ثانيا: التحدي الخارجي..
ناقشنا في الجزء الأول التحديات الداخلية التي ستواجه الرئيس المصري المنتخب.."عبدالفتاح السيسي"..وكشفنا عمق الأزمة الداخلية في مصر على تنوعها، وأن مهمة الرئيس المنتخب تكاد تكون صعبة بل هي من أصعب المهمات التي يمكن أن يواجهها رئيس، قديما وبعد وفاة عبدالناصر كانت هناك تحديات أمام السادات، ولكن جميعها كانت تصب في إطار وحدة الشعب، وأن الجبهة الداخلية عند السادات لم تكن أهم من الخارجية في ظل احتلال إسرائيل جزء من الأراضي المصرية، أما السيسي فمن وجهة نظري أن التحديات الداخلية لديه أقوى وأصعب من الخارجية، وقد استعرضناها في الجزء الأول، ومع ذلك فالتحديات الخارجية على درجة كبيرة من الأهمية، وهي في تقديري مرتبطة بقوة الجبهة الداخلية.
هي تحديات كبيرة لوضع مصر في إطارها الجغرافي والتاريخي والثقافي الصحيح، ومن ثم تستعيد مصر دورها السياسي المسلوب، مصر هي أول دولة عربية وإفريقية تعقد برلماناً لسؤال الحكومة، وهي أول من أنشأت مؤسسات صحفية ودوراً للكُتب تنشر المعلومة وتُعلي من شأن الثقافة والمطالعة، وهي أول من أنشأت منظومة تعليم حديثة في عهد علي مبارك باشا، وهي أول من استعانت بالمطابع في الحركة الفكرية، وقد انتعشت في مصر حركة الترجمة قبل أن يعرف العرب والأفارقة جميعاً معنى القراءة، ليس حطاً من شأن الآخرين ولكنه تذكير بدور مصر في خدمة اللغة والثقافة العربية... ونقلها من حال البداوة والبدائية إلى حال التمدن والعلم.
مع هذا الدور الذي تتمتع به مصر يجب أن يكون الرئيس المنتخب على قدر المسئولية، يجب أن يستعيد دور مصر من جديد، وإضافة للتحديات الداخلية السابقة سنطرح بعضاً من التحديات الخارجية الأهم في هذه المرحلة، ونطالب من يقرأ هذا المنشور في مناقشة هذه الرؤية على قدر واسع.
1-العلاقات العربية العربية..لا شك أنه باجتماع العرب على لغة واحدة ودينٍ واحد وثقافة واحدة أصبح لزاماً على السيسي أن لا يتجاهل هذه القاعدة، وأن يكون آدائه السياسي يصب في خدمتها ، يجب تصفية الأجواء والخلافات، وأن يُدرك أن الظروف التي تمر بها المنطقة العربية خلقت أحزاباً وتكتلات سياسية ودينية شقت الصف العربي وحملتهم على اتهام بعضهم بالخيانة، وهو اتهام خطير قد يضع العرب في مشهد العداء لا مشهد الأخوة والتآزر والتكامل، نعم هناك تدخلات أجنبية سواء كانت من شعوب إسلامية كإيران أو من شعوب علمانية كالغرب، ولكن لا أحمل هذه التدخلات محمل المؤامرة كونها تصب بالنهاية في خانة المصالح، وأنه بالتفسير السليم يمكن تدارك هذه التدخلات بعنصر القوة الداخلية، مع رفض أنواع التدخل التي تمس الأمن القومي.
2- الأزمة السورية وهي في تقديري فرع عن التحدي الأول، سوريا أصبحت موطناً ليس فقط للإرهاب والجريمة.. ولكن سبباً في شق الصف العربي وربط الأحداث ببعضها للخروج بنتيجة واحدة.. وهي خيانة بعض الدول العربية وتآمرها على أخرى، ومن يسمع خطاب رئيس الحكومة العراقي.."جواد المالكي"..في حق السعودية سيرى بوضوح عمق الأزمة العربية التي تجلت في ألفاظ حادة وخطاب عدائي، أمام ذلك يجب على السيسي أن يعالج الأزمة السورية بالقاعدة الأولى وهي .."وحدة الصف العربي"..وما ينتج عنها من قواعد منها .."وحدة الأراضي السورية- ورفض الإرهاب-ودعم الحوار"..هذه قواعد تكفي لمعالجة قضية سوريا بشئٍ من الحكمة، وأظن أن السيسي قادر على الحل في سوريا شريطة أن يدعم مطالب التغيير للشعب السوري والمتوقفة على الإرادة السورية لا غير.
