مواصلة لحديث "العطش"، فقد أعجبني جداً مقال لأيمن الصياد رئيس تحرير مجلة "وجهات نظر" المصرية الرصينة في العدد رقم 138 شهر يوليو 2010، وكان المقال تحت العنوان الذي عنْوَنَّا به هذه الكلمة. وأحببت أن تشاركوني ما في المقال من معلومات مهمة، وهو عينة على الصحافة الملتزمة والأقلام المخلصة الصادقة، لا كالأقلام المأجورة المسمومة التي كثرت في دورياتنا وإعلامنا في طول العالم العربي وعرضه.
وقد جاء العدد زاخراً بعدة مقالات عن المياه وحرب المياه.
فعلى الغلاف صورة تمثال لمصرية تملأ جرتها من النيل. وعلى الغلاف بالخط الأحمر الكبير شطر بيت شوقي في النيل: إلى أي عهد في القرى تتدفق؟ ونشرت المجلة قصيدته العصماء ووزعتها على صفحات المجلة، وقد نيفت القصيدة التي عنوانها "أيها النيل"، نيّفت على السبعين بيتاً.
وفي العدد ملف خاص عن المياه والنيل بالذات، وفيه (أي العدد) مقال للكاتب "جون ووتر بري" حتى اسمه في كلماته الماء، وقد عمل رئيس جامعة بيروت الأمريكية، وعنوان مقاله: "في البحث عن مستقبل"، ولعلنا نعود له فهو أيضاً مهم جداً. وفي العدد مقال لحسن مكي: "الصليب والنهر.. مصر وأثيوبيا والنيل".
ومقال ثالث لرشدي سعيد: "هذا النهر القديم". ومقال رابع لجورباتشوف: "هل حرب المياه قادمة؟"
لكنا الآن نقف مع مقال الصياد نصطاد منه وهو نفيس بعض المعلومات نعرضها عليكم، فلربما ليس الاطلاع على المجلة متاحاً لقسم كبير من قراء السبيل. واعذرونا على الاقتباس، لكن دفع إليه الاحتباس الذي يخطط له الأنجاس.
وقد وضع الكاتب على يمين المقال صورة للنيل من المنبع إلى المصب تصوير وكالة الفضاء الأمريكية ناسا، وعلى الصفحة المقابلة بالكامل صورة معبرة للزعيم جمال عبد الناصر مع هيلاسيلاسي إمبراطور الحبشة، وأظن أن الصورة التقطت في زيارة لعبد الناصر إلى الحبشة.. أو العكس، وإن كنت أرجح الاحتمال الأول. فقد كان عبد الناصر كثير التجوال وإقامة العلاقات وخاصة مع إفريقيا.
نعود إلى المقال الرائع للصياد فقد بدأه بقوله: في عام 33 وقف محمد عبد الوهاب يغني من كلمات أحمد شوقي: "النيل نجاشي". وفي سنة 2010 بدا مثيراً للمتابع التصريحات الرسمية والهرولة الدبلوماسية المصرية المتأخرة..
فقد كان هناك من نسي الحقيقة الجغرافية البسيطة التي بدأ بها أحمد شوقي مطلع أغنيته الشهيرة: "النيل نجاشي" التي رددها المصريون زماناً.. ثم قال: بين التاريخين تاريخ طويل. وبقدر ما هطل على هضبة الحبشة من أمطار جرت في النهر مياه كثيرة، حسب ما يقول التعبير الشائع.
كان زمن عرف فيه المصريون أن التاريخ تصنعه الجغرافيا كما تصنعه الإرادة. وضع المصريون أيامها "الدائرة الإفريقية" ضمن الدوائر الحاكمة للسياسة الخارجية. وقتها اعتبرت كل الثورات الإفريقية القاهرة عاصمة لها. جاء "لومومبا"، وتزوج نكروما من "فتحية"، وذهب عبد الباسط ليقرأ القرآن هنا وهناك. وتسجيلاته في جوهانسبرغ 66 هي الأكثر انتشاراً على النت. وكان ذلك كله تجسيداً للقوة الناعمة. تقدير ومهابة ونفوذ، لا يحتاج إلى سلاح، أو إلى تهديد به.
لم يكتف المصريون زمنها بإدراكهم أن "النيل نجاشي" بل غنوا أيضاً: "وقف الخلق ينظرون جميعاً كيف أبني قواعد المجد.."
ثم قال الصياد: "والحاصل أن الرصيد الذي صنعته مصر في سنوات الصعود منتصف القرن الماضي قد تلاشى في الثلاثين سنة الأخيرة.
