قبيلة من اليهود في بلاد العرب7
الجزء السابع
ويتابع جون فيلبي سرد الذكريات...
ويتابع جون فيلبي سرد الذكريات قائلاً: (وبعد شهرين من وصولي إلى الأردن قمت بجولة في أنحاء فلسطين وكانت الثورة الفلسطينية في بدايتها ويعيش الانكليز في قلق منها، فحاول بعضهم توسيط الأمير عبدالله لدى الثوار الفلسطينين بإيقاف الثورة، فحبذت الفكرة لعلمي أن عبدالله سيفشل في وساطته لعدم نفوذ الأمير عبدالله بين الفلسطينين، وبالتالي سيكون الجو مهيئاً لصديقنا العزيز عبدالعزيز فتنجح وساطته فترتفع أسهمه لدى الانكليز أكثر فأكثر، وهذا ما تمّ فعلاً، وما اقترحته بعد فشل عبدالله في الوساطة، إذ اقترحت توسيط عبدالعزيز آل سعود، وهكذا نجح عبدالعزيز بما فشل فيه عبدالله عام (1936م)، بل إنه بمجرد أن عرض عبدالعزيز آل سعود وساطته لدى وجهاء فلسطين قبلوا وساطته بإيقاف الثورة ضد الإنكليز، واثقين مما تعهد لهم عبدالعزيز به وأقسم لهم عليه قائلاً: «إن أصدقاءنا الانكليز تعهدوا لي على حل قضية فلسطين لصالح الفلسطينيين، وإنني أتحمّل مسؤولية هذا العهد والوعد» وقد نقل لهم هذه الرسالة إبنه فيصل ثم أحلق به ابنه الثاني سعود.. وكان النجاح وساطة عبدالعزيز آل سعود صداها القوي لدى الإنكليز واليهود، وكانت المنعطف الأكبر في تاريخ فلسطين، وعزّز ذلك النجاح الباهر كافة آرائي بعبد العزيز أمام رؤسائي بل وحتى أمام خصومي في «المكتب العربي بالقاهرة» الذين ما زال بعضهم يؤيد الهاشميين ويعتبرهم أصلح لنا من آل سعود..
وأثناء رحلتي تلك الى فلسطين عرجت إلى تل أبيب وقابلني الزعيم اليهودي ديفيد بن غوريون وكان فرحاً لنجاح الوساطة السعودية التي أوقفت الثورة الفلسطينية، إلاّ أنه أبدى قلقه من سبب ابتعادي عن عبدالعزيز آل سعود وقال: إن وجودك «يا حاج عبدالله» مهم بالقرب من عبدالعزيز هذه الأيام، فقلت لابن غوريون: «إننا لم نعد نخشى على عبدالعزيز آل سعود، فلديه من الحصانة ما يكفي لتطعيمي وتطعيمك!.. كما قد حصنّاه سابقاً بعدد من المستشارين العرب، بالإضافة إلى أن هناك من يقوم الآن بدوري لديه، مع أنني لم أبتعدهذه الايام عنه لغير صالحه في ترويض خصومه في شرق الأردن».
هنالك ظهرت على وجه بن غوريون علامة الارتياح، وتشعّب الحديث مع بن غوريون في أمور هامة تتعلق في الشؤون العربية ومستقبل اليهود، وأخبرت بن غوريون أن أمير شرق الأردن عبدالله بن الحسين كان في منتهى الشراسة بعد أن أخرجناه من الحجاز، وكان يكنّ الحقد حيناً ويظهره أحياناً لبريطانيا على فعلتها بتسليم عرشه لعبدالعزيز آل سعود، ومن أجل ذلك أخذ يتبنّى العديد من الرجال المعارضين لعبدالعزيز والمعارضين للفرنسيين والانكليز واليهود على حدّ سواء، وهو ما زال يكره ابن السعود ويجعل من الأردن مكان تجمّع لخصوم ابن السعود معدّاً إياهم للعودة بهم في حرب خاطفة يعيد بها ما فقدوه في الحجاز وحائل ونجد وعسير، فقال بن غوريون: «نحن ندرك هذا تماماً ونقدّر جهودك، والذين اختاروك لاشكّ يدركون ما لديك من مقدرة فائقة على ترويض الأمراء العرب». قلت لابن غوريون: «قبل أيام أخرجت جيش الإخوان المسلمين السعوديين لتأديب الامير عبدالله فهددوا كيانه، فاستنجد بي لإنقاذه منهم مبدياً الكثير من التودد والطاعة لبريطانيا، وبذلك أوعزنا لعبدالعزيز آل سعود بإيقاف جيش الاخوان عند حدّهم قبل أن يدخلوا الأردن وينزلوا فيها الدمار.. الا أن عبدالعزيز لاقى صعوبة في صد هذا الجند البدوي الشرس صعب الترويض والمراس فاضطررت الى اعطاء الامر للطائرات الحربية البريطانية المرابطة في الاردن لتأديبهم، ولو لم توقع الطائرات بهم بعض الخسائر لما تراجعوا وما سمعوا كلمة شيخهم عبدالعزيز آل سعود!..