وهذا يعني أن السيسي يجب أن يرفض التدخل الأجنبي في سوريا، ويُعطي للشعب السوري حق التغيير وحق نزع الشرعية، لا أمريكا ولا روسيا لهم حق في نزع الشرعية عن أحد أو توصيف أحد إلا بمباركة الشعب السوري وحده، سيقول قائل أن هذا يعني دعم السيسي لانتخابات الرئاسة السورية أقول أن الدعم واجب طالما يعبر عن إرادة الشعب..ولكن يجب معه دعم الحوار أو افتراض الحد الأدنى من ضمان نزاهة الانتخاب أو أنه يعبر عن حقيقة تطلعات الشعب السوري في حل أزمته.
3- التحدي الثالث هو العلاقة مع تركيا وقطر، واختيار هاتين الدولتين كونهما الداعم الأبرز لجماعة الإخوان، وكونهما محط أنظار الإرهابيين الآن والمأوى الوحيد لهم بعد طردهم من معظم الدول العربية والأجنبية، وهو تحدي هام يجب فيه مراعاة علاقة تركيا بالاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، وعلاقة قطر بمجلس التعاون، وهذا يعني في المحصلة فتح باب الحوار مع التهديد بقطع العلاقات نهائيا في حال استمرت الدولتان في دعم الإرهاب والجريمة، وقد رأى السيسي والمصريون من قبل أن الدولتين ساهموا بشكل كبير في استفحال الأزمة السورية ووصولها إلى طريق مسدود، بيد أن الأتراك والقطريين راهنوا من قبل على سقوط الأسد وقد فشل رهانهم، فنقلوا رهانهم الجديد على سقوط السيسي والجيش المصري وقد فشل أيضاً هذا الخيار.
يعني أن المواجهة مع تركيا وقطر-إن جاز التعبير-هي مواجهة مكشوفة يسهل التعامل معها وإعداد التقارير المختلفة، وفي تقديري أن فريق السيسي من المستشارين سيكونوا من عباقرة السياسية المصرية المتميزة منذ فجر التاريخ، أتمنى أن يُحسنوا التعامل مع الملفين القطري والتركي وأن نستعيد ثقة المصريين بأنفسهم بأنهم ملوك السياسة في الشرق الأوسط.
4-العلاقة مع إيران وهي مكملة للعلاقات العربية العربية، لقد أبدى السيسي موقفه أن العلاقة مع إيران متوقفة على علاقتها من دول الخليج، وهذا ليس موقفاً جديداً بل يكاد يكون هو الموقف الرسمي طيلة الحقبة المباركية، تغير نسبياً بعد مجئ مرسي إلى الحُكم وشاهدنا الرئيس الإيراني .."أحمدي نجاد"..في القاهرة مرتين، ورأينا مرسي معه في مؤتمر عدم الانحياز في طهران، وهذا يعني أن موقف السيسي جاء استدراكاً لموقف الإخوان القريب من الموقف الإيراني، مع العلم أن إيران دعمت مرسي أمام كافة المرشحين في الانتخابات الرئاسيةعام 2012، وقد كنت شاهداً على تغطية قناة العالَم الإخبارية الإيرانية التي كانت تتعامل مع مرسي كأنه مرشحاً إيرانياً أمام العلمانيين ودولة مبارك..
وهنا نقطه فاصلة يجب الانتباه إليها..
