قالوا أن البخاري معصوم، وسائر كتب التراث لا يُراجعها إلا هم، فأين كانوا طيلة عقود من الحرب على الإرهاب؟...أربعون عاماً مرت على الإرهاب الذي يجتاح العالم العربي، التطرف الديني والغلو في الدماء والعقائد أصبح سمتاً لأولي التدين، من يلتزم أصبح في خطر، مع أن الأولى في الالتزام الهداية والاعتدال، ولكن بانحرافهم جعلوا التدين والالتزام أولى مراحل الجريمة..
في الأزهر يقولون نختلف مع السلفيين، سألناهم على ماذا الاختلاف، قالوا نختلف في فهم الدين، يعتقدون أنهم أذكى من السلفية في فهمه، وأنهم أصح رؤية وأقرب وجداناً من النص، سألناهم فما بال قولكم أن كل ما في الصحيحين صحيح، وهل السلفية تقول غير ذلك، وما بال قولكم في التبريرات المشهورة..."بتأويل مشكل الآثار"..قالوا نفهمها بطرقنا، قلنا وهل اجتمعتم على فهمٍ واحد؟..قالوا لا، قلنا فلما كان تأويلكم أصلاً، وما فائدته وإضافته للدين؟!
بعد انتشار الإرهاب وسيطرته على محافظات وبلاد واسعة لم ينتبه هؤلاء إلى أن التمدد الإرهابي لم يأتِ من فراغ، بل لديهم فكرة قوية وأسلوب قوي في التعامل وإقناع مؤيديهم أنهم على حق، إنهم ياسيدي يقولون مثلما يقول الأزهر بالضبط، عصمة البخاري، الخلافة، الشريعة، حُرمة الاجتهاد وتجديد التراث، خيرية القرون الأولى لترسيخ مفهوم التقليد للسلف، لقد صاغوا مناهجهم بنفس ما جاء به الإخوان، ثم أعلنته داعش بعد ذلك ، لم يفطنوا إلى أن الاتفاق على فهم موحد للدين مستحيل، لم يفطنوا إلى أن الخلاف طال العقائد والدماء، لم يفطنوا إلى حجم الكارثة الفكرية والدموية التي يعاني منها العرب.
في هذه الدراسة سأطرح جانباً بسيطاً لماهية تفكير الإرهاب، والجديد أن مفتيهم هذه المرة ليس محسوباً على الدواعش، ولكن فتواه ربما عند قرائتها لن نرى خلافاً بينها وبين ما جاء به البغدادي ..
يقول الشيخ سليمان الخراشي في جواز قتل العلمانيين ونهب أموالهم وانتهاك حرماتهم ما يلي:
" دار بحث مع بعض الأخوة الأفاضل عن حكم التعامل مع العلمانيين والحداثيين والعصرانيين وغيرهم من أصحاب الفكر المنحرف والعقائد الباطلة. وهم إن كانوا في بلاد المسلمين ويقيمون معهم فهم مرتدون عن الإسلام ويتعامل معهم كما يتعامل مع المرتد وفق الشرع. والمرتد في اللغة : هو الراجع ، يقال : ارتد فهو مرتد : إذا رجع ، قال تعالى : { وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ } أي : لا ترجعوا . والمرتد في الاصطلاح : هو الذي يكفر بعد إسلامه طوعا بنطق أو اعتقاد أو شك أو فعل . والمرتد له حكم في الدنيا وحكم في الآخرة. أما حكمه في الدنيا -;- فقد بينه الرسول صلى الله عليه وسلم وقد وردت جملة أحاديث صحيحة عن عدد من الصحابة: عن ابن عباس وأبي موسى ومعاذ وعلي وعثمان وابن مسعود وعائشة وأنس وأبي هريرة ومعاوية بن حيدة.
وقد جاءت بصيغ مختلفة، مثل حديث ابن عباس: " من بدل دينه فاقتلوه"(رواه الجماعة إلا مسلمًا، ومثله عن أبي هريرة عند الطبراني بإسناد حسن، وعن معاوية بن حيدة بإسناد رجاله ثقات) .(أورد ذلك الهيثمي في مجمع الزوائد: 261/6).
وحديث ابن مسعود: " لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه، المفارق للجماعة" (رواه الجماعة).
وفي بعض صيغه عن عثمان: "..... رجل كفر بعد إسلامه، أو زنى بعد إحصانه، أو قتل نفسًا بغير نفس" (رواه الترمذي وحسنه والنسائي وابن ماجة، وقد صح هذا المعنى من رواية ابن عباس أيضًا وأبي هريرة وأنس)، قال العلامة ابن رجب: والقتل بكل واحدة من هذه الخصال متفق عليه بين المسلمين .(انظر: شرح الحديث الرابع عشر من "جامع العلوم والحكم" بتحقيق شعيب الأرناؤوط- طبع الرسالة).