لكنه رغم ما أصاب عبدالله من هلع كان مازال شرس الطباع ضد بريطانيا، ممّا جعلني أوحي إلى قبيلة ابن عدوان في الأردن بالخروج لضرب عبدالله وتطويق قصر الشونة لإرهابه كنوع من أنواع الترويض، وحينها استنجد عبدالله بي مرة أخرى قائلاً: إنني أعرف أن كل هذه الأعمال ما حدثت إلاّ بعد مجيئك يا حاج فيلبي بغية ثني إرادتي عن مقاومة حبيبكم عبدالعزيز آل سعود.. إنني اعدك بابعاد هذه الفكرة نهائياً، لكنني ارجو إعفائي من مسألة إبعاد الذين لجأوا معي من الحجاز ونجد هرباً من وحشية صاحبكم وجنوده التي أنت أعرف الناس بها.
وما مجزرة تربة والخرمة والطائف ببعيدة عن ذاكرتك.. فقلت لعبدالله: إنني أعدك ببذل كل مجهود لحمايتك بعد أن اتضح لنا أنك لا تنوي بابن السعود شراً أما اللاجئين فرأيي بهم كما تراه أنت، هو ألاّ نسلمهم لابن السعود على ألاّ يقوم أيّ أحد منهم بنشاط ضده.. فقال عبدالله: إتفقنا يا حاج فيلبي!.. وهكذا تخلى عبدالله عن أفكاره الوطنية والقومية في غزو الحجاز أو إثارة أيّ نوع من الشغب ضد ابن السعود بعد أن جمع لهذه الفكرة كل مخلّفات جيشه وجيش والده الهارب من الحجاز، جاعلاً من الأردن «أرض ميعاده الجديدة» لإخراج السعوديين من الحجاز ونجد)..
وأردف جون فيلبي قوله: (وبذلك اطمأن بن غوريون وابتسم معبّراً عن غبطته باستقرار الامور لصالح ابن السعود وبما توصلّت إليه من ترويض للأمير عبدالله بن الحسين، وقال بن غوريون وابتسامة الرضى بادية على وجهه من حديثي: «إذن أنت ما زلت أيها العظيم على علاقة حسنة بالرجل العظيم» قلت لابن غوريون: «من تقصد بالرجل العظيم»؟.. فقال بن غوريون: «وهل هناك مقصود في المنطقة العربية خلاف ابن العم عبدالعزيز بن سعود».. قال بن غوريون كلمة «ابن العم» وهو مدرك تمام معرفتي بتسلسل النسب السعودي المنحدر من قبيلة بني القينقاع اليهودية، ثم أخذ بن غوريون يعدّد لي زعماء وملوك وقادة اليهود الذين دخلوا الدينين المسيحي والاسلامي وغيرهما من الأديان لخدمة الهدف اليهودي والذين حكموا العالم عملاً بتحقيق الغاية الكبرى لبني إسرائيل فأورد أسماء كثيرة. واختتم بن غوريون حديثه عن ملوك وقادة بني إسرائيل عبر التاريخ مفاخراً بقوله:
«وهكذا ترى يا شيخ عبدالله كيف كانوا ملوكنا وقادتنا عبر التاريخ صنّاع حضارة وتاريخ ومجد عن عهد سليمان وداوود إلى عهد ابن السعود» ).. ويتابع جون فيلبي اعترافاته فيقول: (ولما عدنا الى الحديث عن الأمير «الحجازي الأردني» عبدالله الذي نقلناه من الحجاز لإقامة جبرية ينشىء خلالها دولة جديدة في صحراء الأردن السورية أيّد بن غوريون إقامة مثل هذه الدولة على أن تكون مملكة فيما بعد. كما أيد إقامة مملكة ابن السعود قائلاً: إن جذور الملكية هي التي تضرب في الأرض أكثر من سواها. وقال: «إننا بإقامة هاتين المملكتين ستطمئنّ قلوبنا لوجود سياجين حاميين لدولة إسرائيل المزمع قيامها في الوقت المناسب لولادتها ولادة لا تشويه فيها، وهذا لا يتم بالطبع إلاّ بإقامة التحصينات حولها باسم العرب الذين نثق بهم».
