بين فساد له نسب وفساد يبحث عن النسب بضراوة.
كتب عبد الله القصيمي في كتاب: كبرياء التاريخ في مأزق ما يلي:
يرفض الإله الكبير أن يكون له شركاء، كما يرفض الطاغية واللص الكبير أن يكون معه طغاة ولصوص آخرون ينافسونه على التفرد، لهذا يقاوم الثوار الطغاة أحيانا الفاسدين واللصوص الصغار والمتكبرين على المجتمع بحزم ودعاية. وليس الدفاع لهم حينئذ أخلاقيا أو وطنيا، بل كالدفع لهم حينما يقاومون المفكرين والمحتجين والمقاومين لطغيانهم والرافضين للنفاق وعبادة الأصنام البارزة المولودة على فراش غير شرعي ـ إنهم يقاومون فسادا له تاريخ لينصروا عليه فسادا ليس له تاريخ ليكون أكثر غباء وبذاءة وفتكا ـ إنه قتال بين فساد ذي نسب وفساد بلا نسب ويبحث عن النسب بضراوة، إنهم في الحالتين ـ أي حينما يقاومون هؤلاء وهؤلاء ـ يريدون أن تكون القوة والسلطان لهم وحدهم. فالطاغية الذي يريد أن يتفرد بالقوة والحرية والفساد والامتلاك قد يرى في القضاء على السرقات والمفاسد والمظالم الصغيرة المعنى الذي يراه في القضاء على جميع حريات الآخرين ومنافستهم. والفساد والظلم اللذان يسمح بممارستهما، أو اللذان لابد أن يكونا، يجب أن يكون هو الذي يسمح بهما، كالإصلاح والتطوير اللذين يريدهما ويوافق عليهما، أو يعمل لهما تحت أضخم الإعلانات والدعاية الضاجة ـ هذا وهذا وكل شيء يجب أن يكون بإذنه بل كمنحة من عنده.
إن الطاغية السارق القاتل قد يعاقب القتلة واللصوص أكثر أو بأسلوب أعنف مما يفعل المجتمع الحر. وهذا أسلوب من أساليب نفي المشاركة له حتى عمل السوء، إنه يجد أعظم البهجة في أن يكون وحده السارق القاتل، وهذا يساوي في مشاعره أ، يكون وحده البطل العبقري!
إذن فحينما نجد الطغاة يقاومون المظالم والمفاسد التي يأتيها الأقوياء المتعددون المنافسون لكبريائهم وتفردهم لا ينبغي أن نفرح بذلك ولا أن نعده عملا صالحا أو عملا من أعمال العدل والنزاهة، فليست مقاومتهم هذه إلا تعبيرا عن أنانيتهم القائمة على مقاومة كل قوة وحرية غير قوتهم،إنها بحث عن الانفراد بالسلطان وعن الذلال للجميع ليكونوا هم وحدهم السادة المتفوقين، وليست بغضا للعدوان.
إن قطع يد السارق وقطع لسان المفكر الناقد لدمامة الطغيان لسواء في حساب الطاغية الذي يريد أن يسحق جميع احتمالات المنافسة له.
وتعريف الطاغية: إنه إنسان شره سارق جدا، يريد سرقة جميع الأشياء، ويريد أن تكون جميع الحريات وألوان القدرة له وحده، حتى السرقة والفساد يجب أن يكونا له وحد، ويجب أن يتصدق بهما على الآخرين حينما يرى أن يسمح بهما لبعض أعوانه أو لبعض الناس لغرض من الأغراض الكثيرة، أو لأن عهد الطاغية لابد أن يكون من أكثر العهود ازدهارا بالفساد والسرقة. فالطاغية إذا عاقب لصا أو أو قاتلا أو مرتشيا أو مستغلا فهو إنما يعاقب ـ في قصده ـ حرية ذلك المنافس له، ولم يرد أن يعاقب معنى الجريمة أو الفساد فيه، وإلا لقتل نفسه لأنه هو أعلى مستويات الفساد والجريمة.
إن المصحف والسجن لا يعنيان في حساب الطاغية إلا معنى واحدا.
ولم يزل الطغاة في جميع العصور يتفننون في ابتكار الحيل التي يستطيعون أن يمتلكوا بها كل أسباب القوة والنفوذ في المجتمعات. لم يكن كافيا لطموحهم القاتل أن يملكوا كل سلطان الحكم المطلق بكل أساليبه وأجهزته وكبرياءه، بل إنهم يريدون أن يسرقوا من جميع الطبقات والطوائف كل ما في يدها من تاريخ ومال ونسب ومجد وكبرياء وأحزان وأرض، بل وذكاء وتفكير وكلام وأنين وشكوى، ليملكوا هم كل ذلك، لأنهم يريدون أن يملكوا كل شيء. لقد سلبوا مجتمعاتهم جميع ما تملك من أشياء وقيم تحت شعارات العدل والإنسانية وملكية الشعب لوسائل الإنتاج وإزالة الفروق والقضاء على الطبقية، وكان قصدهم أن يمتلكوا هم كل ذلك لا أن يهبوه المحرومين والمظلومين، إنهم يأخذون من الذين يملكون، ولكنهم لا يعطون الذين لا يملكون. لقد كانوا يريدون أن يحطموا كل الآلهة الصغيرة الضعيفة المتفرقة التي تملك مخاطبته، فكيف يمكن نقده أو تخويفه أو الأخذ منه ـ لقد كانوا يكررون ما حدث ذات يوم في التاريخ حينما قال الناقدون لما حدث: ( أجعل الآلهة إلها واحدا؟ إن هذا لشيء عجاب). وإنه لخير للبشر أن يعيشوا في مجتمع فيه عديد الآلهة الضعيفة التي يخاف يعضها من بعض وينافس بعضها بعضا من أن يعيشوا في مجتمع يستبد به إله واحد لا حد لقدرته.
