الإرهاب وحديث إنما الأعمال بالنيات

سامح عسكر في السبت ٢٥ - يناير - ٢٠١٤ ١٢:٠٠ صباحاً

هل الأعمال بالظواهر أم بالنوايا؟.. كيف نُحاسب على الأعمال وتكون الحُجة عليها ما خفي في النفوس ؟..وهل لنا أن نعلم ما في النوايا كي نقول أن أعمالنا بالنوايا؟..وإذا كانت الأعمال بالنوايا بالنسبة لله فكيف يتدخل الإنسان فيما لا يعلم؟..وهل كل النوايا الحسنة تأتي بالأعمال الصالحة؟..فإذا لم يكن فلماذا قال الرواة.."إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئٍ ما نوى"..والمعنى أن المرء يُثاب على نيته إذا كانت حسنة، فلماذا نحكم على الإرهابيين بالضلال حين يقتلون ويذبحون الناس وهم في دواخلهم يبغون مرضاة الله والفوز بالجنة؟..أليس قولنا أن الأعمال بالنوايا هو تشريع لأي عمل فاسد بنية صالحة؟

أزمة كبيرة أحدثتها رواية منسوبة للنبي سجلها البخاري في صحيحه حيث قال: حدثنا الحميدي عبد الله بن الزبير حدثنا سفيان حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري أخبرني محمد بن إبراهيم التيمي أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي يقول سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على المنبر
قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

" إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه"

وفي سنن أبي داوود : حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان حدثني يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم التيمي عن علقمة بن وقاص الليثي قال سمعت عمر بن الخطاب يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

" إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه"

واللفظ كذلك في سنن ابن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة عن يحيي بن سعيد عن محمد بن إبراهيم عن علقمة عن عمر بن الخطاب، وكما هو واضح فالحديث آحاد من طريق واحد مشهور في زمن متأخر بعد يحيي بن سعيد الأنصاري المتوفي عام 144 هـ، وهذا يعني أن الحديث آحاد مشهور، ولكن بشيوعه أخذ مبلغ التواتر عند البعض حتى وضعوه في عشرات الأبواب الفقهية، حتى تسلل هذا الحديث إلى نفوس المسلمين بعد تسجيل الحديث كمصدر ثانٍ للتشريع في زمان الشافعي.

الحديث كذلك موجود في مسند الحميدي برواية بشر بن موسى المتوفي عام 288 هـ، وهذا يعني أن الحديث من طُرق الحميدي وابن أبي شيبة وسجله البخاري في كتابه كعلامة على شيوعه في ذلك الوقت، ولكن ما يهمني أن أسماء الرواة الذين نقلوا الحديث تدل على أن ثمة غرض فقهي وعقدي كبير من وراء هذا النقل، حيث جميع الأسماء وأصحاب الطرق كانوا من خصوم مدرسة الكوفة وأهل الرأي في العراق، وهي المدرسة المشهورة لدينا بالأحناف، ورأينا في السابق كيف أن البخاري ألّف كتابه للرد على الأحناف، وأن شيوخ البخاري كانوا بين مُكفّرٍ ولعّانٍ لأبي حنيفة، فلا عجب بعد ذلك أن يكتبوا هذا الحديث وأن الأعمال بالنيات وأن لكل امرئٍ ما نوى، ثم يقتلون الناس ويُكفّروهم ويشتموهم طالما أن نواياهم كانت صالحة وباسم الدفاع عن الدين.

رأينا أن الإرهاب في مجتمعاتنا ينتشر باسم الدفاع عن الدين، وأن المرء يُحشر على نيته، وأنه طالما كان مجتهداً في بيان الحق فلا خوف على مصيره مهما فعل، هكذا خدع هذا الحديث عموم المسلمين، ولكن السلف من الأحناف قد افتطنوا لخطورة هذا الحديث ورفض بعضهم ما جاء في متنه وحُجتهم أنهم يشترطون فساد العقد بما جاء في العقد نفسه، وليس للنوايا دخل بذلك، بخلاف ما جاء في الحديث أن النوايا يمكن أن تصلح أو تفسد وغير هذا يفتح محلاً كبيراً للنزاع...وقد حدث.