وأجمع العلماء على ذلك ، وما يتبع ذلك من عزل زوجته عنه ومنعه من التصرف في ماله قبل قتله . وأما حكمه في الآخرة . فقد بينه الله تعالى بقوله : { وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
والردة تحصل بارتكاب ناقض من نواقض الإسلام ، سواء كان جادا أو هازلا أو مستهزئا -;- قال تعالى : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ }
ونواقض الإسلام التي تحصل بها الردة كثيرة . من أعظمها الشرك بالله تعالى -;- فمن أشرك بالله تعالى -;- بأن دعا غير الله من الموتى والأولياء والصالحين ، أو ذبح لقبورهم ، أو نذر لها ، أو طلب الغوث والمدد من الموتى -;- كما يفعل عباد القبور اليوم ، فقد ارتد عن دين الإسلام -;- قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ }
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم ويتوكل عليهم -;- كفر إجماعا . وكذلك من جحد بعض الرسل أو بعض الكتب الإلهية -;- فقد ارتد -;- لأنه مكذب لله ، جاحد لرسول من رسله أو كتاب من كتبه . وكذلك من جحد الملائكة أو جحد البعث بعد الموت -;- فقد كفر -;- لأنه مكذب للكتاب والسنة والإجماع . وكذلك من سب الله تعالى أو سب نبيا من أنبيائه تصريحا أو تلميحا -;- فقد كفر. وكذلك من شكك في النبوة ، أو ادعاها او صدق من يدعيها بعد النبي محمد صلى الله عليه وسلم -;- فقد كفر ، لأنه مكذب لقوله تعالى : { وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ } ومن جحد تحريم الزنى ، أو جحد تحريم شيء من المحرمات الظاهرة المجمع على تحريمها كلحم الخنزير والخمر ، أو طالب بالغاء حد من حدود الله (كما ينادي العصرانيون وغيرهم من اهل العلمنة) فقد كفر . وكذلك متى جحد وجوب عبادة من العبادات الخمس الواردة في قوله صلى الله عليه وسلم : [ بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج بيت الله الحرام ] ومن استهزأ بالدين ، أو امتهن القرآن الكريم ، أو زعم أن القرآن نقص منه شيء ، أو كتم منه شيء فلا خلاف في كفره " . .انتهى
هكذا يفكر الداعشيون والتيار السلفي بالعموم، وهكذا يقرهم الأزهر كونه لم يراجع تلك النصوص التي عرضها هذا المجرم..ويعتبرها معصومة مقدسة جاءت بالوحي من عند الله..
الآن وبعد هذه الفتوى لنا عدة خواطر:
1- هل جاء الشيخ بأدلة التكفير والقتل من خارج الحديث وأقوال الشيوخ؟..الإجابة لا...فكافة أدلته تراثية حديثية على طريقة...حدثنا فلان وعلان، وقال الشيخ كذا وكذا، وقال فلانُ فيهم.
2- جاء بالقرآن مكملاً لأصل الفتوى، أي أنه استشهد بكتاب الله كفرع عن الأصل، لم يجد في القرآن ما يدعم حجته، ولكن وجد ما يؤيد تلك الأحاديث بزعمه، وهذا يعني أن القرآن لدى الخراشي هو ثانوي ولا يصح الاحتجاج به في هذه المسائل، وإلا توجد نصوصاً صريحة وعشرات الآيات عن حرية التدين وأنه لا إكراه في الدين وحُرمة الاعتداء..
3- لو جاء أزهرياً يخالفه فعلى أي أساس والرجل لديه نصوص صريحة ومحكمة تدعو لقتل المرتد، وبما أن العلماني لديه مرتد فيجوز قتله، ولو جاء الأزهري بنصوص القرآن حاكمة فقد وافق ما نطلبه أن يكون القرآن حاكم ومهيمن على ما سواه.
4-تلك القواعد السلفية يسميها علماء الأصول.."أدلة"..وهي تأتي بالاستنباط، وقواعد وأدلة المذاهب تكاد تكون متفقة على أصلين اثنين.."الكتاب والسنة"..حتى أن تعريف السنة لديهم هو الحديث ،ورغم اجتهادهم بالاستنباط إلا أنهم يرفضون استنباط السنة من القرآن وصريح المعقول، ويكتفوت بحصر وظلم السنة في مشاهد وقصص وخرافات الحديث..
