تلقيت دعوة كريمة من السيد رئيس حزب الوفد لحضور مؤتمر جماهيري يوم الأحد 8 أغسطس تحت عنوان «لا انتخابات حرة بدون ضمانات حقيقية». مرفق بالدعوة تصور لهذه الضمانات، في صورة تعديلات مقترحة علي «قانون تنظيم مباشرة الحقوق السياسية». وكانت هذه المقترحات قد نوقشت خلال الأيام الماضية في اجتماع لأحزاب الائتلاف الأربعة، ويبدو أنها كانت محل اتفاق بدرجة كبيرة.
ملاحظتي ليست علي «الضمانات»المقترحة، بصرف النظر عن أن بعض أعضاء هذه الأحزاب يرون أنها أدني من أن ترقي لمستوي «ضمانة»، وأدني حتي من مطالب صدرت عن اجتماعات مشتركة سابقة للأحزاب. ولكن ما يستلفت النظر هو فكرة البحث عن «ضمانات»، حتي لو وصفت بـ «حقيقية»، فلا توجد أصلا "ضمانات" توصف بأنها غير «حقيقية»، وإلا ما سميت «ضمانات».
تري هل بالفعل توجد «ضمانة» «حقيقية» -بصرف النظر عن نوعيتها- يمكن تقديمها خلال ذلك الوقت القصير المتبقي قبل «الانتخابات» (3 أشهر)؟ وهل يوجد علي الجانب الآخر من بإمكانه تقديم هذه «الضمانات»، بصرف النظر عن توقع الوفاء بها؟ وهل يمكن تحويل «انتخابات» غير حرة إلي «حرة» من خلال مجموعة «ضمانات» فنية، في ظل غياب الإرادة السياسية؟ وهل ما يجري الإعداد له يمكن أن ينطبق عليه تعبير «انتخابات»، في ضوء ما جري في «انتخابات» المجالس المحلية العام الماضي، و«انتخابات» مجلس الشوري منذ 3 أشهر، والتي كانت فعليا عملية «تعيين» -بما في ذلك لبعض ممثلي أحزاب المعارضة- ولكن من خلال اتباع بعض الإجراءات الفنية الشبيهة بما يجري في «الانتخابات» لإضفاء المشروعية الشكلية عليها.
من جانب الطرف الباحث عن «الضمانات»، يستلفت النظر أن أحزاب المعارضة لم تسع لتعبئة أي ضغوط خلف مطالبها، بحيث تجعل الطرف الآخر يأخذ مطالبها بجدية، بحيث إذا لم يستجب ولو لبعض مطالبها، سيضطر لدفع ثمن باهظ. فحتي التلويح الإعلامي بمقاطعة «الانتخابات»، سرعان ما تساقط مثل أوراق الشجر في الخريف -رغم أن فصل الخريف لم يحل بعد- وأعلن حزبان علي الأقل أنهما سيخوضان «الانتخابات» حتي لو لم يقدم نظام الحكم أي ضمانة! ومن المتوقع أن يحذو حذوهما الحزب الثالث، بينما أعلن حزب الجبهة مسبقا اعتزامه المقاطعة.
ورغم الجهد القانوني والسياسي المبذول في وضع وصياغة «الضمانات» المطلوبة، فإنها -في غياب أي ضغوط «حقيقية»- تبدو أقرب لطلب «عرضحال» غير مستوف أو بدون دمغة.
تقول الأحزاب التي أعلنت عدم المقاطعة، إن «مقاطعة» الانتخابات بمثابة انتحار سياسي، رغم أن واقع الأمر أن نظام الحكم منذ يوليو 52 هو الذي «يقاطع» الانتخابات. فلم تعرف مصر خلال 58 عاما «انتخابات» واحدة حرة ونزيهة وشفافة، بالمعني المتعارف عليه حتي في بعض دول العالم الثالث.
إن الذين يدعون للمقاطعة، هم في واقع الأمر، يدعون لمقاطعة «التعيين»، الذي يطلق عليه زورا «انتخابات»، أيا كان هذا التعيين رسميا -كما يحدث مع قيادات بعض الأحزاب الذين يعينهم الحزب الحاكم في مجلس الشوري- أو «انتخابيا»، علي النحو الذي أخذ صورته الأكثر تبلورا في «انتخابات» المجالس المحلية ومجلس الشوري الأخيرتين، والذي سيتواصل في «الانتخابات» البرلمانية القادمة.
إذا افترضنا جدلا أن النظام الحاكم قد وافق علي هذه «الضمانات»، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو: ما القيمة الفعلية لهذه «الضمانات» في ظل ما نعرفه عن أن النظام لا يحترم «ضمانات» أرقي وأعلي مرتبة بكثير مثل «الضمانات» التي ينص عليها الدستور ذاته، ومثل أحكام القضاء النهائية واجبة النفاذ، ومثل التعهدات التي قطعها رئيس الجمهورية علي نفسه في برنامجه الانتخابي منذ 5 سنوات، وعلي رأسها إنهاء حالة الطوارئ، ومثل التعهد الذي قطعه رئيس الجمهورية علي نفسه طوعيا منذ نحو 10 سنوات بإلغاء عقوبة حبس الصحفيين؟ وغيرها.. وغيرها.