الأصل في الأعمال أن الأحكام لا تصح إلا بالظواهر، لأن ما خفي في القلوب كان في علم الله، فكيف تكون الحجة للأحكام وأدلتها مخفية؟.. هذا دليل عقلي وشرعي ينقض فكرة الحديث من أساسه، وفي تقديري أن الحديث مخالِف لهدي القرآن الذي قال فيه سبحانه على لسان سيدنا نوح عليه السلام:

ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن الظالمين [هود 31]

سيدنا نوح يضرب مثلاً بخُلق التعامل بأنه لا يرى إلا ما بدر منهم، وأنه لا شأن له بما في أنفسهم كي يطمئنوا له، وأن الكلام في النوايا ليس من شأن البشر، لذلك فحديث النوايا ككلمة الحق التي أريد به الباطل، نعم النوايا لله، ولكن ليست الأعمال بالنيات ولكن بالظواهر، وياسبحان الله فقد ساد هذا المنطق العملي بين البشر الآن، حتى أن القوانين لا تحاسب الإنسان إلا بما بدر منه، وأن الكلام في النوايا كمن يريد استحلال عمل ما بنية فاسدة أو العكس.

معلومة هامة أن من سجل حديث.."إنما الأعمال بالنيات".. هو البخاري بعد 200 عام من وفاة الرسول، وقال أن الحميدي حدثه بذلك..كذا فالإمام أبو حنيفة لم يكن يعترف بمثل هذه الأحاديث وقال أن الأحكام تجري مجرى الظواهر والأفعال لا النوايا حتى لو كانت حسنة، وقد رفض بعض أئمة الحديث كمسلم والنسائي والترمذي وابن حبان الحديث حتى مالك لم يكتبه في موطأه، ولم يدونه سوى البخاري وابن ماجة وأبي داوود، وهذا يعني أن الحديث ليس محل اتفاق، فكيف تسلل هذا الحديث الخطير في أبواب الفقه حتى بات أصلاً يُستدل به على الكذب والتقية والإرهاب.

لو كان المعنى من وراء الحديث هو إخلاص القول والعمل لله فالمعنى صحيح، ولكن الحديث يحكم بإطلاقية النوايا في شأن الأعمال وأن لكل امرئٍ ما نوى، أي له حظ من نيته سواءً حسنة أم سيئة..وهنا السؤال المعضل..كيف نحكم بأن العمل صالح أو فاسد؟..هذه أمور نسبية..فلو قلنا بأن الإرهابي يقتل وهو يعتقد في فعله الصواب وأنه سيدخل الجنة، فهو يفعل ذلك بناءً على اعتقاده بأن نواياه كانت حسنة، وأنه مأجور على فعله وإن أخطأ..أما بالنسبة للآخر فما فعله الإرهابي هو جريمة..كيف سنحل هذا الإشكال الذي صنعه الحديث، بل وفي تقديري أن حديث.."إنما الأعمال بالنيات"..هو وراء كل جريمة باسم الدين.

سيقولون أن الخلل ليس في الحديث إنما في النوايا، قلت هذا رجلُ قتل باسم الجهاد كيف نقول أن العمل يوافق الشرع؟.. سيقول الرجل يتفق وسيقولون لا يتفق، والأصل أن الحديث هو مدار النزاع، بعدما تخرب مالطة ويُقتل الملايين بزعم الجهاد والنوايا الحسنة، هكذا كان السلف من الأحناف هم أبعد نظراً وأثقب رؤية، فبمجرد قولهم أن الحُجة على الأفعال هي الظواهر ،هو تشريعُ لدولة القانون، التي لا يظهر منها سوى الأعمال الظاهرة ولا تُحاكم أحداً على النوايا فهي في علوم النفس الكامنة.

حتى أن روح القانون التي جعلت مقادير العقوبة متسقة مع النوايا-مثال القتل العمد والقتل الخطأ-فيأتي بعد استبيان القاضي بدليلٍ دامغ وظاهر، أي أنه في المضمون يحكم عن عمل وليس مجرد نية لا يعلمها، فمن يصدم أحداً بسيارته ويقتله كان العمد وراء فعله منتفياً وإلا تعقّب الضحية حتى قضى عليه، بينما القاضي ينظر ..فإذا ظهر أنه لم يكن متعمداً ضحيته كانت جريمته هي القتل الخطأ..وهكذا، أي أن القانون لا يؤمن سوى بالظواهر التي يعرفها البشر ويغض الطرف عن ما كَمَن في النفوس، وفي ذلك حكمة أنه إذا اطلع الإنسان على نوايا الآخرين شاعت الكراهية وفسدت الأرض، بينما الدين وظيفته هي الإعمار وتدريب الإنسان على أن يُصلح من نفسه والناس .

