الإرهاب والإستبداد و " غسيل المخ "

مسعد حجازى في الجمعة ٠٢ - مارس - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً

الإرهاب والإستبداد و " غسيل المخ "

 مسعد حجازى

  غالبا ما تكون الحقيقة والواقع أكثر وأشد غرابة من الوهم والخيال.

 فى عام 1977 أنتجت هوليوود فيلما سينيمائيا من أفلام الإثارة والتشويق و" الأكشن "t; الأكشن " بعنوان " تليفون " بطولة النجم العالمى  تشارلز برونسون والنجمة الحسناء " لى ريميك "، وسيناريو الفيلم مأخوذ عن رواية " تليفون " للكاتب الأمريكى والتر واجر .

وفى الفيلم الذى أخرجه " دون سيجل " يقوم تشارلز برونسون بدور جورجى بورزوف عميل جهاز المخابرات السوفيتية – الكى. جى. بى. الذى يسافر الى الولايات المتحدة الأمريكية فى مهمة سرية للعثور على عميل مخابرات أيضا سوفييتى، أصابه مس من الخبل والجنون وإنشق عن الكى . جى. بى.  وهرب الى الولايات المتحدة الأمريكية ، وفى حوزته النسخة الوحيدة من مفكرة بها أسماء وعناوين وأرقام تليفونات عملاء أمريكيين كانت المخابرات السوفيتية قد اختطفتهم وأجرت لهم عمليات " غسيل مخ" وقامت ببرمجة كل عميل – رجل كان أو إمرأة – بحيث أنه حين يتلقى العميل مكالمة تليفونية فى أى وقت، ويقوم العميل السوفييتى المنشق على الطرف الآخر بتلاوة جملة بطريقة معينة تقول :

  “ Miles To Go Before You Sleep “  - أى"  أميال تقطعها قبل أن تخلد للنوم "، يقوم العميل المبرمج بإغلاق سماعة التليفون  دون أن ينبس بكلمة واحدة ، وعلى الفور تستيقظ الشخصية الجديدة التى تم برمجتها فى داخله من قبل، ويترك كل شىء ويتجه الى جراج منزله ويحمل سيارته بعدد من الصناديق والحقائب المليئة بالمتفجرات ويندفع بالسيارة مسرعا فى اتجاه أقرب قاعدة عسكرية أمريكية ليفجر نفسه والسيارة فى مستودع الأسلحة والذخيرة وتدمير القاعدة العسكرية عن آخرها، واذا حدث واعترضه أحد الحراس على بوابة الدخول فهو أيضا مبرمج مسبقا على أن يقوم بإطلاق عدة أعيرة نارية على الحارس أو الحراس، المهم أن لا يسمح لأحد بأن يحول بينه وبين تنفيذ المهمة .

 ومهمة تشارلز برونسون فى الفيلم هى البحث عن العميل المنشق وتصفيته وقبل أن يتصل بكل أفراد شبكة العملاء المنتشرين فى أرجاء الولايات المتحدة الأمريكية ، وهو يدخل اليها متسللا عن طريق كندا إلا أن المخابرات الأمريكية كانت تقتفى أثره من خلال عميلة السى آى إيه – المخابرات المركزية الأمريكية - التى قامت بدورها النجمة " لى ريميك "  ظنا منها أنه فى مهمة تجسسية، غير أنه بعد أن نجح العميل المنشق فى الإتصال التليفونى ببعض العملاء الذين قاموا بتفجير أنفسهم فى بعض القواعد العسكرية الأمريكية لا يجد تشارلز برونسون مفرا من أن يطلع السى أى ايه على حقيقة المهمة الخطيرة المكلف بها، ويبدأ سباق محموم للعثور على العميل السوفييتى المجنون والمنشق والذى قام بدوره ببراعة واقتدار الممثل البريطانى الأصل " دونالد بليسانز " ، وأثناء المطارادات المثيرة فى ظل التعاون الذى لم يكن فى الحسبان بين العميل الروسى والمخابرات الأمريكية يقع برونسون فى حب عميلة السى أى ايه لى ريميك وبعد أن ينجح هو فى الوصول الى العميل المنشق وتصفيته قبل أن تصل اليه يد المخابرات الأمريكية يقرر أن يستقر فى الولايات المتحدة بعد أن يستقيل من عمله فى الكى جى بى ، وحتى يضمن لنفسه عدم ملاحقة المخابرات السوفيتية له وتجنب مضايقات المخابرات الأمريكية أو محاولة الضغط عليه وتجنيده للعمل لحسابها فإنه يقرر الإحتفاظ بمفكرة التليفونات لنفسه وإخفائها، وزيادة فى الحرص يقوم بحفظ البيانات وأرقام التليفونات المدونة فى المفكرة عن ظهر قلب فكتب بذلك لنفسه بوليصة تأمين يحمى بها حياته من ناحية، ويهدد بها جهازى المخابرات السوفييتة والأمريكية بمعاودة استخدام أرقام التليفونات مرة أخرى والإتصال بباقى أفراد الشبكة إذا ما تعرضت حياته للخطر.

