المؤامرة والتراث (3-1)

سامح عسكر في الأحد ١٦ - فبراير - ٢٠١٤ ١٢:٠٠ صباحاً

صنفان من الناس يتصارعان الأول يرى ما يقوم به الثاني جزءاً من خطة تدميره، والثاني يرى الأول كائن طبيعي مختلِف، رغم أن النتيجة واحدة وهي أن الطرفين على صراع ربما يكون حاد وعنيف ، وربما يصل لأقصى مستوياته وهي الحرب، وما يُؤخذ على الأول أنه لم يفطن إلى حقيقة خلاف الثاني وأصرّ على أن يراه دون مشروعية مشاركة، فيحكم عليه بالزيغ والضلال عن الحق، أياً كان هذا الحق أيدلوجياً، لأن منطقه هو المؤامرة، فيعتقد بضرورة هذا الصراع وبهذا الشكل كصراع أبدي بين الحق والباطل.

هذا الصنف من الصراع هو تراثي أيدلوجي في المقام الأول، وهو الذي يُنتِج المؤامرة وتصل في بعض الأحيان إلى حد الهَوَس، فالأديان والمذاهب والأعراق والنماذج والقوميات كلها أشكال أيدلوجية تُجبر معتنقيها على الاعتقاد بالمؤامرة، ذلك لأن هذه الأشكال يدور الصراع فيها بين الحق والباطل لا بين الصواب والخطأ، وهنا الفارق، فالصراع بالأساس هو فن وأداة من أدوات التواصل وليس حالة أبدية صِدامية بين البشر ، والدليل على ذلك أن العديد من الصراعات تحدث ثم يكتشف الإنسان بعد ذلك أنها كانت قائمة على أوهام، وأن الخطأ في التواصل هو الذي انتقل بالصراع من مفهومه الفني إلى مفهوم الصِدام الأبدي بين الحق والباطل، وتلك هي القاعدة التي تؤسس لمنطق ونزعات المراجعة.

هذا ما أراه من المؤامرة أن الذين يعتقدون بها في الغالب يرون الحياة بمنظور تُراثي أيدلوجي، والعقلية التراثية هي الترجمة للعقل البدائي، فيعود الإنسان إلى ذكرياته الأولى وصراعه مع الكائنات الحقيقية والخُرافية ، كالحيوانات والآلهة والعفاريت، ويظهر هذا العقل البدائي بقوة في المجتمعات التي ينتشر فيها الجهل، كمن يُفسّر حركة غريبة في البيت بوجود عفريت، أو أن مرض فلان هو نتيجة لمس شيطاني، أو أن الحيوان كذا هو مُكلّف من الآلهة بالدفاع عنه، أشكال متعددة من وهم العقل البدائي، تُترجم هذا الوهم على شكل صراع أبدي يكون فيه الإنسان عنصر أساسي.

هذا ليس نفياً لوجود المؤامرة بالمُطلق، هي موجودة ضمن خُطط مواجهة وصراع وليست ضمن خُطط تهدف إلى الحصار والإفشال والتعجيز، أي أن الفارق هو في تفسير مادة الصراع بالأساس وليس التركيز على سلوكيات الآخرين والانشغال بأهدافها ونتائجها.

أضرب مثلاً على ذلك أن من يعتقد في أن قناة الجزيرة هي ضمن خُطة لإفشال الثورة المصرية وتعمل في سياق تمكين جماعة الإخوان، وأنها تعمل لخدمة الغرب الذي يهمه إخراج مصر من المعادلة وهدم الدولة...إلخ ،هذا الاعتقاد هو عن منطق المؤامرة القائم على أن هناك صراعاً أيدلوجياً بين الدولة والشعب المصري وبين جماعة الإخوان ومن يقف خلفها من الجهات الغربية، وهو صراع بين الحق والباطل غير مسموح بتجاوزه، هذا التفسير يعتمد على الربط بين حالة قائمة وحقيقية-وهي الصراع الأيدلوجي والتراثي-وبين تفسير ظني متوهم لتلك الحالة، بيد أنها لم تضع ذلك الصراع في مكانه الطبيعي وهو أن قناة الجزيرة هي أداة دعائية لخدمة الأصولية الدينية السنية، وهي بتلك الحالة منذ أن ظهرت في الأفق الإعلامي.

