إن الإسلام وما يستقيه العقل من القرآن والسنة يقضيان بأنه لا مكانة ولا شرف لحسبٍ أو نَسَب، وأن علوم الأنساب يُقصد منها المودة في القُربى وتنظيم النسل أن لا يقع المسلم في ما حرمه الله، عدا ذلك فإن أكرم الناس عند الله هو أتقاهم، ومفهوم التقوى -على الاختلاف في تأويله- إلا أن الجميع أيقن أن التقوى هي مجموع الإيمان والعمل الصالح، حيث لا إيمان دون عمل ولا عمل دون إيمان، وتفرد أحدهما عن الآخر يُخرِجهُ من مفهوم التقوى.
ابن حجر العسقلاني -وبوصفه الشارح الأكبر للبخاري- وقف على معالم تبويب البخاري لكتابه قائلاً.." فبدأ بمقدماتها من ذكر ما يتعلق بالنسب الشريف فذكر أشياء تتعلق بالأنساب ومن ثم ذكر أمورا تتعلق بالقبائل ثم النهي عن دعوى الجاهلية لأن معظم فخرهم كان بالأنساب"..(فتح الباري 6/526)..والمعنى أن تبويب البخاري لكتابه راعى ذكر النسب الشريف-نسب الرسول-ثم الحديث عن القبائل ثم ختم ذلك بالنهي عن دعوى الجاهلية.
ولكن هذه المنظومة التي ساقها ابن حجر هي غير متسقة في الظاهر، حيث عالج نَظماَ واحداَ بعدة مفاهيم مختلفة بل متعارضة في سياق التوكيد، والمعنى أن علوم الأنساب والنهي عن دعوى الجاهلية هما بابان متعارضان لا يصح جمعهما في نظمٍ واحد بأنهما يتوافقان، ولأن الحديث في الأنساب يُخرج من كون النسب غير هام إلى كونه هاماً يُحدد أطُراً دينية وأفضلية بمجرد الانتساب، وهذا ما سنراه من أقوال ابن حجر نفسه، حيث ناقض كلامه السابق بعباراتٍ لا حقة كشفت أزمته في تسويق البخاري أنها كانت عن تبرير محض.. وليست عن أمانة علمية تقتضي الموضوعية.
يقول ابن حجر.." ذكر بن حزم في مقدمة كتاب النسب له فصلا في الرد على من زعم أن علم النسب علم لا ينفع وجهل لا يضر، بأن في علم النسب ما هو فرض على كل أحد وما هو فرض على الكفاية، وما هو مستحب قال فمن ذلك أن يعلم أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم هو بن عبد الله الهاشمي فمن زعم أنه لم يكن هاشميا فهو كافر"..(المصدر السابق)
الترجمة: يعرض كلام ابن حزم في سياق الموافقة والتأكيد على أن علوم الأنساب تنفع وتضر، وختمها بإطلاق الكفر على من أنكر ذلك في حق النبي..!
والسؤال هل الأنساب لها علاقة بتقوى الله ؟..فإذا لم يكن فلماذا وصف منكر هاشمية النبي بأنه كافر؟..فلو كان مقصوده هو معرفة ما أحله الله للنبي فهذا ينطبق على أقربائه من الدرجة الأولى، أي إخوته وأعمامه وأخواله المُحرمين عليه بالنسب، ولأن ذلك في زمان النبي لمعرفة سلوكه وتحريه لتقوى الله ليس لمن جاء بعده، أي العلم بنسب النبي بعد وفاته يجب أن يكون في مساره الطبيعي..وهو من باب العلم، ولكن تأويل ابن حجر وتأكيده على ما قاله ابن حزم يكشف أن القصد لم يكن معرفة نسب النبي فحسب بل الافتخار به وجعله رئيساً ومهيمناً على القبائل.
والدليل على ذلك وجهان، الأول أن حديثه السابق جاء في شرح قول ابن عباس في صحيح البخاري قائلاً.." عن ابن عباس رضي الله عنهما، {وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا}، قال: " الشعوب: القبائل العظام، والقبائل: البطون " انتهى..والمعنى أن تأويل ابن عباس لآية سورة الحجرات.. يعني أن الله جعل الانتساب للقبائل العظيمة-كقريش-هو ميزة خصها الله لمحمد وآله وأمته، فضمير المُخاطَب عند ابن عباس خص به العام بفجاجة، وجعل أن المقصود من الشعوب هم القبائل الكبيرة ذوي السمعة والمكانة..!
الثاني أن ابن حجر قال بوضوح- بعد تأكيده لهاشمية النبي وإن إنكار ذلك كفر- زاد على ذلك وقال.." وأن يعلم أن الخليفة من قريش"..(المصدر السابق).والمعنى أنه طبقاً لأفضلية قريش وسيادتها على باقي القبائل-بعد تأويل ابن عباس-يكون الانتساب لقريش فخر وأن السيادة يجب أن تكون لها على حساب بقية القبائل، وربما ما فعله ابن حجر يتسق مع تبريره لما ذكره البخاري بسيادة قريش ومكانتها من الناحية الدينية عن معاوية بن أبي سفيان قائلا.."سمعت رسول الله يقول أن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد، إلا كبه الله على وجهه، ما أقاموا الدين"..(صحيح البخاري 4/179).
وهذا يعني أن ابن حجر أراد علاج ذلك التناقض بطرحه في سياق التأكيد والتعمية، بأن الفخر بالأنساب من شيم الجاهلية ومع ذلك فالسيادة لقريش كونها أعظم القبائل...ولا أعلم كيف..!
هكذا استطاع ابن حجر خداع تلاميذه ومن جاء بعده، وأوهمهم بأن ما جاء في البخاري يتسق مع كتاب الله، وأن منبع الوصاية في ذلك أنه جعل الانتساب للبيت النبوي ولبطون قريش هو فخرُ ديني قبل أن يكون فخراً دنيويا، فلا غرابة بعد ذلك أن نرى ما يسمون أنفسهم.."الأشراف"..وهم يتباهون بالانتساب لآل بيت النبي ولقريش كونهم أعظم الشعوب والقبائل-حسب تأويل ابن عباس، فلا معنى بعد ذلك لقوله أبدعوى الجاهلية وأنا بين ظهرانيكم؟!!!!!
أعلم جيداً أن هذا الكلام سيُغضب فرقتي.."الشيعة والصوفية"..الذين هم أكثر من استفادوا بكلام ابن حجر، وسيُغضب كذلك أهل الحديث الذين أيقنوا بأن خلافة قريش واجبة، ولكنها تساؤلات..ما دام الانتساب للقبائل ليس شرفاً دينياً فلماذا جعلتموه كذلك؟.. ولو لم يكن فهو شرفُ اجتماعي لأصول تلك القبائل أو تاريخها النضالي أو الثقافي، وهذا ما لسنا بصدده بل لم يخطر على بال ابن حجر أصلاً ، حيث يتكلم ابن حجر بمنطقٍ دينيٍ بحت وليس بمنطق اجتماعي أو تاريخي.
وعليه كانت المسئولية أكبر، فلم يزعم ابن حجر كونه مفكراً اجتماعياً أو باحثاً في علوم الأنساب،بل هو في الأخير قدم نفسه على أنه رجل دين وفقيه ومؤرخ وشارح بل هو أكبر شراح البخاري، وعلى تلك المنزلة يظل الإبهام في طُرق ابن حجر التبريرية موجوداً، وأن تدخله في شئون المسلمين والوصاية عليهم بتلك الطريقة لم يُفرز سوى التخلف والجهل والوصاية ومن ذلك الإرهاب.