مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ 4
الجزء الرابع
إن ظهور المذاهب والفرق الإسلامية لم يؤد إلى تمزق الأمة والشعوب الإسلامية إلى جماعات وطوائف وأحزاب متناحرة على السلطة وعلى زعامة المسلمين فحسب، بل أدى أيضا إلى دخول المسلمين فى عصور الإنحطاط والتأخر، لأن الأجيال التى جائت بعد تكون تلك المذاهب والفرق قد تأثرت بتفسيرات ما يعرف بالفقهاء فتجمدت المحاولات الإبداعية عند الكثير من الشباب وأهل الإبداع الفكرى والعلمى.
والأخطر من ذلك كله أن هذه المذاهب والفرق أدت إلى ظهور طبقة من الذين يطلقون على أنفسهم رجال الدين تحتكر المعرفة الدينية وتدعى العلم فى كل جوانب الدين ولا تسمح لأحد من خارجها بالإفتاء فى أموره وقضاياه. فكان ظهور المذاهب والفرق بداية إحتكار الدين والإساءة إليه. ولا خلاص من ذلك إلا بالعودة إلى القرءان الكريم وتطهير أذهان المسلمين من تأويلات المذاهب والفرق الإسلامية المختلفة.
الإسلام والأحزاب
إن الدين الإسلامى برئ من الدعوة إلى تفرق المسلمين إلى شيع وفرق وطوائف ومذاهب، ويحذر القرءان الكريم بشدة من التشيع والتفرق والتمذهب، ويعتبر ذلك من أعمال المشركين، وينذر أولئك الذين ينشرون الفرقة بين المسلمين ويتوعدهم بعذاب أليم.
فإذا كان هذا هو موقف الدين الإسلامى من المذاهب والفرق والطوائف، فما هو موقفه من الأحزاب السياسية التى ظهرت فى العصر الحديث فى المجتمعات الإسلامية، وخاصة تلك التى يحمل بعضها برامج دينية؟
إن ما ينطبق على الفرق والطوائف والمذاهب الدينية، ينطبق أيضا على الأحزاب، لأنها أيضا عامل تفرقة فى المجتمع الإسلامى، إذ إنها تؤدى إلى زرع الفتن والأحقاد والتعصب بين الأفراد وتدفعهم إلى التناحر، كل يريد إعلاء راية حزبه والوصول إلى كرسى الحكم.
والأمر الذى لا يقل خطورة أن الأحزاب السياسية التى ترفع شعارات دينية، عى أدوات تحاول وإحتكار الدين. فهى تدعى أنها المرجع الوحيد فى كل القضايا الدينية وإصدار الأحكام فى الإشكاليات المتعلقة بها، حيث إنها بناء على هذا الزعم، تكفر كل من يخرج عن نهجها وخطها، ولا تتورع من الإفتاء بإهدار دمه، فى الوقت التى تمنح فيه صكوك الغفران لمن تشاء. كما أنها لا تتورع من تنصيب نفسها شُرطيا للإسلام حيث أنها تستخدم كل أساليب الإرهاب زاعمة الدفاع عن الإسلام الذى يدعو فى الأصل إلى المجادلة بالتى هى أحسن.
وبالإضافة إلى كل هذا، فإن وجود هذه الأحزاب السياسية يُعد فى حد ذاته تناقضا مع دعوة القرءان الكريم إلى عدم الإنقسام والتفرق وإلى حكم الشورى، حيث يقول " وأمرهم شورى بنهم ..." الشورى 38
فحكم الشورى يقتضى أن يجتمع الشعب كله فى مكان واحد ليتشاور ويتناقش ويقرر شؤونه السياسية والإقتصادية والإجتماعية. وعندما يكون الشعب الواحد مقسما إلى أحزاب سياسية عديدة يكون التفرد والإستبداد، لأن أصل العلاقة بين الأحزاب هى التنافس والتناحر الأمر الذى يؤدى بدوره إلى تمزق الشعب. وقد يقول قائل إن الأحزاب تتدارس أمور حياتها تحت قبة المجالس النيابية وتتشاور فى شؤون الشعب، ولكن حتى هذا الشكل، الذى يعتبر تغييبا للشعب، لا يمكن أن يُعد أسلوبا تشاوريا، ولا يدخل فى حكم " وأمرهم شورى بينهم .." لأن ما يحدث تحت قبة المجالس النيابة هو صراع شديد بين حزب الأغلبية الحاكم وأحزاب المعارضة التى تقوم بإستمرار بتسفيه برامج الحزب الحاكم وسحب الثقة منه.