مشكلة رواية.."إنما الأعمال بالنيات"..أنها حديث منسوب لرسول الله، يعني.."نص مقدس"..عند البعض، الذين لا يؤمنون بالقانون الظاهري ويرون مخالفته للشريعة، طالما نواياهم كانت حسنة فيحل لهم فعل أي شئ بنص الحديث، سنذهب لسوريا أو لسيناء أو للعراق أو إلى لبنان، نراهم يقتلون ملايين الضحايا ويزعمون أن نواياهم صالحة باسم الجهاد، وسبب هذا الخلط أن الحديث له وجه إلهي والثاني بشري، فاختلط الوجهين بلفظ.."لكل امرئٍ ما نوى"..يعني القائل يقول لفظ صحيح، ولكن خلطه بالأعمال وبإطلاق.."الكل"..جعل المبنى فاسداً، وهذا يعني أن الراوي لم يقصد الإخلاص في النية فحسب بل توسع وقطع بقبول سائر الأعمال بالنوايا...

وأنا أسأله طالما لا تعلم النوايا فلماذا تدخلت في ما لا تعلمه وقلت أن لكل امرئٍ ما نوى، وما قولك فيمن يقتل بنية حسنة؟..فإذا لم تقبل منه هذا الفعل لماذا شاب قولك التعميم؟

أخيراً فحديث .."الأعمال بالنيات"..هو مشكِل كبير، حيث له معنيان الأول ظاهري يتبادر للذهن والآخر مُحكم وهو المقصود من الحديث.

المعنى الأول "الظاهري":هو وجوب الإخلاص لله في الأعمال ولا إشكال في ذلك عند الفقهاء، وأن الإخلاص هو ثمة المؤمن التقي.

المعنى الثاني "المُحكَم": هو أن الأعمال بالنيات وأن لكل امرئٍ ما نوى..وهذا محل خلاف كبير، وقد افتطن علماء السلف من الأحناف لخطورة القول بذلك، وقطعوا بأن الأحكام لا تجري الحجة عليها إلا بالظواهر، لأن النوايا هي من علوم الله، والكلام فيها لا معنى له وتكلف كبير يخلق بذور الخلاف والتناحر.

كذلك أن الحديث صدر من نفسٍ رأت أن النوايا حسب الحقيقة الواحدة المطلقة المعلومة سلفاً، وهذا جهل كبير، فالنسبية بين البشر حاضرة، وما كان افتراق الأمم إلا علامة على تلك النسبية في الرؤى والتصوّرات، كمن يقتل باسم الجهاد، والآخر يحكم عليه بالضلال والتطرف، وهكذا نعيش كردود أفعال عاجزين عن المراجعة في المفاهيم، فلا أظن أن النبي -الذي اجتمعت عليه أمة المسلمين والعرب –كان يجهل هذه النسبية ،وأنه يقول أن الأعمال بالنوايا ولكل امرئٍ ما نوى، في حين كانت قريش تُحاربه على نوايا البعض الحسنة منهم بأن النبي هو كاذب ومدعي ومُفرّق للأمم، فما مصير من مات منهم وهو يحارب النبي على هذه النية؟

ولماذا نذهب بعيداً ولدينا الخوارج الذين كانوا يقتلون الناس، ويُكفّرون الصحابة ،والمعلوم عنهم أن الصدق صفة ملازمة لهم،حتى أن علوم الجرح والتعديل جعلت من الخارجي أوثق من الشيعي، وعليه كان لكل امرئٍ خارجيٍ منهم ما نوى من نوايا حسنة باسم الدعوة والغيرة على الدين والحُكم لله.

كذلك فسند الحديث جاء من طريق واحد عن علقمة عن عمر بن الخطاب، واشتهر بعد ذلك عن يحيي بن سعيد، أي أنه في المجمل حديث آحاد مشهور لا يقوم به العمل في العقائد والأعمال والدماء، فكيف اشتهر هذا الحديث وجعله الفقهاء متصدراً لعشرات الأبواب الفقهية؟..هذا يعني أن الأسس الفقهية بحاجة لمراجعة واستعادة روح السلف من الأحناف الذين رأوا أن الحجة على الأعمال هي الظواهر تجنباً للشقاق والحفاظ على كيان ومجتمعات المسلمين.

وليس أدل من الخلاف حول الحديث من رفض بعض المحدثين تدوينه وبعض الفقهاء الاحتكام إليه لخطورة معناه كما تقدم ، فهو ككلمة الحق التي أريد بها الباطل، خلاصته أن النوايا لله وهذا ما اجتمع عليه الناس، ولكن الأعمال ليست بالنوايا لخطورة القول بذلك مجتمعياً ودينياً وسياسياً..حتى رأينا في زمننا هذا من يقتل باسم الله ويقطع الرؤوس ثم يستدل بهذا الحديث أن نواياه كانت حسنة، إلى هنا يجب وقفة مع هذا الحديث الذي أعتبره أحد مصادر العنف والإرهاب في عالمنا العربي.

اجمالي القراءات 18127