وعدت أداعب بن غوريون قائلاً: «أنت قد عدّدت لي الكثير من الملوك والقادة اليهود الذين حكموا العالم لكنك لم تتطرق لنسب ملوك بني هاشم وهل هم من اليهود أملا؟!..» فقال بن غوريون وهو يبتسم: «حتى وإن كانوا من اليهود فإنني لا أحبذ أن ينتسب الينا أي مهزوم، أمّا نسبنا مع ابن السعود فهو ثابت أكثر من سواه».. وفي نهاية اللقاء طلبت بن غوريون مرافقتي للأردن لمقابلة الأمير عبدالله، ويومها رافقني وأعددت له المقابلة في مسكني مقر المندوب السامي ـ رغم تردد الأمير عبدالله في المقابلة التي قبلها من باب الستدرار عطفي طالباً أن يكون المكان خالياً من سوانا نحن الثلاثة، وفي اللقاء تبادر عبدالله وبن غوريون كلمات الود والتعاطف والمجاملات، وقطع الأمير عبدالله وعده لبن غوريون في تلك المقابلة «بتأييد القضية اليهودية العادلة».. وبعد الاجتماع حمّلني بن غوريون رسالة خطية لعبدالعزيز آل سعود لأسلمها له شخصياً حينما ألتقي به في اللقاء المرتقب، وحينما جئت لأودّع الأمير عبدالله متجها الى الحجاز متمنياً من سموه تكليفي بأية خدمة يريد مني تأديتها لسموّه في الحجاز، إبتسم عبدالله وهو يودّعني ويقول: «إن الخدمة التي أود تأديتها لي هي أن تخلص لي من صميم قلبك بل تمنحني ولو بعض إخلاصك لابن السعود» وسألني عبدالله قائلاً: «هل لي بمعرفة شيء من مهمتك في الحجاز الآن؟» قلت: «إنها يا سمو الأمير «مهمة حج لقضاء حاجة» كما يقول المثل النجدي».. والحقيقة أنني تعودت قضاء فريضة الحج في مكة مع عبدالعزيز كلما سنحت لي الفرصة لأكون معه قريباً من الله!..
وسافرت من الأردن إلى مكة وهناك قابلت الصديق الصدوق عبدالعزيز آل سعود المتلهف لأخباري، وما أن قابلته في مجلسه الواسع وسألني عن «العلوم» أي الأخبار حتى أفهمته بإشارة يفهمها مني تمام الفهم وتعني «أن فضّ هؤلاء الناس الموجودين في المجلس» ففضهم، ولم يبق سوانا نحن الإثنين ـ عبدالله فيلبي، وعبدالعزيز ـ فطمأنته من أنني صفّيت الوضع في الأردن لصالحه وصالح بريطانيا، ثم قرأت عليه رسالة بن غوريون التي جاء فيها قول بن غوريون لعبدالعزيز «يا صاحب الجلالة.. يا أخي بالله والوطن» وكانت لكلمة «يا صاحب الجلالة» رنة في أذن عبدالعزيز فهي أول كلمة يسمعها عبدالعزيز بعد توليه العرش، إذ لم يتعوّد من عرب نجد سماعها أو دعوته إلاّ باسمه المجرد (يا عبدالعزيز) أو (يا طويل العمر) على أكثر تقدير..
وعندها استوقفني عبدالعزيز عن تلاوتي لرسالة بن غوريون متسائلاً يقول: «لماذا يدعوني ـ بن غوريون ـ صاحب الجلالة وأخوه بالله والوطن؟!» فقلت لعبدالعزيز: إن جميع أهل أوربا لا يلقبون ملوكهم إلاّ بأصحاب الجلالة لأنهم ظل الله في الأرض!..، أما قول بن غوريون عن «أخوّتك بالله والوطن»، «فكلنا إخوة له بالله والوطن وأنت أعرف بذلك!!».. فقال: (ألآن فهمت.. أتمم رسالتك يا حاج» فتلوت الرسالة التي جاء قول بن غوريون: «إنّ مبلغ العشرين ألف جنية استرليني ما هو إلاّ إعانة منّا لدعمك فيما تحتاج إليه في تصريف شؤون ملكك الجديد في هذه المملكة الشاسعة المباركة، وإني أحب أن أؤكد لك أنه ليس في هذا المبلغ ذرة من الحرام فكله من تبرعات يهود بريطانيا وأوربا الذين قد دعموك لدى الحكومة البريطانية في السابق ضد ابن الرشيد وكافة خصومك، وجعلوا بريطانيا تضحي بصديقها السابق حسين لأجلك لكونه رفض حتى إعطاء قطعة من فلسطين لليهود الذين شرّدوا في العالم» )..
