بعد فتوى الشيخ السلفي ياسر برهامي بجواز أن يترك الزوج زوجته للمغتصبين حفاظا على النفس ..لي سؤال قاطع وواضح
ما الفرق الآن بين ياسر برهامي ومحجوب عبدالدايم ؟
في تقديري أن محجوب حرص على رضاء الباشا صاحب النفوذ فأعطى له زوجته كي لا يضره ،وياسر برهامي أيضاً حرص على رضاء المغتصب فأعطى له زوجته كي لا يضره..كده من غير فلسفة ولا تنطع بمقاصد الشرع وحفظ النفس، منذ متى وكان هؤلاء يحرصون على مقاصد الشرع، لماذا في هذا الموضوع بالذات ؟!!
الحقيقة أن هناك جانب نفسي مهم خدع الكثيرين بهذه الفتوى وهو أن حفظ النفس يكفل الإنفاق عليها وعلى الأولاد بعد ذلك، واغتصاب يفوت ولا حد يموت، وتغافل هؤلاء أنه من النادر أن يقع الزوج في هذه الورطة بل ربما لا يقع فيها أبداً، قد تُغتصب الزوجة بعيداً عن زوجها، ولكن بحضوره ورؤيته فهذه لا تحدث إلا استثناء قد يكون ورائه نوازع انتقام أو طغيان زاد عن الحد.. فجاء الشيخ وحكم على هذا الاستثناء ولم يراع أن المغتصب يشعر ببشاعة جريمته فيحرص دائماً على أن تكون بعيداً عن أعين الناس فما بالكم وأن الشيخ يفرض على أندر الاحتمالات وهي حضور الزوج..!!
قديماً كان أبو حنيفة صاحب هذه النوعية من الفقه المسماه.."بالفقه التقديري"..وهو أن يفرض الفرضيات والاحتمالات ثم يستنتج الأحكام، ولكن لا أعلم أن أبا حنيفة قد يٌفتي بترك الزوجة للمتغصبين خاصةً وهو يعلم أن فعل الترك يعني أنه سيحدث بعد ذلك ولكن في ظروف مشابهة ويقيس عليها، مثل أن يهدد أحد المجرمين زوجاً ويأمره بمجامعة زوجته مثلما حدث مع محجوب عبدالدايم..فيخاف الزوج على نفسه وأولاده ويمتثل لأوامر المجرم، هذه هي الصورة الصحيحة للفعل، ولا يصح أن تضيق الصورة في مشهد الاغتصاب..هذه هي الخُدعة التي وقع فيها الكثيرين فاعتقدوا صحة الفتوى ما دامت تحقق مقاصد الشرع...وهي لا تحقق شيئاً سوى الانحدار والدونية والأنانية والحرص على متاع الدنيا.
الحقيقة أن مثل هذه الفتاوى تتدخل فيها المذهبية إلى حد كبير، فلو كان صاحب الفتوى سنياً لهاجمه الشيعة وبرر له السنة والعكس صحيح، كذلك لو كان إخوانياً لهاجمه السلفية وكافة خصوم الإخوان أيضاً والعكس صحيح..ولكن بما أن القائل هو سلفي مؤيد للجيش المصري فسيدافع عنه السلفي والمؤيد للجيش أيضاً، في اعتقادٍ منه أنه بدفاعه هو يدافع عن نفسه واتجاهه السياسي ..وهذا غير صحيح، فالمبادئ لا تعرف أحزاب أو جماعات...هذه خُدعة كبيرة يقع فيها أصحاب الرغبات والنوازع..
أخشى أنه وبنشر هذه الفتوى قد تكثر حوادث الاغتصاب بحضور الزوج، وقد نرى شيئاً من ذلك في المستقبل طالما أصبحت قضية رأي عام يتحدث فيها الجميع فيطمع الذي في قلبه مرض، حيث لم يناقشها أحد في الماضي بهذه الصورة فجهلها من جهل ورحم الله منها الأمم..
لقد نسب الشيخ برهامي فتواه لاجتهاد الشيخ العز بن عبدالسلام بطاعة السارق إذا شعر المسروق بالخطر على نفسه، ونسي أن الفارق بين السرقة والاغتصاب كالفارق بين المال والعِرض، فالمال شئ مُستهلك يأتي به الإنسان ويُنفقه دون أن يؤثر ذلك عليه، فلو أعطى الإنسان ما لديه للسارق لا يضره ذلك شيئاً طالما يمكنه التعويض، وطالما أيضاً أن المال ليس كائناً حيا يملك مثل الإنسان.