لقد كانت عملية تجميع وتضخيم باهظة التكاليف، كانت تجميعا لكل البنوك في بنك واحد، ولكل الأنانيات والأحقاد في حقد واحد وأنانية واحدة، ولكل الأيدي الضاربة في يد واحدة لا مثيل لها في قدرتها على الضرب والتدمير والإذلال. إنهم يريدون أن يحولوا كل شيء إلى هبة منهم حتى العمل والقدرة على العيش.
كانوا يلعنون الطبقات القديمة ويشنعون عليها لأنها كانت تملك بعض المجتمع: تملك بعض ناسه وأفكاره وقدرته وجاهه وإنتاجه وثروته، وتتصرف في هذا الذي تملك بالشهوة والمصلحة والاستبداد والغرور، ولكنهم قد أصبحوا بعد انتصارهم يمتلكون بأقسى وأطغى أساليب الامتلاك كل المجتمع، كل ما فيه من ثروات وإنتاج وقدرة وأفكار وعلم ومجد وكرامة وحرية وتاريخ وبشر، ويتصرفون فيه أوقح أساليب التصرف لمصلحة أهوائهم وطموحهم وتوترهم وتوطيد قوتهم ـ بالمجتمع كله يتاجرون ويغامرون ويناورون ويحاربون ويرشون ويبيعون ويشترون ويهددون، بل وشاتمون الآخرين ويفاخرونهم ويكاثرونهم بهذا المجتمع، بكل أشيائه وناسه، يحلون كل شيء إلى معاملة من معاملاتهم التي يبحثون بها عن المجد أو عن الجنون.
يفعلون كل ذلك دون أن يوجد لسان واحد يجرؤ على أن ينكر أو يسأل، أو فكر واحد يصدم أو يتململ، بل هل هتاف كل الأجهزة لهم ، مع هتاف كل مفكر وكاتب وأستاذ وعالم وأديب وفنان وراقص، وهتاف كل طبقة وطائفة، بل مع هتاف كل الآلهة والأنبياء لهم من فوق المآذن والمنابر والآيات والأحاديث التي تتلى وتفسر ثناء عليهم وتأييدا لما يفعلون، حتى لقد أصبح ذلك الفساد القديم الذي هزم تحت جبروت هذا الفساد الجديد نوعا من المثالية المرحومة في تقدير بعض الناس ونوعا من الترف في خيال هذا الفريق وأمانيهم أن ينتظروا عودة ذلك الإثم القديم ليكون كفارة بذيئة في تقديرهم عن هذا الذي يلقون ويشاهدون من هؤلاء الطغاة المحررين!
ويقول:
إن تكاليف عرس واحد كبير من أعراس الآلهة لتفوق ما يسرقه الألوف من اللصوص المدربين، ربما في حياتهم كلها. ويذهب ما يأخذون أيضا ثمنا للتخريب والعجز الذي يصيب أي عمل يسيطر عليه هؤلاء الطغاة وأجهزتهم الجاهلة المغرورة.
كم أشك في قيمة الإنسان حينما أجد هذا الطغيان الجديد قد حول كل شيء إلى فقر وهوان وتفاهة ووثنية ـ حوّل الأغنياء الأعزة إلى فقراء وأذلة، وحوّل الأذلة الفقراء إلى أقل من فقراء وأذلة، وحوّل المفكرين إلى غير مفكرين، إلى منافقين وتافهين، وحوّل الصحافة إلى عار، وحوّل رجال الدين إلى عبدة أصنام، بل حوّل الكتب المقدسة إلى شروح للوثنية وإلى هتافات للطغيان والأكاذيب، حتى كأن الأنباء جميعا لم يبعثوا إلا للتبشير بهؤلاء الثوار الطغاة، وللتحدث عن مزاياهم، وكأن الآلهة لم تخلق الكون وتمارس أعمالها إلا ترحيبا بهم وتحية لهم، وحتى كأن جميع المنابر لم ترفع إلا لإلقاء الخطب الضارعة تحت أقدامهم.لقد وضع رجال الدين كل الآلهة، و ووضع المفكرون والأساتذة كل التفكير والمذاهب والنظريات، ووضع العلماء كل العلم والقوة، ووضع العمال والجنود كل العمل والدماء والعرق ـ وضع كل هؤلاء كل هذا تحت أحذية هؤلاء الطغاة ليحولوه إلى جنون وطعام لأهوائهم وطموحهم الفاسق القاتل السارق.
يتبع.../...