ويتابع فيلبي قوله: «لقد استوقفني عبدالعزيز مراراً متسائلاً عن الكثير من جمل تلك الرسالة، من ذلك أنه سألني عن مبلغ الـ (20) ألف جنيه استرليني قائلاً: «وهل ينوي بن غوريون تهديدي بهذا المبلغ الذي بعثه لي بواسطتك؟ وهل عرفت حكومة بريطانيا العظمى بهذا المبلغ؟ وهل استلامي للمبلغ من بن غوريون لا يغضب حكومة بريطانيا فتقطع عني المرتب الشهري والعون؟..» قلت: «أبداً.. إن اليهود في بريطانيا هم حكام بريطانيا بالفعل، إنهم الحكم والسلطة والصحافة والمخابرات البريطانية، إن لهم مراكز النفوذ الأقوى في بريطانيا، وكانوا وراء دعمك وعونك، ووراء الاستمرار في صرف مرتبك حتى الآن عن طريق المكتب الهندي.. كما كانوا في السابق وراء قطع هذا المرتب لاختبارك هل سترفض أو لا ترفض التوقيع بإعطاء فلسطين لليهود».. قال عبدالعزيز: «وهل اطلع أحد على رسالة بن غوريون هذه»؟ فأجبته: «لم يطّلع عليها سوى أربعة»!!. فبدا على وجه عبدالعزيز الامتعاض الشديد أثناء تساؤله بلهفة عن معرفة هؤلاء الأربعة الذين اطلعوا على الرسالة!: «من هم الأربعة؟؟.. من هم الأربعة يا حاج فيلبي؟..
أنا لا أخشى غضب أحد إلا غضب الله وبريطانيا!» قلت لعبدالعزيز إن هؤلاء الأربعة هم: «الله وأنا وبن غوريون وعبدالعزيز» فضحك عبدالعزيز لهذا وهو يقول: «الله الأول عالم بكل شيء. أمّا الثلاثة الباقون فقد ضحكوا على الله ـ لكنني أسألك عن ـ عبيدالله ـ و على الأخص ـ عبدالله ـ الذي في الأردن ـ هل أخبره بن غوريون بشيء حينما التقى معه؟» ويقصد بذلك أمير الأردن عبدالله ـ الملك عبدالله فيما بعد ـ .. قلت : «لم يعرف عبدالله أي شيء. وأنت تعلم أننا لو أردنا إطلاعه على الأسرار التي بيننا وبينك لما منحناك عرشي الحجاز ومنحناه غور الأردن».. وانتهى اللقاء بتحميلي وصية شفهية من عبدالعزيز لبن غوريون يقول فيها: «قل للأخ بن غوريون إننا لن ننسى فضل أمنا وأبونا بريطانيا، كما لم ننس فضل أبناء عمنا اليهود في دعمنا وفي مقدمتهم السير برسي كوكس، وندعو الله أن يلحقنا أقصى ما نريده، ونعمل من أجله لتمكين هؤلاء اليهود المساكين المشردين في أنحاء العالم لتحقيق ما يريدون في مستقر لهم يكفيهم هذا العناء»!.
ورجعت من «الحج قاضياً حاجتي».. وفي الأردن أخبرت الأمير عبدالله «أن عبدالعزيز بن سعود يسلّم على سموكم وأننا سوف نجري مصالحة بين الطرفين نظراً لما تقتضيه مصلحة الجميع». وفي اليوم التالي لوصولي بلّغت رسالة «صقر الجزيرة» لبن غوريون.. و«صقر الجزيرة» هو الاسم المتعارف عليه في ملفات المخابرات البريطانية. إنه عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود).. انتهى.
نكتفى بهذا القدر من الجزء السابع ونلتقى بإذن الله تعالى مع الجزءالثامن بداية " مشروع بريطانيا العظيم!"
المراجع...
1- صفحة عن آل سعود الوهّابيين و آراء علماء السنّة في الوهّابيّة.. السيد مرتضى الرضوي
2- تاريخ آل سعود .. ناصر السعيد
3- كتاب " كشف الإرتياب ".. السيد حسن الأمين
4- كتاب " الفجر الصادق ".. طبعة مصرعام 1323ه
5- كتاب " التوسل بالنبى وبالصالحين " طبعة إستانبول عام 1984
6- كتاب تجديد كشف الارتياب