وبالتالي فهي ستتحالف مع أي نظام أو حكومة تخدم تلك الأصولية، والدليل أن القناة تخدم كل من ينتمي لتلك الأصولية أو يعمل في نطاقها وليس فقط جماعة الإخوان، فنراها دعمت-في زمن الاحتلال الأمريكي-حركات المقاومة العراقية السنية وغضت الطرف عن الشيعية، ولكنها في نفس الوقت دعمت حزب الله في حرب لبنان 2006 ليس كونه شيعياً بل كونه يخدم الأصولية السنية التي ترفع شعار المقاومة ضد إسرائيل، وهذه معضلة فكرية أخطأ البعض في تفسيرها منذ ذلك الزمن وإلى الآن، وبها كثير من التشابكات والاعتراضات، من ضمنها كيف لقطر أن تدعم المقاومة وهي تتعاون مع إسرائيل في نفس الوقت، وهل كانت القناة مع المقاومة أصلاً حقاً أم أنها مع الأصولية حتى لو كانت مع إسرائيل؟..وهل حزب الله يختلف عن تنظيمات الشيعة المقاومة ضد الاحتلال الأمريكي في العراق كي تدعمه وتتجاهل الآخرين؟

في تقديري أن هذه التشابكات والاعتراضات هي رؤية سياسية للعائلة الحاكمة في قطر أكثر من كونها تُدار بنظريات سياسية وإعلامية واضحة، أي كان الميول الشخصي هو الحاكم في تنوع هذه العلاقات، فالقطريون لم يكونوا على علاقة طبيعية مع حكومات ما بعد صدام في العراق، ولكنهم كانوا على علاقة مميزة مع حكومات لبنان، وهذا يكشف أن الدعم القطري لحسن نصر الله كان لأنه جزءاً من السياسة اللبنانية، وكونه حلقة في خدمة الأصولية السنية التي تشترك مع الشيعية في بعض الأهداف هي على مائدة القناة الإعلامية وتجعلها مسار تحقيق دائم.

ومن أمثلة هذه الأهداف موضوع الخلافة الإسلامية والشريعة والحرب مع اليهود ومع الاستعمار وتمكين الإسلام من المجتمع، كلها أهداف مشتركة للأصولية السنية والشيعية معاً، ولو رأت القناة أن فصيلاً لن يخدم هذه الأصولية فلن تدعمه وتبدأ في تكوين خطاب إعلامي يكشف الخلافات بهدف إخراج طرف ما من المعادلة، مثال ما فعلته مع حزب الله حيث كانت تصفه.."بحزب الله اللبناني"..ولكن فور اعتقادهم بأن حسن نصر الله وحزبه لن يخدموا أصوليتهم السنية قاموا بتغيير الصفة إلى.."حزب الله الشيعي"..ثم تعود القناة للصفة الأولى فور شعور محرريها بالحاجة للحزب، وهذه سياسة إعلامية رغم أنها مفضوحة إلا أن القائمين عليها يعتمدون على خيار المال والسياسة في دعم القناة، لذلك فالربط بين القناة والسلطة القطرية وأموالها هو ضرورة لمن يريد فهم خطاب قطر وإعلام الجزيرة بشكلٍ عام.

نفهم من ذلك أن صراع الجزيرة مع مصر أو سوريا أو العراق ليس بالضرورة عن وجود حالة مؤامرة، بل هو في خدمة الأصولية السنية، فما كان للقناة ولدولة قطر أن تدعم ثورة يناير المصرية إلا أنها رأت في أن الثورة المصرية هي ثورة أصولية وكذلك في تونس وسوريا وليبيا، ولم تنكص وترتد على أعقابها إلا بعد شعورهم بالخطر على مشروعهم الأصولي،أما من يبحث في من المستفيد ومن الذي يدير هذه القناة ومن يُعطي التعليمات ومن الذي يهمه أن تكون الأوضاع بهذا الشكل.. فهو جنوح عن حقيقة الصراع، وكونه ذات طبيعة فنية وأداة تواصل بين الجميع، وسيجري تفسير أي حدث مضاد للأهداف الذاتية بأنه مؤامرة من كذا وكذا من أجل كذا وكذا وعن طريق كذا وكذا..

اجمالي القراءات 9476