ابن شهاب الزهري في الميزان

سامح عسكر في الأحد ٢٢ - يونيو - ٢٠١٤ ١٢:٠٠ صباحاً

ابن شهاب الزهري لمن لا يعلمه هو من أكبر وأعظم علماء السنة، وهو من الرواة والمدونين الأوائل للأحاديث، ولد عام 58 هـ وتوفي عام 124 هـ ، هو من مؤسسي مذهب السنة الحالي، فقه وحديث وتاريخ وسيرة..له في صحيح البخاري فقط أكثر من 650 حديث ، وله في صحيح مسلم فقط أكثر من 500 حديث ،له منزلة عجيبة عند علماء الحديث..لدرجة انهم كانوا يتطرفون في مدحه وتقديسه حتى اعتبروه في منزلة الصحابة لا يجوز التشكيك فيه أو في أمانته.

كتب بعض المستشرقين فيه يذمونه باعتباره أحد كهنة وشيوخ السلطان الأموي، وكان مرافقاً للحجاج بن يوسف الثقفي (ت 95 هـ) ، لذلك كثرت فيه المطاعن وفي أمانته وانحيازه السياسي للسلطة الأموية، لذلك من الطبيعي أن تكرهه طائفة الشيعة الموالية لآل البيت ويُعظمه الناصبة الناقمين على آل البيت، رغم أن الشيعة يعترفون أنه كان محباً للإمام زين العابدين علي بن الحسين، ومع ذلك كان مبغضاً للإمام عليّ بن أبي طالب، وهو موقف يبدو أنه متناقض..لكن لم أجد ما يفسره إلى الآن بطريقة موضوعية مقنعة سوى أن ابن شهاب كان أموياً يسكن في الشام..ومن الطبيعي أن يكره الإمام علي ابن أبي طالب بل ويطعن فيه ويسبه على الملأ ..هذا ليس غريباً على من عاش في الشام خصوصاً في القرنين الأول والثاني.

بالعموم هذا لا يهمني..ذلك موقفه السياسي وهو حر فيه، ولكن سأتوجه لمناقشته بعرض أفكاره ومحاولة تقريبها وتوضيحها لمن جهل ذلك الراوي، مايهمني كلامه وأفكاره وليست خلافاته وتحالفاته السياسية..وعلى ذلك سنتوجه حسب ما رُوي عنه في الصحيحين البخاري ومسلم..وسنرى أن أغلب روايات الجهاد في سبيل الله والحض عليه كانت من طريق ابن شهاب، إما نسباً وإما قولاً حسب منهج المحدثين..

سنعرض الأحاديث الآن ونرد عليها بالمنهجين القرآني والعقلي:

قال مسلم في صحيحه:

-"حدثنا منصور بن أبي مزاحم، حدثنا إبراهيم بن سعد ، وحدثني محمد بن جعفر بن زياد، أخبرنا إبراهيم، يعني ابن سعد، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل؟ قال: «إيمان بالله»، قال: ثم ماذا؟ قال: «الجهاد في سبيل الله» قال: ثم ماذا؟ قال: «حج مبرور»، وفي رواية محمد بن جعفر قال: «إيمان بالله ورسوله» وحدثنيه محمد بن رافع، وعبد بن حميد، عن عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهري بهذا الإسناد مثله"..(صحيح مسلم 1/88)

الحديث عن ابن شهاب سنداً وتعليقا..ولكنه يبقى في حُكم المعنعن المنقطع عند المحدثين إذا لم يصل بطريق آخر أو يثبت لقاء ابن شهاب بالراوي ، لكن طبعاً تم اعتماد الحديث لان ابن شهاب ثقة عند فقهاء السنة، وهذا شرط لقبول المنقطع في علم الحديث، لذلك فالرواية حكمها صحيحة نزولاً لمرتبة ابن شهاب كراوي..