وبالمقابل يحاول حزب الأغلبية الحاكم المحافظة على السلطة بكل ما يمكن. فيلجأ إلى تسفيه برامج الأحزاب المعارضة بدوره. كما يلجأ إلى مختلف المناورات السياسية لتشتيتها حتى لا تألف هذه فتكون نهايته.
إن الشورى التى يقصدها القرءان الكريم هى تشاور الشعب فى أموره السياسية والإقتصادية والإجتماعية ليقرر هو بنفسه ما يريد، من دون أن يكون هناك هدف لجزء من الشعب للسيطرة على الجزء الآخر. ولعل أفضل أسلوب لممارسة الشورى من قبل الشعب كله، هو أسلوب المؤتمرات الشعبية واللجان الشعبية التى يتم تكوينها فى كل قرية وفى كل مدينة ليمارس الشعب من خلالها الشورى ويحكم نفسه بنفسه.
وأسلوب المؤتمرات الشعبية ليس بالأسلوب الغريب على الدين الإسلامى بل إنه فى الواقع مستوحى منه، على إعتبار أنه دين جماهيرى. فالعبادات فى الإسلام هى عبادات فى معظمها عبادات جماهيرية، حيث يجتمع المسلمون فى كل قرية وفى كل مدينة على شكل مؤتمرات شعبية لممارسة العبادات. فصلاة الجمعة هى إحدى الطرق التى يجتمع فيها المسلمون، والحج بكل شعائره يعتبر مؤتمرا شعبيا قوميا وأمميا فى نفس الوقت، حيث يجتمع المسلمون ليس للتعبد وأداء المناسك فقط وإنما ليشهدوا منافع لهم وللتشاور فى أمورهم الدنيوية التى تشمل السياسة والإقتصاد والأحوال الإجتماعية.
فالمؤتمرات الشعبية إذن هى طبيعة الدين الإسلامى، وهى الأسلوب الوحيد العملى لممارسة الشورى، عكس الحزبية التى تتناقض تماما مع مبادئ الدين الإسلامى وطبيعته، وعكس ما يسمى بالخليفة أو أمير المؤمنين أو أهل الرأى والمشورة. وإذا تمعن المرء فى الأحزاب السياسية السرية والعلنية القائمة فى المجتمعات الإسلامية، فسوف يدرك أن بعضها هو نتاج التأثر بثقافات الغرب وأيديولوجياته، أما بعضها الآخر فيرفع شعارات دينية ويزعم زيفا أنه يسعى إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، فيستغل بذلك العاطفة عند الناس بغية الوصول إلى السلطة.
فإذا تأملنا على سبيل المثال فى حزب ما يسمى بالإخوان المسلمين أو ما يسمى حزب التحرير الإسلامى، فإننا سنجد أن، الأول، بافكاره وأطروحاته، هو إمتداد أو إحياء لحركة الخوارج التى كانت نتيجة من نتائج الفتنة الكبرى. فلما كان الخلاف بين أنصار هذا الفريق أو ذاك يدور حول نقطة مهمة وهى: من أحق بالخلافة ؟
عندها أطلق الخوارج فكرة الحاكمية لله، التى إدعت بطلان فكرة أن تكون الخلافة محصورة فى آل البيت أو العرب القرشيين، ونادت بأن أى مسلم عادل يستطيع أن يتولى الخلافة وأن يكون خليفة للمسلمين. ولقد حبذت العناصر غير العربية هذه الفكرة لأنها تفتح لها الطريق إلى السلطة. وأخذت حركة الخوارج تستقطب العجم من الفرس والكردستان والتركمان وغيرهم من الأقليات القومية حتى غدت حركة شعبية بغيضة.