عندما شاهدت فيلم " تليفون "  لأول مرة فى نهاية السبعينات من القرن الماضى استمتعت به كفيلم من أفلام الإثارة والتشويق والمغامرات، واعتبرته فيلما من أفلام الخيال والوهم، على الرغم من لجوء مؤلف الرواية " والتر واجر "  لإستخدام أسلوب عمليات " غسيل المخ " للعملاء كى يقتنع المشاهد بأسلوب السيطرة على العميل وحتى  يؤدى أعمالا إرهابية مفجرا نفسه من المستحيل أن يقوم بها لو كان فى كامل وعيه.

 لا أعرف لماذا تذكرت فيلم " تليفون " بعد مرور كل هذه السنين، .. لقد تذكرت هذا الفيلم  بعد حوادث التفجيرات الإرهابية فى لندن وشرم الشيخ، ومن قبل فى ميدانى عبد المنعم رياض والسيدة عائشة، وخان الخليلى وتفجيرات طابا والهجمات الإرهابية الإنتحارية على نيويورك وواشنطن فى الحادى عشر من سبتمبر 2001!!.

 إن ما كان وهما فى فيلم " تليفون " فى عام 1977 أصبح الآن  حقيقة  لا خيالا، بل إن الجرائم الإنتحارية الإرهابية فى السنوات الأخيرة فى مناطق مختلفة من العالم قد فاقت رعبا وفزعا مما ذهب إليه خيال المؤلف " والتر واجر " الذى قصرها فى روايته على أهداف عسكرية بحتة، وفى إطار الحرب الباردة بين القوتين العظميين، أما جرائم الإرهاب الأخيرة فهى تتم ضد أهداف مدنية وضحاياها بالعشرات والمئات من المدنيين الأبرياء من مختلف الديانات والجنسيات والقوميات والألوان.

 إذن نحن بصدد إرهاب أعمى لا وطن له ولا دين ولا ملة حتى لو حاول التستر وراء الدين، فكل الأديان السماوية براء من هذا الجنون الإرهابى الجماعى، ومن يقومون بهذه الأعمال الإرهابية هم أيضا ضحايا بعد أن أجريت لهم أيضا عمليات " غسيل مخ" فكرى لم تجريها أجهزة مخابرات الكى جى بى كما صورها لنا فيلم " تليفون " ... عمليات غسيل مخ من نوع آخر،  تجرى يوميا، ومنذ سنوات طويلة  لشباب متحمس غيور يعانى أهوال البطالة والفقر وخطر التشرد ، فى بيئات إجتماعية تسودها ومنذ قرون بعيدة ثقافات القهر والأستبداد والتسلط والخوف والكراهية، وفى ظل أنظمة حكم دكتاتورية عفنة وفاسدة هى أول من استغلت الدين أسوأ استغلال أولا لإكتساب شرعية الحكم بالباطل وثانيا لتحقيق أهداف ومآرب سياسية ما أنزل الله بها من سلطان ، فمن هو الجانى الحقيقى  ومن الضحية؟!!!

 عمليات " غسيل مخ "  تستخدم فيها وسائل إعلام معظمها متخلفة، وتسيطر عليها أنظمة حكم أكثر تخلفا، تجرى يوميا لشباب تملكه اليأس من تغيير الواقع الأليم المهين، بعد أن أراد له أهل الحل والعقد أن يعيش فى الماضى، فصادروا حاضره ومستقبله!!!.

لقد اختلط الحابل بالنابل فى قضية الإرهاب الدولى، وأصبح العالم كله على وشك الدخول فى نفق أطول وأكثر ظلاما من مترو أنفاق لندن أو مدريد، هذا إن لم يكن قد دخله بالفعل.!!

 لم تعد بيانات الشجب والإستنكار والإدانة تكفى للتصدى للإرهاب الذى يجرى فى العالم سواء من قبل أفراد أو جماعات أو حكومات، ولن ينتهى الإرهاب أو يتوقف طالما أن معظمنا يدينه بلسانه بينما يؤيده بقلبه.