أما ترجمة ما نقله ابن شهاب ما يلي:

أولاً: أفضل الأعمال الإيمان ثم الجهاد ثم الحج ، لكن هذا تخصيص للعمل الصالح العام وحصره في الجهاد..وهذا مخالف للشريعة في القرآن.قال تعالى.."وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار"..(البقرة 25)...وقال أيضاً.."وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لم مغفرةُ وأجرُ كريم"..(المائدة 9)..

وهذا يعني أن معايير فضائل الأعمال في القرآن مختلفة عن ما هي في حديث ابن شهاب ،القرآن قال بوضوح.."الإيمان والعمل الصالح "..لكن حديث ابن شهاب قال.."الإيمان والجهاد والحج"..وتعريف العمل الصالح هو ما صلح من العمل أن ينفع الإنسان في دينه ودنياه، ومعنى ذلك أن رجلاً لو تحقق فيه شرط العمل الصالح سُمّي صالحاَ، وهو ما نجده في صفة والد غلاميّ سوة الكهف..قال تعالى.."وكان أبوهما صالحا"..(الكهف 82)..ولا يزعم أحد أن أبوهما صالحا أي مجاهدا..لأن الجهاد في فقه ابن شهاب هو القتال والحرب وليس العمل.

ثانيا: أن الحديث يدعو إلى التدين القشري بدلالة أن أفضل الأعمال في الحديث خلت من الأعمال الصالحة والمنتِجة كحُسن الخلق وبر الوالدين والإنفاق في سبيل الله والإخلاص وطلب العلم والاجتهاد في العمل....إلخ، فلو قيل أن المفاضلة ليست على الإطلاق قلنا وكيف يُصاغ بها في الحديث هكذا.."أفضل الأعمال"..وتعريف الأعمال يعني أنها مفهومة ومعروفة للقائل جميعها، والمفاضلة جاءت بطريق الانتقاء والفرز ومن ثم الاختيار.

ثالثاً: هناك ما ينقض هذا الحديث ويكشف تعارضه مع حديث آخر رواه البخاري حيث قال.." حدثني سليمان، حدثنا شعبة، عن الوليد، ح وحدثني عباد بن يعقوب الأسدي، أخبرنا عباد بن العوام، عن الشيباني، عن الوليد بن العيزار، عن أبي عمرو الشيباني، عن ابن مسعود رضي الله عنه: أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل؟ قال: «الصلاة لوقتها، وبر الوالدين، ثم الجهاد في سبيل الله»...(صحيح البخاري 9/156)

والمعنى أن حديث ابن شهاب قال أن أفضل الأعمال هي..(الإيمان والجهاد والحج)..بينما الحديث الثاني في البخاري قال أن أفضل الأعمال هي..( الصلاة وبر الوالدين والجهاد)...والسؤال هنا..أي الأعمال أفضل بالضبط ؟!...وهل لو قدر الله أن يعيش ابن شهاب أو البخاري أو مسلم أكثر مما قدره الله لهم..هل سنرى حينها أعمالاً أفضل منسوبة قولاً للنبي؟!

لا خلاف أن هذه الأفعال حسنة..ولكن إدخالها ضمن هامش.."أفضل الأعمال"..هو ما يُغري الضعفاء والأغبياء..خاصةً أنها خالية من شرط الصلاح وهو.."العمل الصالح"..والذي كان مشروطاً في القرآن بالإيمان ، لكن الغريب أن يكون أفضل الأعمال في كِلا الحديثين جمعاً هو.."الجهاد"..لذلك لا أستبعد أن تكون قامة الجهاد في الفقه السني بهذه المنزلة الرفيعة هي نزولاً لأصل تلك الأحاديث، وكيف أن الرواة حاولوا شرح وتفسير القرآن بمناظيرهم فنسبوا أقوالاً للنبي لم يقلها، وإذا قالها فهي متعارضة مع نفسها أو هي مخالفة للقرآن ومقررات العقل السليم.

اجمالي القراءات 19938