يقول المؤرخ الانجليزي جون بيوري في كتابه حرية الفكر.."من الشائع بين الناس أن الفكر حر طليق، بدليل أن الإنسان لا يمكن أن يمنعه مانع عن التفكير فيما يشاء، طالما هو لا يفعل شيئاً في سبيل التنفيذ".
"ولكن هذه الحرية الفكرية الطبيعية الشخصية ليست لها قيمة تستحق الاعتبار، إذ هي حرية لا تُجدي من المرء ولا من جيرانه شيئا، بل إنها حرية مؤلمة للإنسان المفكر ما دام لا يقدر على إيصال أفكاره للناس، وما دام لا يستطيع بغير جهد جهيد أن يكبت أفكاراً قوية ويُخفيها في الظلام"..(حرية الفكر ص/18 ط/ المركز القومي للترجمة).
إن حرية الفكر تساوي في قداستها حرية التعبير، ما من مجتمع يسمح بإحداهما عن الأخرى إلا ويعاني من الكبت الذي في أنفس المفكرين، يريدون التوعية لكن السلطات والأعراف والتقاليد والكهنة يفرضون عليهم نمطاً من الفكر والتعبير لا يلائمهم..
ولكن ما ثمن حرية التعبير حسب المؤلف؟..يقول:
"إن حرية الكلام قد نراها اليوم مسألة واقعية مألوفة في المجتمعات التي أخذت بنصيب موفور من الحضارة، ولقد نرى أننا تعودناها إلى الحد الذي نراها فيه حقاً طبيعياً، ولكن هذا الحق لم تدركه البشرية إلا بعد أن خاضت إليه أنهاراً من الدماء"..
"وليس من العسير أن ندرك سر هذا العداء، فإنك ترى عقل السواد من الناس عقلاً كسولاً لا يميل إلى المعارضة إلا بمقدار، وإنك لتلاحظ أن الرجل العادي له عالم عقلي يتكون من معتقدات سبق له التسليم بها دون سؤال أو نقاش، وهي معتقدات ارتبطت بنفسه ارتباطاً وثيقاً يجعله يعادي كل من يهدد نظامها المأثور الذي ألفته نفسه واستراحت إليه"..(ص/19)
إن كسل العقل عن أي نشاط نقدي هو ما جعله يستسلم للشائع، وبالتالي أصبحت قلة النقد عائقاً أمام تطور الإنسان، تلك هي سلطة القديم الراسخة في النفس، وهي التي حملت الطغاه على دفع الأنبياء والفلاسفة قديماً وحملت الرعاع على قهر المصلحين والمفكرين حديثاً.
كذلك فالخلط بين الديني والدنيوي هو الذي يحمل الناس على معاداة الفكر، أكثرهم يعتقدون في الخرافة دنيا قبل أن تكون ديناً، في الإسلام لا زالوا يتعوّذون من الدجال وعذاب القبر، ويذهب بعضهم بطقوس عند القبور تُشبه ما فعله الأسلاف من تقديس الحجر والشجر، وآخرون يدعون ربهم أن يكونوا من جنود المهدي والمسيح، وأخرون يرون في طاعة الحاكم ديناً ولو ظلم، وآخرون يرون الآخر عدو متربص دائماً، هذه هي النزعة الخرافية والتآمرية التي ورثها المسلمون عن الأجداد، وهي في تقديري التي خلقت هذا الكمّ الرهيب للعداء مع الفكر.
كلما ضاقت المسافة بين الديني والدنيوي كلما انحطت المجتمعات
الإنسان لديه المقدس جوهرياً ولو ألحد، فالملحدون لديهم مقدس يشتمل على آراء ونظريات وبراهين، قد يرد أحدهم رأياً لمجرد الرفض أو عدم الارتياح كما يفعل المتدينون، وهي سلطة القديم والانسجام –كما تكلمنا- وحين تتفاعل الآراء.."تتواصل"..ينتج عنها قيمة معنوية تفصل بين الديني والدنيوي، هي المحرك عند المتدينيين في التمسك بعقائدهم ،وعلى ذلك في جانب الإلحاد.
ويظل الفكر نشطاً بحُكم الواقع، ولكنه يتخلص من عوائقه التي كسرها التواصل، أو لإيمان الملحدين بضرورة الدين في مجتمعاتهم كما يرى الكاتب:
"كان الملحدون القدماء يعتقدون أن الدين الزائف لا بد منه وجوده لحفظ نظام المجتمع، وهذا رأي نشهده اليوم عند أكثر الناس بصور مختلفة، فهم يدافعون دائماً عن الأديان بإعتبارها شيئاً مفيداً لا بإعتبارها حقاً وصواباً. وهذا الدفاع يرجع إلى السياسة الميكيافلية التي تقدر أن الدين ضروري لقيام الحكومة، وأنه قد يكون من واجب الحاكم أن يناصر ديناً يؤمن بزيفه وبطلانه"..( ص/41).
وماذا لو لم يقبلوا الدين ورأوا في دنياهم بقاءً دائماً لا مرد فيه لحساب، حينها ينشط العقل ويعود للميتافيزيقا، وتتجدد المواجهة باستمرار والدافع..ما الغاية من وجود الإنسان؟..وما الذي حدث لنرى الكون والأشياء ؟..وماذا في المستقبل ؟..كلها أسئلة تشغل بال الإنسان منذ نشأته.
لذلك وفي تقديري أن عوائق الفكر تتجدد بمصادر دائمة ، هي نفسها التي أنتجت أشكال الإيمان والإلحاد المختلفة، وهي التي أنتجت نُظم التنوير والتحديث داخل المذاهب والأديان، وهي تدور في محورين اثنين:
الأول: في الحرية وفهمها وتوق الإنسان الدائم أن يفعل ما يريد ويقول ما يقنع به ويمارس حريته دون تدخل من أحد.
الثاني: في تقييد هذه الحرية وضبط ميوله كي لا تَكثُر الحروب والنزاعات.