أما الأعراض فهي ليست مُستهلكة تأتي وتذهب كيفما ووقتما شئنا، لأن الأعراض تعني أن هناك كائناً غير الزوج له حقوق أعظمها حق ملكية النفس والجسد التي يشرع المغتصب في انتهاكها، بتوضيح أكثر أن قبول التفريط في الأعراض يعني قبول التفريط في النفس وليس حمايتها كما يزعم، فالمال ليس كائناً حياً يشعر ويتكلم مثل الزوجة، والفتوى بهذه الطريقة تضع المال في مرتبة الزوجة...كلا ثم كلا ثم كلا..فالزوجة لم ولن تكون شيئاً مُستهلكاً لمتاعنا الخاص، فهي كائن له كافة الحقوق أعظمها حق ملكية النفس والجسد، والدفاع عن هذا الحق بكافة الطرق هو واجب إنساني قبل أن يكون واجباً دينياً.
هو واجب إنساني لأن قضايا الاغتصاب تمثل أبشع جرائم الاعتداء على الحقوق، فهي ليست كالسرقة أو الرشوة أو الاستغلال، بل هي قمة من قمم الاعتداء المباشر والإكراه ، فبما بالنا وهذا الاعتداء يجمع ما بين الإكراه والاستغلال والسرقة بغريزة حيوانية تقطع أي صلة بين المغتصب وآدميته ؟!..هذا ما يخص الاغتصاب كطبيعة، وهذا ينفصل عن طبيعة شعور الزوج وتأثير ذلك على شخصيته ، حيث وبرضاءه عن هذه الجريمة -مخافة أن يهلك- يكون كالمغتصب في اعتداءه، ولو لم يرضى يكون قد حقق لنفسه أدنى مراتب الكرامة في حفظه لحقوقه ومنها حق زوجته وحقه أيضاً في زوجته، حتى لو هلك يكون قد هلك بكرامة تفصل ما بينه وبين الحيوان الذي لا يغار على أنثاه.
القضية هي قضية مبادئ رئيسية تتفرع عنها عدة قضايا منها الدفاع عن الأرض والمال والأسرة والوطن .....إلخ، فمن يقبل التفريط في زوجته- مخافة الهَلَكة -فسيقبل بهذه الأشياء جميعاً دون أن يشعر بفداحة موقفه وجريمته الشنعاء في حق الإنسانية، ووقتها سيكون الممثل.."محمد هنيدي"..في فيلم.."خالتي نوسة"..أفضل منه حيث كان قد فرّط في خطيبته للمجرمين ثم استدرك موقفه أخيراً وتصدى لهم رغم فارق القوة والعدد، بينما هؤلاء لن يشعروا بجريمتهم أبداً طالما أخذت صك الغفران واعتقد الحمقى أن الله يرضى بذلك، والله برئُ من هذا الادعاء الذي نسبوه إليه الجُهلاء والمغفلين من أبناء الأمة .
أخيراً لقد استدل برهامي بحديث.."كذب إبراهيم عليه السلام"..حين أعطى زوجته سارة لحاكم مصر وقال أنها أخته مخافة المَلِك، وهذا حديث أقل ما يُقال عنه أنه .."حديث خبيث".. اخترعه أحد الكذابين الملاحدة للطعن في عرض الخليل عليه السلام، والقصة قديمة في التوراه في سفر التكوين الإصحاحين.. (12-20)..ولكنها انتقلت بقدرة قادر لتُصبح حديثا نبوياً للطعن في عرض الخليل، وردده الرواة ونقلوه بمنتهى البلاهة ، ونسوا أن الحديث يقضي بأن النبي ابراهيم كان كذّاباً عِوَضاً على أنه ديوثاً معاذ الله.
حيث رووا في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال.." "لم يكذب إبراهيم إلا ثلاثا حدثنا محمد بن محبوب حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن محمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال لم يكذب إبراهيم عليه السلام إلا ثلاث كذبات ثنتين منهن في ذات الله عز وجل قوله{ إني سقيم }وقوله{ بل فعله كبيرهم هذا } وقال بينا هو ذات يوم وسارة إذ أتى على جبار من الجبابرة فقيل له إن ها هنا رجلا معه امرأة من أحسن الناس فأرسل إليه فسأله عنها فقال من هذه قال ..(أختي)..فأتى سارة قال يا سارة ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك وإن هذا سألني فأخبرته أنك أختي فلا تكذبيني ..الحديث"..صحيح البخاري(ج11ص145)
ولكن ليخرجوا من هذه الورطة قالوا أن الحديث لم يقضِ بكذب ابراهيم ولكنه كان من باب المعاريض كما أفتى بذلك ابن حجر العسقلاني..قال .. "وأما إطلاقه الكذب على الأمور الثلاثة فلكونه قال قولا يعتقده السامع كذبا لكنه إذا حقق لم يكن كذبا لأنه من باب المعاريض المحتملة للأمرين فليس بكذب محض"..فتح الباري(ج10ص141)..ووافقه النووي بقوله.." "فنبه النبي على أن هذه الكذبات ليست داخلة في مطلق الكذب المذموم . قال المازري : وقد تأول بعضهم هذه الكلمات ، وأخرجها عن كونها كذبا ، قال : ولا معنى للامتناع من إطلاق لفظ أطلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت : أما إطلاق لفظ الكذب عليها فلا يمتنع لورود الحديث به ، وأما تأويلها فصحيح لا مانع منه"..شرح النووي على مسلم(ج8ص100).
