تقفيل دور الدومينو
كمال غبريال
أحب أن أوضح في بداية هذه المقاربة، أنني أرحب من قبيل الواقعية، بل وأطالب بالاستبداد في هذه المرحلة من تاريخ مصر. نظراً لفشل وفساد النخبة السياسية والثقافية، وخواء فكر الشباب، وانعدام الوعي السياسي لدى عموم الجماهير. لكن الواقعية لا تعني الخضوع للأمر الواقع والسباحة مع التيار، أو اللعب على كل الحبال الموجودة، أو عمل توليفة غير قابلة للإئتلاف، من مكونات شديدة التعارض، بل والتنافر. هي توظيف حقائق الواقع، وإعادة تشكيلها، والدخول بها في ديالكتيك، يؤدي في النهاية لتحقيق واقع أكثر تطوراً. ومن الطبيعي هكذا أن أكون ضد الاستبداد الجهول، الذي لا يعرف غير القبض على مقاليد الأمور بأي ثمن، فيقودنا بجهالة إلى المزيد من التخلف الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والسياسي. بوضوح أظن أن مصر الآن تذهب في طريق مظلم، في معية مستبدين يضعون نصب أعينهم المحافظة على كراسيهم، ومستعدون في سبيل ذلك حتى للتحالف مع ذات الشياطين، التي أتوا هم للسلطة عن طريق التخويف منها، وبدعوى إنقاذ البلاد من بين براثنها.
يبدو أن الانتخابات الرئاسية المصرية، ستتحول إلى استفتاء، على شخصية واحدة وحيدة، نتيجة للإحجام عن الترشح، وهي فضيحة مستحقة. فقد تم عمداً "تقفيل دور الدومينو"، لنصل إلى هذه النهاية. وهذا لا يعني أن ما يحدث هو المصير المحتوم، الذي كان ولابد أن تنتهي إليه الأمور، أو أنه لم يكن في الإمكان أبدع مما هو كائن. هناك الآن مرشح رئاسي وحيد، نتوسم فيه المقدرة على الخروج بمصر ورطتها. وقد كان يمكن أن يكون هناك أكثر من مرشح، لو التزم المشير/ عبد الفتاح السيسي بمنصبه كوزير للدفاع، ليعطي آخرين، مثل الفريق/ أحمد شفيق، فرصة حقيقية للترشح والفوز. وكان يمكن عندها أن ينزل لساحة التنافس أكثر من مرشح مدني مؤهل، مثل د. حسام البدراوي ود. محمد غنيم وغيرهما. نحن إذن من نحشر أنفسنا في زاوية ضيقة مسدودة، لكي ينحصر الخيار أمامنا بين المنقذ والشياطين. وما سمعناه من التسريبات الأخيرة لحديث الفريق/ أحمد شفيق حول ترشح السيسي، هو انعكاس لحالة "سد المنافذ" هذه، وأظن أن الفريق/ أحمد شفيق يستشعر الآن الشكر والعرفان لمن قام بهذه التسريبات، فقد أتاح له وصول رأيه للشعب المصري، ما كان يستحي أن يعلنه رسمياً، وما يتضمن رسالة ينبغي أن تصل الشعب المصري، ولو من قبيل إبراء الذمة. على مثال ما يفعله كاتب هذه السطور، بمثل هذه المقاربة!!. . نقول هذا رغم اعترافنا بجدب الساحة المصرية من السياسيين المحترمين، والمعروفين في نفس الوقت شعبياً، بما يتيح لهم فرصة لدخول أي انتخابات، حتى لو انتخابات برلمانية.