5-ماذا عن مشاركة العلمانيين في العملية الديمقراطية في مصر؟..هل يجوز لهم ذلك عند الأزهر؟..أعلم أن الأزهريين لا حس ولا خبر ولا تعليق في هذا الشأن، بل يكتفون بمسايرة الواقع وسلطة السيسي مؤقتاً لحين عودة الكرة مرة أخرى على العلمانيين.
6-ماذا فعل الأزهر للتيار السلفي وشيوخه في مصر؟..توجد فتاوى قبيحة وفي قمة الإهانة والسخرية للدين الحنيف، لم يتحركوا خطوة واحدة لفض هذا الاعتداء، ولكن إذا قام أحد بانتقاد البخاري وكتب التراث ثارت ثائرتهم وهددوا بالقمع والنائب العام والحسبة..تلك القوانين والآليات سيئة السمعة أصبحت ملازمة للأزهر ضد حرية الفكر..
7-ماذا عن الدستور المصري الجديد الذي يحرم عمل الأحزاب الدينية؟..رغم أن الأزهر في مواقعه -وفي موقع دار الإفتاء- لا زالت فتوى حرمة فصل الدين عن الدولة تُزين الدار وأهلها وشيوخها، والفتوى في مجلد دار الإفتاء للشيخ عطية صقر عام 1997 صفحة 10، وفي فتوى دار الإفتاء على الشبكة بتاريخ 18 مايو 2011، رقم الفتوى 3759.
8-حكم العزل والتفرقة بين الزوجين –الوارد في الفتوى- حدث قبل ذلك من الأزهر في حق نصر أبو زيد من مفكري القرن العشرين في مصر، حكموا بردته وفرقوا بينه وبين زوجته في حادثة بشعة سجلها التاريخ في رقبة الأزهر.
أعتقد وبعد هذا السرد أصبحت الأمور واضحة ، فالسلفيون مشهورون بتمسكهم بالتراث دون تجديد أو نظر، هو لديهم كيان وهوية وطائفة، وهم الشريان الدائم لجماعات العنف السياسي، الأزهر كذلك يشترك مع السلفيين برفضه مراجعة ذلك التراث، واعتماده على مزاعم الفهم الصحيح التي يرددها منذ عقود طويلة والحال يزداد سوءاً..
متى يفيق الأزهر من سباته ويخترق حاجز التقليد والخوف من المراجعة، متى يفيق وقد أفاقت الكنيسة من قبل بمراجعات وتوجهات تدعم الانفتاح والتواصل، لا زال الأزهر يرى برؤية القرون الوسطى، المفكر لديه يتبع واحدة من الفرق الضالة، والمجتهد ضال وملحد ، والناقد متآمر ومدفوع، لا رؤية معاصرة لديه بظروف العالم وطبيعة المجتمعات، بل لا رؤية تنويرية له تخضع كتب التراث للتحقيق.
أجزم أنه لو أراد الأزهر مراجعة حقيقية سيفشل، والسبب أنه استجاب لدعوات التجديد تحت ضغط وليس عن قناعة، نحن لا نريد منهم شيئاً، بل أن يحمونا ويحموا مجتمعاتنا من الإفك والتقوّل على الله بغير حق، وأن يكونوا هم أول من يتصدوا لفتنة الدين والسياسة، وأن يحاربوا كل تاجر دين ويدفعونه بالأدلة، لديهم الإمكانيات لتحقيق ذلك، فليُعلنوا على الملأ أن ليس كل ما في الصحيحين صحيح، وأن العقائد والثوبات لا تجوز خارج كتاب الله، وأن يعلنوا عن مشروع قومي فكري لتنقية المحتوى المقدم للجماهير.
هكذا سيكونون أكثر صدقاً مع أنفسهم ومع الله، سيبرأون من دم أي علماني أو شيعي أو مسيحي يقتله الأفاكون، حين يقفون أمام الباري مطمئنين، حين يبرأون من حق الرسول فيهم أن كذبوا عليه متعمدين وجاهلين، حين يرون الناس وقد هُدوا إلى الحق بدعوتهم، حين يساهموا في بناء الثورة الحقيقية والحضارة، حين يساهموا في صنع الإنسان، حين يدفعوا الناس لبناء العالَم، حينها سيكونون هم العلماء لا الدراويش، المفكرين لا المتنطعين، المبدعين لا السفهاء والمقلدين...والأكثر من ذلك سيحترمهم العالَم أكثر، سيحبهم المسيحي والشيعي والعلماني أن أعطاهم حقهم في الحياة وفي الاختلاف، وما أعظم من هذا الحق الذي سطره الله في كتابه وأكّد عليه أن الإنسان حر وعاقل إلى يوم الساعة.