المشكلة أنهم عادوا بعد ذلك وقضوا بأن الكذب مذموم بتصحيحهم حديث .."المعراج والشفاعة الشهير".. الذي قال بأن ابراهيم اعترف بذنبه وكذبه وأعرض عن شفاعة الناس ، حيث روى البخاري في صحيحه.." فيأتون إبراهيم فيقولون يا إبراهيم أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه فيقول لهم إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإني قد كنت كذبت ثلاث كذبات فذكرهن أبو حيان في الحديث نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري"...صحيح البخاري(ج14ص322)
فكيف ياأصحاب العقول أن تُقروا ذنب ابراهيم ثم تنكروه بعد ذلك من أجل تصحيح حديث الكذب، لقد أكثرتم من التبرير والتنطع والكذب في حق الله وفي حق الأنبياء.
ألم يعلم هذا البرهامي أن إمام التفسير الكبير.."الفخر الرازي"..هاجم هذا الحديث بضراوة واتهم رواته بالحشوية والكذب في حق الأنبياء ؟...لقد فطن الرازي لخطورة الحديث وإن لم يثشر إلى ما تضمنه هذا الحديث الكارثة بالطعن في عرض الخليل، حيث قال الرازي في تفسيره:
1- "واعلم أن بعض الحشوية روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « ما كذب إبراهيم عليه السلام إلا ثلاث كذبات » فقلت الأولى أن لا نقبل مثل هذه الأخبار فقار على طريق الاستنكار فإن لم نقبله لزمنا تكذيب الرواة فقلت له : يا مسكين إن قبلناه لزمنا الحكم بتكذيب إبراهيم عليه السلام وإن رددناه لزمنا الحكم بتكذيب الرواة ولا شك أن صون إبراهيم عليه السلام عن الكذب أولى من صون طائفة من المجاهيل عن الكذب"..تفسير الرازي الكبير(ج9ص25)
2-" الوجه السابع : قال بعضهم ذلك القول عن إبراهيم عليه السلام كذبة ورووا فيه حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « ما كذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات » قلت لبعضهم هذا الحديث لا ينبغي أن يقبل لأن نسبة الكذب إلى إبراهيم لا تجوز فقال ذلك الرجل فكيف يحكم بكذب الرواة العدول؟ فقلت لما وقع التعارض بين نسبة الكذب إلى الراوي وبين نسبته إلى الخليل عليه السلام كان من المعلوم بالضرورة أن نسبته إلى الراوي أولى"..المصدر السابق(ج13ص133).
قلت:وغير هذا فالفخر الرازي يُنكر هذه الروايات ويتهم رواتها بالكذب الصريح في أكثر من موضع-غير هذا- في تفسيره، وبدا لي تردده في قبولها في مواضع أخرى وإن اشترط قبولها بصحتها بتفسير الكذب بالتعريض كما وقد صرّح بعض الشُرّاح، ولكن يبقى موقفه النهائي بردها جميعا صونا وتنزيهاً للخليل إبراهيم عليه السلام، ولكن من أين للبرهامي أن يقرأ خلاف العلماء حول هذا وينج بنفسه من هذا الانحدار الأخلاقي الشنيع، لقد اختاروا الجهل عن العلم والتبرير عن الصدق والتنطع عن الوضوح والشجاعة.
لقد سقط برهامي في امتحان الأخلاق والرجولة، وسقط أيضاً في امتحان العلم، ولولا أنه يسري على منهاج سلفه.."أهل الحديث"..ما فتى بهذه الفرية في حق الله وفي حق الأنبياء والناس، ولولا أنه من مؤيدي الجيش المصري لانتفخ الإخوان للدفاع عنه وليس مهاجمته كما يفعلون الآن، فهجومهم عليه كيدياً..بل هم آخر من يتحدثون عن الأخلاق والشرف بعدما طعنوا في أعراض زوجات ضباط الشرطة والقُضاة فقط لخلافهم معهم وتضررهم من أحكام القانون، وأجزم أن من بينهم ألف محجوب عبدالدايم وياسربرهامي..يفكرون بطريقتهم وينسبون الدياثة لله وللأنبياء خوفاً على أنفسهم وليس خوفاً على الدين ولا على حتى زوجاتهم.