انصرفت مصر، غفلة أو استدراجاً، عن القارة، عمقها الجنوبي، كما انصرفت عن غيرها، بعد أن حسبت أن أمنها وأمانها مرهون فقط برضا واشنطن. وكان لذلك مظاهر كثيرة: أغلقت مصر مكاتبها التجارية في إفريقيا، وباعت منشآتها ومبانيها في إطار ما سمي بالخصخصة (وتقرأ أيضاً بالضاد وباللام). وغابت القاهرة تدريجياً عن المشاركة الفعالة التي تليق بمكانة كانت لها في مؤتمرات القمة الإفريقية والمؤسسات التابعة لمنظمة الوحدة الإفريقية.
وجرى بالتالي انحسار طبيعي للأنشطة الأهلية والمدنية ابتداء من البعثات الدينية والتعليمية، وانتهاء بالأزهر الشريف، بل لحق العطب روابط كانت قوية بين الكنيسة في أثيوبيا وكنيسة الإسكندرية.
ثم قال الكاتب: يذكر جيلنا كيف كان الإمبراطور هيلاسيلاسي ينحني ليقبل يد البابا كيرلس. ولم تحاول مصر المنشغلة (أم العروس!) الإبقاء على شيء من هذه العلاقات، التي كانت من أهم الروابط بين الشعبين في كل من مصر وأثيوبيا.
لقد تركت مصر الجديدة المنكفئة على ذاتها، والمنشغلة بحساباتها الداخلية، إفريقيا خالية من أي دور أو مكانة مصرية. وكان من الطبيعي أن تخلو الساحة للآخرين. جاء الصينيون من الشرق، والإيطاليون من الشمال، وكان الفرنسيون والأمريكان هناك، وحتى الإسرائيليون.
لم تعد مصر هي التي عرفها الأفارقة، كما لم تعد أثيوبيا التي يأتي منها 85% من مياه النيل هي الدولة الحليف. ولذلك قصة طويلة لعبت فيها أطراف كثيرة. في سنة 74 وصل "منجستو هايلاميريام" بالشيوعيين إلى السلطة في أثيوبيا. فتغيرت سياسة مصر التي كانت قد اختارت بوضوح الانحياز للمعسكر الغربي، تغيرت تجاه أثيوبيا من النقيض إلى النقيض. (أقول: ذلك أننا لا نحكم مصالح دولنا، وإنما نرجح من نعمل لهم ونواليهم. فإن كان تبعيتنا للمعسكر الشرقي قدمنا مصالحه، وإن كانت تبعيتنا للغرب فنحن نعمل لمصالح الغرب، حتى وتبعيتنا لـ"إسرائيل" فإنّا نقدم مصالح "إسرائيل"، ألا ترى إلى حصار غزة كيف نخلص في خنق إخواننا لترضى عيون المجرمين. بينما عدونا لا يحكّم إلا مصالحه. ورأيتم كيف ضرب بأوباما عرض الحائط، ونعتوه بأقسى النعوت وهو الذي ينفق عليهم كل سنة عشرات المليارات. هذا الفرق بين سياسة وسياسة..)
نعود إلى وجهات نظر وحديث الصياد عن التحول عن إفريقيا وتحول إفريقيا عن قضايانا، وانتقالها إلى حليف لعدونا..
يقول: ثم كان أن جاء "النيل" ليصل بالخلاف المكتوم، إلى ذروة العلانية عندما أعلن السادات (..) عن فكرته لتوصيل مياه النيل إلى "إسرائيل" (سنة 79) ليخرج منجستو مذكراً بالاتفاقات التي تمنع مصر من أن تفعل ذلك، ومهدداً بأن أثيوبيا ستبني سلسلة من السدود والخزانات. وقتها هدد السادات بالحرب للحفاظ على الحقوق المكتسبة والتاريخية في مياه النيل. ورد منجستو ملوحاً بأنهم على استعداد لأن يكون النهر "نهراً من الدماء"..