جذر المشكلة مع الأسف، هي أن الحرية تحتاج إلى أحرار، كما تحتاج الديموقراطية إلى ديموقراطيين. فهكذا يكون الحديث في مصر، على ضوء المعطيات الراهنة، عن الحرية والديموقراطية ضرباً من العبث. في البداية سخرنا من هتاف "يسقط حكم العسكر"، باعتبار أن القائد العسكري الذي يخلع زيه العسكري، يصير مدنياً مثلنا جميعاً. الوضع الآن في مصر يختلف، فما يظهر يشير إلى قدوم السيسي "بالمؤسسة العسكرية"، وليس "من المؤسسة العسكرية". هناك فارق كبير، بين توظيف القيادات السابقة للقوات المسلحة في المواقع المدنية، للاستفادة من خبراتهم وقدراتهم الإدارية، وبين حكم "المؤسسة العسكرية" للبلاد، وسيطرتها على الحياة السياسية والاقتصادية. وأغلب الظن أن "العسكر" سيصحبون معهم السلفيين والأزهر، وربما الإخوان المسلمين أيضاً. يحدث هذا دوماً في البداية، أن يوظف المستبد رجال الدين، ليكونوا عكازاً يستند إليه. مع الوقت يتحول المستبد إلى سيف، يسلطه رجل الدين على رقبة الشعب.
الحقيقة أن خيار الشعب المصري الآن ثلاثي وليس ثنائياً. فهو ليس فقط بين الاستبداد الديني وبين الاستبداد العسكري، فهناك خيار ثالث، هو فاشية الغوغاء والفوضويين ومهاويس اليسار والعروبة. لكن النشاط الإرهابي لجماعة الإخوان، يعطي الصراع الآن طابعاً ثنائياً. أعتقد أن أحد عوامل استمراء جماعة الإخوان المسلمين لممارساتها الإرهابية، هو استشعارها التردد والميل للمهادنة، لدى الممسكين بالسلطة الآن. وتنحصر المشكلة التي تؤخر ما يسمونه وفاق ومصالحة، في أن جماعة الإخوان الإرهابية، بعدما كانت قد استولت على مصر بكاملها، ترفض حتى الآن محاولات إقناعها بقبول "جزء من التورتة"، كما فعل السلفيون، الذين صاروا الآن شركاء يحسب حسابهم. أتوقع أن تجبر الأيام الجماعة الإرهابية على القبول. فالأيام دول، والشعوب مثل شعوبنا قطعان تساق إلى حيث يشاء مالكها. ربما الفارق بين موقف السعودية والإمارات والبحرين، وبين وموقف مصر من "إخوان الإرهاب"، يرجع إلى أن السعودية والإمارات والبحرين تحكمها عائلات مالكة، توحدت مصالحها الشخصية مع مصالح أوطانها، وبالتالي يتوجهون باستقامة لدرء أي خطر على الأوطان. أما مصر فيتبادل حكمها شرازم بلا هوية ولا فكر ولا إخلاص، وكل ما يهمهم هو اللعب بأي أوراق تحقق لهم ما يتصورونه مكاسب شخصية.
أظن أن محاولة إعادة "دور الدومينو" إلى نقطة البداية، غير مفيد في المستقبل القريب، مادامت مقومات الواقع على الساحة المصرية، والتي أدت إلى ما وصلنا إليه، لم تتغير بالقدر الذي يبشر بنتائج مختلفة. الثقافة العشوائية هي الأساس لكل أشكال العشوائية في حياتنا. وما نسميه أحياء عشوائية، نجد مثيلاً لها في سائر مناحي حياتنا ومؤسساتنا، وفيما نتخذ من قرارات، قد نسميها مصيرية. فالثقافة المصرية يغلب عليها الخنوع والتواكل والخرافة والاستنطاع والتسول والفهلوة. فقط عندما تتغير هذه الثقافة، يمكن أن نحقق لأنفسنا حياة أفضل. نعم نحن الآن نعود لعصر مبارك تدريجياً، بعد كل ما منينا به من خسائر في الأرواح ومقدرات الحياة. ليس لأن رجال مبارك أو "فلوله" كما يقولون هم المسيطرين أو سوف يعودون، ولكن لأن عصر مبارك كان عصر الشعب المصري، الذي لم تطل الثورة "إلا قليلاً"، رؤيته للحياة ولا سلوكياته. الشعوب التي لا تستطيع إلا أن تزحف على بطونها، قد تخرج من حفرة، لتسقط في هاوية. لست أبداً من المتشائمين، فأنا أبحث طول الوقت عن ومضة أمل، تبعث على التفاؤل!!
المصدر ايلاف