العسكر ومسيرة الحضارة
كمال غبريال
مع بداية القرن التاسع عشر، بدأ تاريخ مصر الحديثة على يد واليها العثمانلي محمد علي باشا، باعتبارها جيشاً يقوم على خدمته شعب، فقد كان الجيش بالنسبة للرجل هو الأساس والهدف، لتحقيق طموحاته الاستقلالية والإمبراطورية، لكنه في سعيه لتأسيس جيش حديث بمقاييس ذلك العصر، وجد نفسه بوعي أو بدون وعي، يؤسس مصر الحديثة. قد كان تكوين هذا الجيش، بداية لشعور الشعب المصري بالانتماء الوطني، الذي يجمع سائر مكونات المجتمع العرقية والاجتماعية والدينية في وحدة واحدة. ومنه بدأت سائر مناحي الحياة المصرية في الزحف نحو المزيد من العصرية، ومن توثيق الروابط بين سكان الوادي والدلتا، خارج نطاق المحاور الدينية والقبائلية والعائلية المتوارثة. بالطبع لم يكن نصيب سائر أركان الوطن الجغرافية من هذا التحديث متساوياً، إذ وصل ذروته في العاصمة والمدن والمراكز الكبرى، وتضاءل في الأطراف، مع البعد الجغرافي عن هذه المراكز. وهذا أمر طبيعي ومتوقع. وقد وصل هذا الشعور بالانتماء الوطني إلى قمته في ثورة 1919، وكان الجيش المصري عندها قد تراجع من حيث الحجم والقوة والأهمية إلى مرحلة متأخرة، يسير وراء الجنازات، ويدق الطبول في الاحتفالات، بحيث تعد ثورة 1919 ثورة مدنية خالصة.
كان ظهور حسن البنا بدعوته في بداية العقد الرابع من القرن العشرين، بمثابة "ثورة مضادة"، أو ردة فعل من قوى التخلف العتيدة بالمجتمع، على تلك النهضة الحداثية، التي بدت للكثيرين دخيلة ومقحمة، وذلك بمحاولة التراجع إلى نمط الحياة والعلاقات والقيم المتجذرة بالمجتمع، وإلى الانتماء الديني، على حساب الانتماء الوطني البازغ، لتأتي حركة ضباط 1952، لتعيد الجيش إلى صدارة الصورة لبضعة سنوات. مالبث الشكل المدني للدولة أن عاد بعدها، رغم استمرارية حكم الديكتاتور الفرد ذي الخلفية العسكرية. فالضباط المشاركون في الثورة أو الانقلاب بمستوياتهم المتعددة، قاموا بالفعل بخلع بذلاتهم العسكرية، وانقطعت علاقتهم بالقوات المسلحة، وانخرطوا في الحياة والمؤسسات المدنية، وإن بقيت بالطبع بينهم روابط العلاقات الشخصية. بحيث نستطيع القول أن هزيمة الجيش المصري في 1967، وما ترتب عليه من سقوط عبد الحكيم عامر، بما كان يشكله من مركز قوة عسكري، معادل لشعبية عبد الناصر الجماهيرية، كان نقطة فاصلة في التحييد الكامل للجيش المصري، وبدء مرحلة بناء جيش وطني احترافي، ملتزم بحدوده ومهامه العسكرية. وهذا ما استمر عليه الحال في عهدي السادات ومبارك. . يخرج عن نطاق مقاربنا هذه بالطبع، تناول طبيعة مثل هذه الدولة المحكومة بديكتاتورية، وخاصة تلك الديكتاتورية العسكرية الخلفية، وما يترتب على هذا من سلبيات، تنشأ عما يمكن توصيفه بالجمود والتيبس في مرافق ومؤسسات الدولة، ما سوف يتعاظم بالتأكيد، إذا ما كانت الدولة تحكم حكماً عسكرياً صريحاً وكاملاً.
بعد 25 يناير 2011 اتجه الإخوان المسلمون للعودة بنا إلى الدولة المؤسسة على الانتماء الديني، بدءاً بمرحلة أخونة مؤسسات الدولة، لكن القدر أو الشعب المصري لم يمهلهم. فقد جاءت ثورة 30 يونيو- 3 يوليو 2013، ومعها تصور أننا سنعود للدولة المدنية، لكن ما حدث منذ ذلك التاريخ وحتى الآن، وفقاً لحقائق الواقع المصري الراهن، واتجاهات حركة المؤسسة العسكرية، وقائدها المرشح رسمياً، والمكرس جماهيرياً لمنصب رئاسة الجمهورية، يشير إلى أننا نتجه لدولة تحكمها المؤسسة العسكرية، وليس فقط كما كان الحال عليه طوال الستة عقود الماضية، دولة يحكمها حاكم مدني ذو خلفية عسكرية، بواسطة هياكل الدولة المدنية.
