في يوليو عام 1977 هاجم بعض المسلحين منزل الشيخ محمد حسين الذهبي وزير الأوقاف الأسبق، واختطفوه وبعد أيام وجدوا جثته مقتولاً في إحدى مناطق الهرم، وقد كانت هذه العملية رد طبيعي من الإرهابيين على منهج الشيخ المُعلن بضرورة مواجهة الإرهاب والتكفير بالعقل ونقض الحُجج وهدم تراثهم وكشفه للعامة، كانت رؤية الشيخ تتفق مع رؤية التنويريين الذين يرون أن أفضل وسيلة للحرب مع الإرهاب هي خلع جذورهم الفكرية وكشفها للعامة لئلا ينخدع بها البسطاء والشباب.
المتأمل في كُتب الشيخ يرى هذا المنهج بوضوح..فلنتأمل هذه الكُتب:
1-الإسرائيليات في التفسير والحديث
2-الاتجاهات المنحرفة في تفسير القرآن الكريم دوافعها ودفعها
3- أثر إقامة الحدود في استقرار المجتمع
هذه كتب صريحة تدعو إلى نزع شرعية الفكر الإرهابي وفضح تراثه، وطمس محاولاتهم في خلق مجتمع ديني يقوم على الإقصاء والتكفير، كانت بداية للشيخ في الوزاة تعني له الكثير، فجماعات الإرهاب بدأت في الظهور للعلن، وهجروا الناس إلى الجبال، وشريحة اجتماعية دينية ليست هينة تدعمهم بالفكر والمال، وبوادر غزو سلفي خليجي لعقول المصريين، وتحديات سياسية كبيرة بعد حرب التحرير عام 73، وعودة نشاط جماعة الإخوان بعد خروجهم من السجون، وحرب باردة بين قطبين عالميين لا خطوط حمراء لديهما ومصر ربما تكون إحدى ضحاياهم.
الآن في عام 2014 لا يختلف الوضع كثيراً عن زمان الشيخ الذهبي، ثورتين مصريتين على أنظمة فاسدة، وخريف عربي هدم جيوش سوريا والعراق وليبيا واليمن، وإسرائيل متحفزة على الحدود، وشعب فلسطيني في غزة يئن تحت وطأة الاحتلال واستغلال حماس له للفوز بمكاسب سياسية حزبية، وإرهاب أسود يهدد الوطن المصري في سيناء وعلى الحدود الليبية، وانتشار لجماعات الإرهاب في العالم العربي والجيش المصري إحدى أهدافهم الكُبرى، وأزمة اقتصادية ومائية خانقة تهدد كيان مصر برمته، وجماعة خائنة فشلت في السلطة وتسعى بكل قوتها لهدم الوطن…
كل ذلك خلق تحديات للشعب المصري الآن أن يعالج أمراضه بنفسه، وأهمها ما تسبب في انتشار الإرهاب وغزو عقول الشباب بالفكر الإقصائي والاستعلائي.
حينها تنبه الرئيس السيسي إلى خطورة المرحلة فجعل من أولى برامجه أن يسير الإصلاح الاقتصادي والسياسي جنباً إلى جنب مع الإصلاح الديني، ودعا إلى مبادرة عظيمة لتجديد الخطاب الديني ومعرفة صحيح الدين كي لا يقع الشباب فريسة لتجار الأديان والحروب مثلما وقعوا في زمن الشيخ الذهبي ويقعون الآن بالآلاف، وكلف الأزهر بهذه المهمة كونه إحدى مؤسسات الدولة المختصة بالشأن الديني….ولكن..
هل الأزهر يستطيع إنجاز هذه المهمة ؟
في تقديري أنه عاجر وسيعجز عن تقديم الحد الأدنى من التجديد المطلوب، فهو لديه خطوط حمراء فكرية يحرم تجاوزها، هذه الخطوط هي قواعد أصيلة في الفكر الإرهابي، فكيف يتسنى له معالجتها وهو يعزف عن تجديد أو حتى تطوير هذه القواعد بما يناسب ثورة المعلومات في القرن الحادي والعشرين، ببساطة الأزهر مشارك للجماعات الإرهابية في تغذية عقول الشباب بكل ما هو فاسد دينياً، وما كانت محاولات الشيخ الذهبي إلا نقطة مضيئة في تاريخ الأزهر كلفته حياته، ومع ذلك يرفض الأزهر أن يعيد إنتاج ذهبي جديد يقصم به ظهور الإرهاب والغلو والخرافة .
الأزمة هي في التراث الديني الذي يرفض تجديده الأزهر..
بالأمس وعلى مدار ثلاثة أيام عاش المصريون مع حالة فكرية نادرة تمثلت في إحياء شيخاً ثورياً مريضاً يُدعى.."محمد عبدالله نصر"..لفكرة إحياء التراث وتجديده وتنقيته من الخرافات والأكاذيب والأوهام التي تؤسس لعقلية إرهابية إجرامية، فما كان من الأزهر إلا أن تصدى للشيخ بقسوة مبالغ فيها، وشتموه ونعتوه بأقذع الألفاظ، وشارك وزير الأوقاف.."محمد مختار مجمعة"..في هذه المهزلة، وطالب بقمعه وسجنه، بل حرضوا على قتله بعد تكفيره…هذا هو الأزهر على حقيقته، وجهاً آخر لجماعات داعش وبوكو حرام والإخوان، ولكن تحت عنوان خادع وهو.."الوسطية"..!