(أقول: ليس في عالم السياسة غرام. لكن علاقتنا بـ"إسرائيل" نوع من الغرام على طريقة السينما المصرية.. نبيع كل شيء، ونضحي بكل شيء، والذي ضحى العرب من أجله، "ولا داري!" ما هذا؟ هل يحلم اليهود بأن نحارب إفريقيا من أجل عيونهم؟ لقد فعلنا لهم ما فاق الخيال منا ومنهم؟ أليست السلطة في مواقفها اليوم متقدمة على السادات مئات الخطوات؟ أليس التنسيق الأمني يعني اغتيال إخوانهم وتسليم المقاومين وتتبعهم ومطاردتهم وو..؟)
نواصل مع مقال أيمن الصياد، إذ يقول: "كان العالم كله وقتها يتغير.. ذهب السادات وذهب منجستو وبقي النيل في مكانه، نجاشي يأتي من الحبشة، ويجري إلى مصر.. ويغني له عبد الوهاب. (ما من مغن مصري إلا غنى للنيل.. قبل أن يصبح الغناء هشك بشك، رقصني يا جدع بلا معنى ولا مغنى ولا هدف ولا صوت.. صورة مبهرة فقط. واحنا مالنا.)
نعود إلى المقال: يسأل الكاتب: هل "إسرائيل" هناك..؟ سؤال مهم يا عم أيمن والله. ودائماً فتش عن "إسرائيل"، وكما قال وليام غاي كار: اليهود وراء كل جريمة.
ويجيب المقال: رغم أن الاهتمام الإسرائيلي بإفريقيا لا يخفى على أحد، ورغم حقيقة أن تل أبيب نجحت (بعد توقيع المعاهدة المصرية) في إقامة علاقات دبلوماسية مع دول إفريقيا التي لم تكن تعترف بها، ورغم كل ما أعلن من تفاصيل لزيارة ليبرمان وزير خارجية تل أبيب لعدد من دول حوض النيل (سبتمبر 2009)، إلا أنه من غير المنطقي أو الواقعي الذهاب بعيداً مع الذين ينشغلون بالبحث عن الأصابع الإسرائيلية وراء كل قصة. رغم ذلك فللإسرائيليين مع النيل قصة يذكرها كل من اهتم بهذا الملف.
في 16 يناير 79 نشرت مجلة "أكتوبر" ذات العلاقة المعروفة بالسادات، نشرت خطاباً منه إلى مناحم بيغن رئيس الوزراء الإسرائيلي يقول فيه: سوف نجعل مياه النيل مساهمة من الشعب المصري باسم ملايين المسلمين كرمز خالد وباق على اتفاق السلام، وسوف تصبح هذه المياه بمثابة مياه زمزم لكل المؤمنين أصحاب الرسالات السماوية في القدس، ودليلاً على أننا رعاة سلام ورخاء لكافة البشر".
وقالت المجلة إن السادات أعطى بالفعل إشارة بدء حفر الترعة، وطلب عمل دراسة جدوى دولية لتوصيل المياه إلى القدس.
ورغم أن أنيس منصور (رئيس تحرير أكتوبر ومقرب من السادات، ومن خليفته) قال بعد ذلك إن السادات لم يكن يقصد، وإن الرسالة لم تكن أكثر من بالون اختبار، إلا أن بطرس غالي الذي كان وزيراً للدولة للشؤون الخارجية أيام السادات، كان قد قال في مذكراته أن موشي ديان أبلغه موافقة السادات على مد مياه النيل لـ"إسرائيل". فهرع بطرس لمصطفى خليل رئيس الوزراء وأخبراه بما سمعاه فأكد لهما الخبر! فقال مصطفى خليل: هذا غير قانوني، ويتنافى مع اتفاقات حوض النيل. فقال السادات: "نبقى نقول لهم الميه بتروح في البحر". ونقف مع المقال عند هذا الحد، ونستأنفه في حلقة تالية.
والآن إلى تعليق قصير: أولاً ما أسوأ أن ينفرد فرد بالقرار، فرئيس الوزراء ووزير الخارجية لا يعلمان. وأي فرد؟ إنه أحمق، أهوج، متسرع، متسلط، متفرعن، لا يعترف بالخطأ، مصاب بجنون العظمة.. هذا يتحكم في مصر والنيل والعلاقات الدولية!
وثانياً ما أسوأ أن تمارس الخيانة باسم الدين وبالرموز الدينية وباللغة الدينية! فأن يقال إنه يريد أن يمد "إسرائيل" بمياه النيل باسم ملايين المسلمين. ثم يشبه هذه المياه المغصوبة من قوت الشعب وشرابه بمياه زمزم. ما أسوأ هذا التشبيه وأردأه. فزمزم رمز الطهر والبركة. ومد "إسرائيل" بأسباب الحياة من ماء وغاز أعظم خيانة في التاريخ وللتاريخ. فكيف تجمع بينهما؟
وثالثاً موقف أنيس منصور المثقف الكبير الذي يغطي على الإجرام موقف غير مقبول.
والحديث موصول.
• نقلاً عن جريدة "السبيل" الأردنية.