إن دعم إيران للإخوان في الانتخابات ثم للرئيس المعزول مرسي جاء من خلفية أيدلوجية وليست دينية، بمعنى أن التوجه القومي الديني الإيراني هو موقف أيدلوجي يتفق تماماً مع الموقف الإخواني ، وهو سر التقارب الإخواني مع إيران نظرياً، أما عملياً فهذا شئ آخر، إيران على المذهب الشيعي الإمامي، بينما الإخوان على المذهب السني الوهّابي السلفي، وهما مذهبان متضادان كلياً، بل بينهم عداء تاريخي وفكري عظيم منذ أحداث الفتنة الكبرى، وهذا يعني أن التحالف الإيراني الإخواني كان نظرياً في المجمل وليس عملياً، والدليل أن زيارة نجاد للقاهرة وزيارة مرسي لطهران لم تثمر عن أي تعاون بل شاهدنا بعدها أحداث الاستاد الشهيرة وتحريض مرسي وشيوخ السلفية ضد الشيعة.
وهذا يعني أن دعم إيران للإخوان كان عن حماقة وقلة وعي، لأنهم نظرياً يدعمون حلفائهم أما عملياً فهم يدعمون أعدائهم، الإخوان في الحقيقة هم أشد أعداء إيران على الأرض وهم الذين قادوا الفتنة الطائفية في العراق وسوريا ولبنان، وما كان تقاربهم في الماضي.. إلا عن أفكار قديمة حملها بعض المتعاطفون من الإخوان مع الثورة الإيرانية من أمثال محمد الغزالي وعمر التلمساني وأبي الأعلى المودودي واسماعيل الشطي ومصطفى السباعي..وغيرهم، حتى يوسف القرضاوي نفسه كان متعاطفاً مع ثورة إيران ولم ينقلب عليها إلا بعدما قررت قطر أن تتخلى عن إيران وتنسحب من محور ما يُسمى.."بالمقاومة".
في النهاية نحن أمام مشهد دراماتيكي غامض لا يفهمه سوى من بحث في معادلات المذاهب والأيدلوجيات في القرن العشرين، والسيسي مطالب بفهم هذه العلاقة التي في تقديري أن أفضل من يفهمها حول السيسي هو الأستاذ.."محمد حسنين هيكل"..وهو من فريق السيسي الاستشاري والمعلن عنه قبل الحملة الانتخابية.
النتيجة أن السيسي يجب أن ينظم علاقته مع إيران كما أعلن من قبل أنه مع أمن الخليج ،كونه سداً منيعاً يقف أمام أحلام الثورة الإيرانية التوسعية، هذا أولاً..أما ثانيا يجب أن يدعم الحوار مع المذاهب الإسلامية وأن تكون مصر قاعدة انطلاق حضاري للتنوير والتثقيف الديني، وهذا لن يأتي سوى بسياسة متوازنة مع إيران تُكسب المصريين ثقة الإيرانيين والمتعاطفين معهم سواء من الشيعة أو من السنة، هذة هي الرؤية الوحيدة التي يمكن أن تعالج الفتنة المذهبية التي تهدد دول الخليج والشام، يجب أن لا نخسر إيران وفي نفس الوقت يجب أن يكون أمن الخليج لدينا في المقام الأول.
5-التحدي الخامس هو العلاقة مع قطبي العالم الآن.."روسيا وأمريكا"..يجب أن تكون العلاقة متوازنة لانخسر أياً منهم، مع التأكيد على حق الدول في الحرب على الإرهاب وأن يكون التغيير نابعاً من الإرادة الوطنية وأن تكون مصالح مصر فوق كل اعتبار، هذا مبدئياً لأن علاقة الدولتين بعضهما الآن يشوبها عدم الاستقرار من جراء الأزمتين في سوريا وأوكرانيا، فهم يحاربون بعضهم بالوكالة كما كانت الحرب الباردة، وهذا يعني وجود خيار آخر لا ينحاز لأيٍ من الطرفين، وأظن أن قوة السيسي الداخلية تمكنه من إدارة هذا الملف بمهارة.