ألم يكن أجدر بالشيخ-وهو في موقع المسئولية-أن يتحلى بخُلق وفكر الشيخ الذهبي حين أعلن أن مواجهة الإرهاب تبدأ بالفكر لا بالأمن؟..ألم يعي الشيخ المسئول أن الإرهاب يعتمد أسس ومناهج الأزهر في تغذية عقول الشباب وانحرافهم عن صحيح الدين؟!
بكل وضوح فالأزهر لا زال يقول بوجوب الخلافة الإسلامية مثل داعش والإخوان، ولا زال يقول بكفر وشطط العلمانية وفصل الدين عن الدولة ، ولا زال يقول بوجوب تطبيق الشريعة والحدود ومنها حد الرجم وحد الردة، ولا زال يعتمد قدسية وعصمة البخاري مثل سائر الجماعات الجهادية، وباب الاجتهاد لديه مغلق منذ القرن الثالث الهجري، وعجلة الزمن توقفت لديه عند فقه الأئمة الاربعة ، ولا زال يعتمد جريمة.."الناسخ والمنسوخ"..في تراثه التعليمي، التي تقول بتعطيل عشرات بل مئات الآيات القرآنية لصالح الحديث وأقوال الأئمة..
هذه هي الأسس الرئيسة التي جعلت الأزهر منبراً للتطرف الديني والتحريض والقتل باسم الله، هناك توجهاً حديثاً يدعو لتعطيل هذه الثوابت مؤقتاً نظراً لظروف حرب الدولة مع الإرهاب، ولكن فور انقشاع الغُمة سيعود الأزهر مرة أخرى إلى سيرته في تصدير التطرف والتكفير للمجتمع..أما الآن فيبدو أنه استعجل هذه الحرب بتكفير المشككين في صحيح البخاري والتحريض عليهم الآن ، وعاد إلى سيرته الأولى في قهر الخصوم ومصادرة الفكر والحريات..
قلت في مقال سابق بعنوان.."تجفيف منابع الإرهاب أولى من الحرب عليه"..ما يلي:…." كنا نتعشم خيراً في أزهرنا الشريف بأن يتصدى لهذه الظاهرة الإرهابية ووضعها في إطارها دون لبس، ولكن الأزهر يكتفي –كالعادة-ببيانات الشجب والتنديد، ووصم كل من يعمل عملاً إرهابياً أنه ليس على الطريق الصحيح، وأنا لا أفهم كيف يكون إرهابياً خريجاً للأزهر؟..حدث ذلك مرات ومرات، بل وصل الأمر إلى أن التحريض الديني خرج من على منابر الأزهر في بعض الأحيان، نعم يوجد توجه لقيادة الأزهر مضاد للإرهاب بالكلية وهم يعملون على معالجته حسب قدراتهم، ولكن كما أقول وأدعي ..أن المسألة تخطت حاجز المواجهة، ويجب أن يعمل الأزهر على تجفيف منابع الإرهاب وليس الاكتفاء بالمواجهة الفورية ..هذا أسلوب الشرطة وهي غير معنية بالمواجهة الفكرية"..
وهذا يعني أن مهمة الأزهر ضد الإرهاب هي فكرية، ولاأفهم كيف يواجهونه فكرياً وهم يتفقون معه في قواعده المسمّاه بالبناء الأول، فهذا الإرهاب لا يخرج عن فتاوى الأزهر بضرورة وجوب الخلافة، ولا في تعيين الدولة الإسلامية ولا يقتربون من قداسة وعصمة التراث وأهمه البخاري الذي أنزلوا إليه العصمة من حيث لا يعلمون-فرضاً لحُسن النوايا-وعلى رأي أحد المعارضين للأزهر أن الأزهر يريد أن يُحاكم مجتمعات ودول القرن الخامس عشر الهجري بقواعد وأفكار وأساليب القرن الثالث الهجري، كمن يريد أن تسير سيارة ماركة 2014 بموتور سيارة ماركة 28....في النهاية لن تسير السيارة لأنها لم تتطور ولم يجرِ تحديثها إلا شكلياً، أما المضمون أو المُخ فهو واحد...!
ياأزهرنا العزيز إن الله خاطب رسوله قائلاً: .."إنك لا تهدي من أحببت"..فكيف تغرسون في مناهجكم كراهية الآخر والسيطرة عليه وحُكمه عنوة، بل تُنزلون الحاكم منازل العصمة بقولكم بالخلافة، وتهددون أمن واستقرار المجتمع بقولكم بالشريعة والحدود، وتهددون عقول الأجيال بعدم تنقية التراث وما يُسمّى بالصحاح ..
لن يستقيم أحدكم مع الشيخ الذهبي البطل الذي ضحى بحياته ثمناً للتجديد والتطوير والتنقية، بل تخافون على أنفسكم وغرتكم الحياة الدنيا، وخُدعنا فيمن نصفهم بالعلماء الوسطيون بعدما ظهروا كالإخوان..لا وسطية ولا دياولو..!...نفس الأساليب القمعية التكفيرية، ونفس المنهج الإقصائي العدواني التحريضي، نطالبكم أن تعتبرونا كُفّارا وتحبوننا كما كان يحب النبي كفار قريش، أخشى أن لا تفعلوا حينها سنعاني من الإرهاب مجدداً، وما تجربة الذهبي وبعث الإرهاب من بعده ب40 عاماً إلا درساً لكم ..أن ما ترفضون تجديده وتدعون عصمته الآن سيُنتج في المستقبل جيلاً أشد وأقسى جُرماً من أسلافه..