتها، لذلك تجد أكثر المتحمسين لها من ذوي الطبائع الثورية، فهو ولو كان فقيراً يمكنه أن يصبح غنياً بعد موته، أو يملك العالم فيما لو أدى شرط البلوغ وهو أن يظل على صلاحه حتى ينتهي بالاتحاد والنيرفانا مع الإله.
كذلك فالفكرة المثيرة هي دائماً محط اهتمام المفكرين واهتمام كل من يبحث عن الجديد، أو هي حل لمعضلة.."العدل"..عند بعض الملحدين ، و الفئة الأخيرة لديها شبهات عن العالَم الماورائي، أو فيما نعرفه.."بالبعث والجنة والنار"..والتناسخ يحل هذه المعضلة بشكل كبير، ويربط بين جوانبها بطريقة تُقنعهم.
أخيراً أستغرب لماذا هذا الغياب البارز للبعث في عقائد الهندوس، وفي تقديري أن السبب هو في قصة الخلق البرهمية الطبقية لديهم، لذلك أظن ابتداءً أن طريقة تصور كل أصحاب دين لمعتقدهم تبدأ من تصورهم لقصة الخلق، فبها وعليها تقوم رؤيتهم للأشياء، وأنتهاءً بطريقة تصورهم للعدل فبها وعليها تقوم رؤيتهم للحياة برمتها بما فيها العلاقة مع الآخر وأفعال الإنسان...إلخ.