6- ملف مياة النيل وسد النهضة..هذا تحدي استراتيجي وقد أعلن السيسي عن احترامه من قبل لرغبة أثيوبيا في التنمية لكن ليس على حساب حقوق مصر في مياة النيل، صراحة وبوضوح شديد..أرى أن أزمة السد ليست لها حلول غير مباشرة ، وهذا يعني عبثية التفاوض الآن وقد أثبتت الأيام صدق هذا الحدس، فأثيوبيا مصممة على البناء بما يعني إهدار أكثر من ربع حصة مصر في مياة النيل أثناء فترة ملء الخزان، وهذا التصميم واضح من خلاله أن أديس أبابا تريد فرض الأمر الواقع على مصر، ومعه ستكون النتائج كارثية سواء في بوار ملايين الأفدنة الزراعية المصرية أو في طبيعة السد نفسه الذي يمكن بانهياره أن يهدد أمن وسلامة مصر برمتها.
يجب أن تكون الحلول مباشرة ووقف هذا التفاوض العبثي مع أثيوبيا، إما وقف بناء السد وإما اتخاذ قرارات تعبر عن إرادة الشعب المصري في حفظ أمنه ، سواء برفع قضية سد النهضة إلى مجلس الأمن وتدويل القضية للضغط على أثيوبيا ،وإما اتخاذ قرار صريح بالحرب في حال الاستمرار في بناء السد، لا توجد حلول أخرى وأي حلول أخرى تعني كسب أثيوبيا مزيداً من الوقت وفرض الأمر الواقع على مصر، بصراحة السيسي هو رجل المرحلة الذي يمكن من خلاله معالجة هذا التحدي بحكمة ودون المساس بأمن مصر القومي، وأظن أن خلفيته العسكرية قادرة على إدارة الأزمة بنفس صرامته وحكمته السابقة مع الإرهاب.
أخيراً فالسيسي هو رئيس مصري منتخب جاء بعد ثورة شعبية على نسيج من المجتمع المصري يخلط بين الدين والدولة، وهذا يلقي على كاهله أعباءً كثيرة أهمها هو علاج ما كان سبباً في تلك الثورة وهو ."الخلط بين الدين والدولة"..بما يعني ضرورة تثقيف الشعب المصري والاهتمام أكثر بمنظومة التعليم والثقافة والطبع والترجمة، كذلك في إعطاء مساحة أكثر وحرية أكبر لناقدي التراث الديني، يجب أن يظهروا في الإعلام المصري ويتكلموا بوضوح وبطريقة مباشرة عبر مناقشات فكرية واسعة تكشف الجانب المبهم في هذا التراث، وأظن أن هذا الخيار سيكون هو أفضل خيار للحرب على الإرهاب..بل يكاد يكون هو الأقوى على الإطلاق، وسبق أن قلت على صفحتي الخاصة في الفيس بوك منذ شهور، أن جيوش العالم كله لن تستطيع أن تحارب الإرهاب أكثر من دراسة نقدية واحدة للتراث الذي يعتمد عليه الإرهابيين.
يعني أن الحرب على الإرهاب يجب أن تكون فكرية تحفظ أمن وسلامة المجتمع وقوة الجيوش، وتزرع بذور التنوير وتمس مصادر التغذية لهذا الفكر المنحرف وتقضي عليه تماماً..بما يعني في النهاية عدم ظهور ذلك الإرهاب مستقبلاً.
يجب على السيسي أن يدعم النظر في التراث الديني أولاً وأخيرا، لا تكفي حوارات الدين والسياسة فهذه فروع عن الأصل، ولا يمكن فهم العلاقة بين الدين والدولة وطرحها للجماهير سوى بدراسات نقدية أصيلة للتراث تكشف لهذه الجماهير حقيقة بشرية الرسول والسلف..ونشر العلوم الفلسفية والمنطقية لدعم سلامة التفكير، بدون هذا لن يفهم هؤلاء ما كان عليه الرسول عليه السلام وسيعجزون عن قراءة القرآن والتاريخ، وسيؤولونهم كما أولهم ابن تيمية وابن عبدالوهاب وسيد قطب، ومعهم سيرفعون سيف التكفير والقتل ضد المخالفين، يجب وضع حد لهذا التجاوز في حق الدين..وأظن أن السيسي لديه رؤية دينية جيدة تسمح له بدعم هذا التوجه النقدي لمظاهر التدين الزائف والمغشوش الذي حرصت على نشره كافة جماعات العنف....