لعل أهم الملامح الهيكلية للدول المشاركة والمتصدرة لمسيرة الحضارة الإنسانية الراهنة، هو اتجاه المؤسسات العسكرية فيها، لأن تخلي دورها المحوري التاريخي للمؤسسات الاقتصادية، والعكس صحيح في الدول المتخلفة عن ركب الحضارة، حيث يتصاعد فيها دور المؤسسة العسكرية، ليهيمن سياسياً واقتصادياً، ومن ثم ثقافياً واجتماعياً. ولدينا لهذا مثال بالغ الوضوح، في مقارنة وضع المؤسسة العسكرية في كل من كوريا الجنوبية، المتقدمة اقتصادياً وحضارياً، وبين كوريا الشمالية، التي ليس لديها بخلاف قدراتها العسكرية، غير قدرتها على ابتزاز أو تسول الطعام لشعبها.
بعد الحرب العالمية الثانية، ودخول العالم مرحلة ما سمي بالحرب الباردة، وبدء انتشار الأسلحة الذرية، تحولت الجيوش الكبرى إلى عوامل ردع وتخويف، أكثر منها أداة فاعلة توجه الأوضاع على الساحة العالمية، ليبرز دور الاقتصاد كقائد لمسيرة الشعوب، مسخراً السياسة والقوة العسكرية لتعمل في معيته. فيما انخرطت شعوب العالم المتخلف في سلاسل متوالية ومتزامنة من الحروب المدمرة، تستهلك فيها طاقاتها. تعاظمت خلال ذلك قدرة قواتها العسكرية النسبية، وتفاقمت هيمنتها وطغيانها على سائر أجنحة الدول. وكان لابد هكذا من تدني أو انهيار اقتصادياتها، ومعها سائر مقدرات حياة شعوبها.
الآن ونحن في منتصف العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، صار جلياً أن الدول الكبرى تؤمن مصالحها، وتردع أعداءها، عن طريق قوتها الاقتصادية لا أكثر، مع بقاء قواتها العسكرية في الخلفية، حيث صارت في كثير من الأحيان، كما لو عملة غير قابلة للصرف أو الاستخدام. وفي أحيان أخرى أقرب للمخزون الذهبي المستخدم كغطاء للعملات النقدية، يمنح الأمان والثقة في العملة، ولا يقوم بأي دور إيجابي فاعل في السوق. ربما تلعب القوة العسكرية الآن، دور ما يعرفه الفلاح المصري باسم "خيال المآتة"، الذي ينذر العصافير حين تهزه الرياح، لكنه لا يكاد يقوم بأي عمل فعلي خلاف ذلك. بالطبع إلا في أحوال محاربة الإرهاب، ذلك العدو الأعمي للحضارة الإنسانية، والذي لا يعترف بقيمها وعلاقاتها، ويحتاج لمن يتراجع إليه، فيعامله بذات لغة السيف، التي لا يعرف ولا يرتدع بغيرها.
الآن نحن في مصر إذ نتجه لتعظيم دور المؤسسة العسكرية في حياتنا، سواء كان هذا لدواع جبرية مفروضة علينا، بالممارسات الإرهابية لجماعة الإخوان المسلمين، أو نتيجة لأي عوامل أخرى مساعدة، فإننا في جميع الأحوال لابد وأن ندرك، أننا بهذا نتجه لا للأمام، بالقياس للمسيرة الحضارية العالمية الراهنة، وإنما نتجه للخلف. وكل ما نرجوه ألا تبتعد رحلتنا للخلف هذه بنا كثيراً، فنحن أصلاً بواقع الحال، أبعد ما نكون عن المستوى العالمي المتوسط للدول الناجحة.
كان ظهور حسن البنا بدعوته في بداية العقد الرابع من القرن العشرين، بمثابة "ثورة مضادة"، أو ردة فعل من قوى التخلف العتيدة بالمجتمع، على تلك النهضة الحداثية، التي بدت للكثيرين دخيلة ومقحمة، وذلك بمحاولة التراجع إلى نمط الحياة والعلاقات والقيم المتجذرة بالمجتمع، وإلى الانتماء الديني، على حساب الانتماء الوطني البازغ، لتأتي حركة ضباط 1952، لتعيد الجيش إلى صدارة الصورة لبضعة سنوات. مالبث الشكل المدني للدولة أن عاد بعدها، رغم استمرارية حكم الديكتاتور الفرد ذي الخلفية العسكرية. فالضباط المشاركون في الثورة أو الانقلاب بمستوياتهم المتعددة، قاموا بالفعل بخلع بذلاتهم العسكرية، وانقطعت علاقتهم بالقوات المسلحة، وانخرطوا في الحياة والمؤسسات المدنية، وإن بقيت بالطبع بينهم روابط العلاقات الشخصية. بحيث نستطيع القول أن هزيمة الجيش المصري في 1967، وما ترتب عليه من سقوط عبد الحكيم عامر، بما كان يشكله من مركز قوة عسكري، معادل لشعبية عبد الناصر الجماهيرية، كان نقطة فاصلة في التحييد الكامل للجيش المصري، وبدء مرحلة بناء جيش وطني احترافي، ملتزم بحدوده ومهامه العسكرية. وهذا ما استمر عليه الحال في عهدي السادات ومبارك. . يخرج عن نطاق مقاربنا هذه بالطبع، تناول طبيعة مثل هذه الدولة المحكومة بديكتاتورية، وخاصة تلك الديكتاتورية العسكرية الخلفية، وما يترتب على هذا من سلبيات، تنشأ عما يمكن توصيفه بالجمود والتيبس في مرافق ومؤسسات الدولة، ما سوف يتعاظم بالتأكيد، إذا ما كانت الدولة تحكم حكماً عسكرياً صريحاً وكاملاً.