تري هل يعتقد قادة أحزاب المعارضة فعلا، أن مجرد قبول نظام الحكم "الضمانات"
-إذا قبلت- يعني أنها ستنفذ؟ أم يعتقدون أن «ضماناتهم» أعلي مرتبة من الدستور وأحكام القضاء وبرنامج الرئيس وتعهداته الشخصية؟!
السؤال الثاني يتعلق بهوية «الضامن» لـ«ضمان» تنفيذ «الضمانات». في ظل الغموض الكثيف الذي يسيطر علي مستقبل النظام السياسي، وعدم وضوح هوية مرشح الحزب الحاكم في "الانتخابات" الرئاسية القادمة، حتي بلغ الأمر أن تتواجه في نفس الوقت حملتان، واحدة لإعادة ترشيح الرئيس، والثانية لترشيح ابنه عن ذات الحزب الحاكم!
إن مؤشرات الصراع العصيب بين مراكز القوي داخل النظام الحاكم بدأت تطفو علي السطح، بعد أن ظلت مكتومة لسنوات، وما الرئيس وابنه -مع كل الاحترام- سوي رمزين -غير متصارعين- لأجنحة تتصارع بضراوة -قد تطفو علي السطح في أي لحظة- علي مستقبل النظام الحاكم، وعلي طبيعة ركائز مشروعيته السياسية، والتي لن تكون بأي حال امتدادا بسيطا لنظام يوليو، الذي سيكون الرئيس مبارك آخر حاكم يستند لمشروعيته، حتي لو كان الحاكم الجديد ذا خلفية عسكرية.
في ظل هذا الغموض، وهذا الصراع الضاري، يتجدد السؤال عن هوية الجناح الذي تعتقد أحزاب المعارضة أنه الأقوي والأبقي -أي «الضامن» «للضمانات»- وبالتالي ستتوجه بعرضحال «الضمانات» إلي ممثليه، وأنها لن تتوجه إلي أشخاص ربما قد يحتاجون قريبا لـ«ضمانات»، أو لمن "يضمنهم" لكي لا يقضوا ما بقي من عمرهم في السجون، أو لمن "يضمن" لهم اللحاق بالطائرة قبل فوات الأوان.
من الضروري ملاحظة أنه علي الرغم من أن الرئيس الراحل أنور السادات كان أحد أبرز قادة ثورة يوليو، وهو الذي أذاع بنفسه بيانها الأول علي الشعب، والنائب الوحيد للرئيس عبد الناصر قبل وفاته، فإن ذلك لم «يضمن» له انتقالا مريحا للسلطة. بل تحدي سلطته عدد من أبرز أركان النظام في أجهزة الدولة وحزبها الحاكم بعد أيام قلائل من توليه الحكم، حتي حسم هو هذا الصراع بعد عدة أشهر. أخيرًا.. تبدو «الضمانات» المطلوبة مجرد «محلل» مزدوج الوظيفة، ومتعدد المكاسب مقطوعة الصلة بـ«انتخابات حرة». فهي «تحلل» لأحزاب المعارضة -أمام الرأي العام- المشاركة في «انتخابات» يعرف الجميع أنها ستكون الأسوأ والأوضح والأقرب للتعيين منها «للانتخابات«! بحيث تستطيع أن تزعم هذه الأحزاب للرأي العام أن المسئولية تقع علي النظام الحاكم، لأنه لم يوافق علي كل «الضمانات»، أو لأنه لم يف بوعوده بشأن بعضها أو كلها. ومن ناحية أخري «تحلل» للنظام الحاكم تجديد شرعيته القانونية الشكلية، من خلال مشاركة عدد من أحزاب المعارضة، بحيث تخفي حقيقتها كعملية اغتصاب لشرعية تمثيل الشعب بقوة «الانتخابات». وهي أخيرا «تحلل» للمجتمع الدولي الاستمرار في دعم النظام الحاكم، رغم إجرائه "انتخابات" لا تقل تزويرا عن مثيلاتها في زيمبابوي وإيران، ولكنها تعفي المجتمع الدولي من اتخاذ أي إجراء مشابه لما اتخذه مع الدولتين، طالما أن المعارضة المصرية باركتها وأضفت المشروعية عليها مقدما. باختصار الكل كسبان، تمثيل شكلي أوسع لأحزاب «المعارضة» الرسمية، وتجديد قانوني شكلي لشرعية النظام، وضمان الغرب استقرار مصالحه. الخاسر الوحيد «المضمون» هو الشعب المصري.