يقول الله تعالى :" "وإذ أنجيناكم من (آل)فرعون" الأعراف 141 , وذِكر (آل)فرعون يوحي بأن الحكم أُسَري عشائري , فالتعبير القرآني دقيق , إذ يقول :"آل فرعون , أو فرعون وملئه " , فالأمر صراع بين بني إسرائيل وبين فرعون وعشيرته , وليس بينهم وبين ملك وأمة عظيمة كالقبط ."وقال الملأ من قوم فرعون "الأعراف127,"والملأ هم الأشراف الذين يتمالئون (يتعاونون) في النوائب" ( انظر : العلامة الإمام محمود بن عمر الزمخشري – أساس البلاغة – تحقيق الأستاذ عبد الرحيم محمود , وفرعون عندما يخاطب(شعبه) فإنه يقول :"يا أيها الملأ":( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي) القصص38."وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ "يونس 88 , ودعوة موسى بالطمس على أموال فرعون لا يمكن تفسيرها إذا كان فرعون هو ملك القبط الذي يقوم على خزائن البلاد وثروات كل من فيها , ولكن يمكن فهم مغزى دعوة موسى إذا كان فرعون مجرد رئيس قبيلة أو عشيرة أو حتى رئيس مدينة تجارية (مصر) من أمصار التجارة- وكلمة "مصر" تعني باللهجة السريانية : سوقا مركزية - فهي ممكنة الطمس لو تحول الطريق التجاري مثلا عن(مصر)فرعون , أو لو امتنعت الأمطار مدة طويلة عن الهطول في بلده , أو أصابه الجراد , مما حدث لهذه المناطق أيام يوسف مثلا (وحتى وقت قريب كانت وديان الجانب البحري من عسير تتعرض دوريا لغزوات الجراد ,وهو ما قد يفسر حدوث (المجاعات) التوراتية هناك -انظر د. كمال الصليبي - التوراة جاءت من جزيرة العرب - ص 242) . ولما أخذ اللهُ فرعونَ بنقص من الثمرات , قال إنه أخذ عشيرة فرعون وليس كل سكان بلاد القبط:" {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ" الأعراف130 . ويقول الله تعالى :" وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ }غافر46 , فآل فرعون أي عشيرته وقبيلته هم المعذَّبون يوم القيامة, فقد شاركوه آثامه وكانوا له كالساعد , وهل تبطش اليد إلا بالساعد! ولا يصح هذا المعنى (اختصاص العذاب بآل فرعون) إن كان فرعون هو مَلك القبط, فلم يكن الله ليأخذ شعبا (القبط) بجريرة حاكمه . ولما أنقذ الله بني إسرائيل وموسى من الغرق وأطبق الماء على مطارديهم , وصف الله الغارقين بأنهم "آل فرعون "وليس جيش مصر القبط : "وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُون{50}البقرة ,.... , " كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ"{54}الأنفال . فلفظ (آل) يعني فقط العشيرة وأهل البيت الأقربين , ولا يعني عموم (القوم) من سكان الوطن , ذلك ما يمكن استخلاصه من تتبع معنى (آل) و(قوم) في القرآن الكريم , على سبيل المثال قصة نبي الله لوط : لما كان الحديث عن مقترفي الفاحشة والشذوذ وكان ظاهرة اجتماعية يمارسها المجتمع كله وقتها ,كان وصفهم بأنهم (قوم) لوط , ولما كان الحديث عن القلة المؤمنة من أهل لوط ,كان وصفهم (بآل) لوط :" وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ{54} أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ{55} فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ{56} فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ{57 } النمل . وقيل إن بطل قصة موسى فرعونان اثنان وليس فرعونا واحدا , وذلك كي يصح القول أن كلمة "فرعون" لقب لا اسم , فقالوا بفرعون الاضطهاد , وفرعون الخروج . ولكن لا حاجة لافتراض ذلك لو امتدت حياة فرعون لتغطي أحداث التقاط موسى رضيعا من الماء , وحتى غرق فرعون وملئه . فموسى لما هرب من مصر كان شابا فتيا أمكنه قتل رجل بوكزة واحدة , وبلوغ الأشد هو بلوغ سن الحلم (انظر تفسير الجلالين والتفسير الميسر) ,وبلوغ الأشد يكون في سن العشرين تقريبا, فهي السن التي تؤول فيها أموال اليتيم إليه {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ}الإسراء34. لذا يمكن القول إن موسى هرب بعد قتله الرجل وهو في العشرينيات من عمره , ولم يكن قد تزوج بعد ,وأمضى نحو عشر سنوات أخرى في خدمة شعيب في مدين , فهو إذن في العقد الثالث من عمره , أو العقد الرابع على أكثر تقدير , لما جاءه التكليف بالرسالة وخروجه ببني إسرائيل , فالمدة من مولد موسى حتى وقت الخروج لا تزيد بحال على أربعين سنة مالم تكن أقل , وهي مدة يمكن أن يسعها عمر شخص واحد -فرعون واحد- دون الحاجة إلى افتراض أنه فرعونان اثنان .ومما تحتفظ لنا به الذاكرة العربية القديمة يمكن اقتناص متفرقات من الأخبار التي أفلتت من التزوير وغالبت النسيان ويمكن الاستدلال بها عما هو أكثر دلالة منها: فيذكر لنا المسعودي المتوفى في سنة 346 هجرية أن موسى بن عمران بن قاهث بن لاوي بن يعقوب كان بمصر في زمن فرعون الجبار , وهو الوليد ابن مصعب بن معاوية بن أبي نمير بن أبي الهلواس بن ليث بن هران بن عمرو بن عملاق , وهو الرابع (!) من فراعنة مصر , كما يذكر لنا أن هارون أخا موسى مات في التيه ودفن في جبل وَمَوات من نحو جبل الشراة مما يلي الطور ( المرجع : أبو الحسن علي بن الحسين بن علي المسعودي - مروج الذهب ومعادن الجوهر – تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد – الجزء الأول –ص 48-49 ) . وجبل الشراة هو جبل السراة الممتد من المدينة إلى اليمن , وجبل الطور في مكة وجبل الزيتون هو هضبة من هضاب طور سيناء المرجع : د. أحمد داود - العرب الساميون والعبرانيون وبنو إسرائيل واليهود – ص 240) {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاء تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلْآكِلِينَ }المؤمنون20 . انتهى المقال الرابع عشر ويتبعه الخامس عشر بإذن الله -بتصرف من كتابنا الإسراء بين القرآن والتراث- نبيل هلال