لن ينتهى الإرهاب أو يتوقف الإ إذا اختفت النظم القمعية الإستبدادية التى كانت أول من أعانت الإجنبى على إحتلال أراض عربية، واختفت معها سياسات التخدير الإعلامى والتغييب العقلى للمواطن العربى أو المسلم، والذى أصبح عقله فى حاجة الى إعادة ترتيب كى يتمكن من ترتيب المجتمع العربى  أو المسلم على أسس جديدة ومتينة من الحريات الحقيقية والديمقراطيات السليمة،  وتطبيق سيادة القانون على الجميع، وعلى الحكام قبل المحكومين.

 من الجانى الحقيقى ومن الضحية؟!!

هل الجانى الحقيقى هو من فجر نفسه بقنبلة سواء فى فندق أو فى مترو أنفاق أو أحد الباصات ؟ أم هو الذى حرض، والذى أفتى  ونصب نفسه القاضى والجلاد، والذى وضع سياسة " غسيل المخ" والتضليل الإعلامى اليومى والتغييب العقلى؟!!!

لقد اتهم البعض الإسلام زورا وبهتانا بوصمة الإرهاب لأن البعض عن جهل وتعصب وضيق أفق يرتكب أعمالا إجرامية ووحشية ضد المدنيين الأبرياء بإسم الدين، بينما الدين الإسلامى وكل الأديان منها براء، غير أن هذا كله لا يجب أن يمنعنا من الإعتراف بأننا نمر بأزمة حقيقية قديمة ومزمنة فى معظم مجتمعاتنا العربية والإسلامية ... أزمة لا بد من معالجتها بحلول جذرية لا بالمسكنات أو الأسبرين.

 إنها أزمة الفكر الإسلامى فى مواجهة الإستبداد والدكتاتورية ... إستبداد السلطة السياسية ودكتاتورية طبقة المشايخ ورجال الدين الذي حددوا سقف الحوار وفق شروطهم فجمدوا عقول الأمة وأقعدوها عن التفكير والتنوير منذ قرون فأى حوار وأى جدال بعد أن وضعوا العربة أمام الحصان ؟!!.

لقد استغلت السلطة السياسية المستبدة الدين لتحقيق مآربها وأطماعها السياسية ومكاسبها الدنيوية ، وسمح الكثير من رجال الدين لأنفسهم أن يكونوا تابعين للسلطة السياسية والحكام ويبررون أفعال لهم وسياسات ما أنزل لله بها من سلطان!! .

لقد غاب العقل الإسلامى فى غيبوبة عميقة "  Deep Coma"  منذ أيام الفيلسوف الكبير إبن رشد وأصبحت السيادة وحتى الآن للسيف الأموى الباطش،  ولسلاح التكفير تشهره جماعات الجهل والتعصب والهوس الدينى فى وجه كل من يحاول الإجتهاد ويعارض أفكارهم ، وكأنهم وحدهم الذين يرتدون ثوب الفضيلة الأخلاقية لإضفاء صفة الكرامة والإحترام على شخوصهم ضد مخالفيهم فى الرأى، وبينما هم فى الواقع يحاولون إخفاء شعور عميق ومتأصل بالمهانة والدونية والعجز والضعف،  وهذا تكنيك قديم له سوابقه وشواهده فى التاريخين المسيحى واليهودى.

إن هذه الجماعات تتصرف وكأنها وحدها هى التى تحتكر الحقيقة، مع أن المفكر العربى الكبير أبو حيان التوحيدى يقول أن الحقيقة أكبر من أن يستوعبها شخص واحد.


الديكتاتورية والإستبداد يا سادة وجهان لعملة واحدة ، كلاهما سرطان ينخر فى عظام الأمة منذ قرون إلى أن وصلت الى ما عليه من ضعف وهوان وفرقة وإنقسام.

ان عالمنا الإسلامى اليوم فى مسيس الحاجة إلى علماء جادين لا يخشون فى الحق لومة لائم أو سطوة حاكم ، علماء مسلمين بحجم علماء التنوير فى الغرب المسيحى من أمثال إيمانيول كانت ورينيه ديكارت وفكره ومنطقه.


نريد رجال دين فى حجم وشجاعة رجال من أمثال الإمام أبى حنيفة والشيخ عز الدين بن عبد السلام والإمام محمد عبده .

شبابنا ضحية وسيظل ضحية إلى أن تحل الإشكالية... إشكالية وضع العربة أمام الحصان.

أما إذا آثرنا أن ندفن رؤؤسنا فى الرمال – كعادتنا – فإن الإرهاب سوف يرتع ويستشرى كالسرطان فى سيناء وغيرها، وسيضحك علينا موج البحرين، وكما يقول المثل:

  " الجايات أكثر من الرايحات".

--------

كاتب وصحفى مصرى – كندى

Mossad_Hegazy@hotmail.com

 

 

 

اجمالي القراءات 18556