بعد 25 يناير 2011 اتجه الإخوان المسلمون للعودة بنا إلى الدولة المؤسسة على الانتماء الديني، بدءاً بمرحلة أخونة مؤسسات الدولة، لكن القدر أو الشعب المصري لم يمهلهم. فقد جاءت ثورة 30 يونيو- 3 يوليو 2013، ومعها تصور أننا سنعود للدولة المدنية، لكن ما حدث منذ ذلك التاريخ وحتى الآن، وفقاً لحقائق الواقع المصري الراهن، واتجاهات حركة المؤسسة العسكرية، وقائدها المرشح رسمياً، والمكرس جماهيرياً لمنصب رئاسة الجمهورية، يشير إلى أننا نتجه لدولة تحكمها المؤسسة العسكرية، وليس فقط كما كان الحال عليه طوال الستة عقود الماضية، دولة يحكمها حاكم مدني ذو خلفية عسكرية، بواسطة هياكل الدولة المدنية.
لعل أهم الملامح الهيكلية للدول المشاركة والمتصدرة لمسيرة الحضارة الإنسانية الراهنة، هو اتجاه المؤسسات العسكرية فيها، لأن تخلي دورها المحوري التاريخي للمؤسسات الاقتصادية، والعكس صحيح في الدول المتخلفة عن ركب الحضارة، حيث يتصاعد فيها دور المؤسسة العسكرية، ليهيمن سياسياً واقتصادياً، ومن ثم ثقافياً واجتماعياً. ولدينا لهذا مثال بالغ الوضوح، في مقارنة وضع المؤسسة العسكرية في كل من كوريا الجنوبية، المتقدمة اقتصادياً وحضارياً، وبين كوريا الشمالية، التي ليس لديها بخلاف قدراتها العسكرية، غير قدرتها على ابتزاز أو تسول الطعام لشعبها.
بعد الحرب العالمية الثانية، ودخول العالم مرحلة ما سمي بالحرب الباردة، وبدء انتشار الأسلحة الذرية، تحولت الجيوش الكبرى إلى عوامل ردع وتخويف، أكثر منها أداة فاعلة توجه الأوضاع على الساحة العالمية، ليبرز دور الاقتصاد كقائد لمسيرة الشعوب، مسخراً السياسة والقوة العسكرية لتعمل في معيته. فيما انخرطت شعوب العالم المتخلف في سلاسل متوالية ومتزامنة من الحروب المدمرة، تستهلك فيها طاقاتها. تعاظمت خلال ذلك قدرة قواتها العسكرية النسبية، وتفاقمت هيمنتها وطغيانها على سائر أجنحة الدول. وكان لابد هكذا من تدني أو انهيار اقتصادياتها، ومعها سائر مقدرات حياة شعوبها.
الآن ونحن في منتصف العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، صار جلياً أن الدول الكبرى تؤمن مصالحها، وتردع أعداءها، عن طريق قوتها الاقتصادية لا أكثر، مع بقاء قواتها العسكرية في الخلفية، حيث صارت في كثير من الأحيان، كما لو عملة غير قابلة للصرف أو الاستخدام. وفي أحيان أخرى أقرب للمخزون الذهبي المستخدم كغطاء للعملات النقدية، يمنح الأمان والثقة في العملة، ولا يقوم بأي دور إيجابي فاعل في السوق. ربما تلعب القوة العسكرية الآن، دور ما يعرفه الفلاح المصري باسم "خيال المآتة"، الذي ينذر العصافير حين تهزه الرياح، لكنه لا يكاد يقوم بأي عمل فعلي خلاف ذلك. بالطبع إلا في أحوال محاربة الإرهاب، ذلك العدو الأعمي للحضارة الإنسانية، والذي لا يعترف بقيمها وعلاقاتها، ويحتاج لمن يتراجع إليه، فيعامله بذات لغة السيف، التي لا يعرف ولا يرتدع بغيرها.
الآن نحن في مصر إذ نتجه لتعظيم دور المؤسسة العسكرية في حياتنا، سواء كان هذا لدواع جبرية مفروضة علينا، بالممارسات الإرهابية لجماعة الإخوان المسلمين، أو نتيجة لأي عوامل أخرى مساعدة، فإننا في جميع الأحوال لابد وأن ندرك، أننا بهذا نتجه لا للأمام، بالقياس للمسيرة الحضارية العالمية الراهنة، وإنما نتجه للخلف. وكل ما نرجوه ألا تبتعد رحلتنا للخلف هذه بنا كثيراً، فنحن أصلاً بواقع الحال، أبعد ما نكون عن المستوى العالمي المتوسط للدول الناجحة.
Kamal Ghobrial