وتماما مثل حركة الخوارج فإن الإخوان المسلمين يعادون القومية العربية ويحاربونها ويحاربون كل مَن يؤمن بها حربا لا هوادة فيها، إذ يزعمون أن فكرة القومية العربية غير موجودة فى القرءان الكريم. وأنها فكرة عصبية جاهلية، وهم بذلك يلتقون مع الإتجاهات الأممية الماركسية المنادية بالقضاء على جميع القوميات وأنصارها.
مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ
وليس من قبيل الصدفة أن يكون الرجل الذى أسس ما يُسمى بحركة الإصلاح أو الإحياء الإسلامى الحديثة، والذى تأثر به حسن البنا، مؤسس حركة ما يُسمى الآن الإخوان المسلمين، ليس عربيا وهو جمال الدين الأفغانى الذى كان ينادى بوحدة الشعوب الإسلامية ويحارب فكرة القومية العربية، كان هو وتلميذه محمد عبده وبعض تلاميذه الآخرين. أعضاء فى حركة الماسونية التى تعتبر أساس الحركة الصهيونية العنصرية المعادية للسامية وللعرب على وجه الخصوص.
صحيح أن الحركة الصهيونية لم تكن قد تبلورت آنذاك بصورة واضحة وكما هو متعارف عليه فى أيامنا هذه، من تنظيم محكم وإستخدام علنى وصريح للعنف والإرهاب فى سبيل إقامة الكيان الصهيونى على الأرض العربية، ولكن من المعروف أن اليهود أعضاء الحركة الماسونية الصهيونية، يستخدمون هذه الحركة ومثيلاتها للتغلغل فى جسد القوميات والشعوب المختلفة لتفتيتها وإضعافها بمختلف الدعاوى والأفكار الزائفة من أجل السيطرة عليها إقتصاديا وسياسيا، وبالتالى توجيهها لخدمة أهداف الحركة الصهيونية وإقامة كيان بنى صهيون السياسى على أرض فلسطين العربية.
وإذا كان جمال الدين الأفغانى قد بدأ نشاطه السياسى مصلحا دينيا، إلا أنه كشف فيما بعد عن أهدافه فى الوصول إلى السلطة الدنيوية، حيث إرتبط بالإنجليز وأدى مهمات سرية لهم. كما إرتبط أيضا بدوائر السلطة العثمانية فى الآستانة متآمرا معهم ضد العرب وضد القومية العربية.
ولقد بدأت حركة ما يسمى بالإخوان المسلمين نشاطها على يد حسن البنا الذى تأثر فكريا وسياسيا بجمال الدين الأفغانى ومحمد عبده وكانت فى بداية تأسيسها حركة دينية إصلاحية فى العام 1928 بمدينة الإسماعيلية. وفى العام 1933 إنتقل حسن البنا بحركته إلى القاهرة، وأدت هذه النقلة المكانية إلى نقلة نوعية فى توجيهات حزب أو حركة ما يسمى بالإخوان المسلمين، التى سرعان ما إنغمست فى العمل السياسي المباشر هادفة إلى الإستيلاء على السلطة تحت شعارات دينية. وكى تكون بنيتها التنظيمية قادرة على إستيعاب التوجهات السياسية والإستيلاء على السلطة، فقد قامت ببناء خلايا سرية أشبه فى هياكلها بالتنظيمات الماسونية.
وجعلت من إستخدام القوة والعنف مع الشعب العربى المصرى من أهم وسائلها إلى الوصول إلى السلطة والسيطرة الكاملة على مقدرات الشعب المصرى السياسية والإقتصادية وذلك تحت دعوى الجهاد فى سبيل الله. والغريب أن هذا الجهاد المزعوم قد مورس ضد أبناء شعب مصر العربية، علما بأن الجهاد أصلا لا يكون إلا ضد المشركين بالله.
ولقد أدى إعتماد حركة ما يسمى بالإخوان المسلمين على العنف منهجا فى العمل السياسي إلى قيامها بإغتيال رئيس وزراء مصر آن ذاك محمود فهمى النقراشى فى عام 1948 بسبب إصداره قرارا بحل تنظيم الإخوان المسلين متهما إياه بإعداده العدة للإستيلاء على السلطة عن طريق القوة والعنف.
ولما كان الوصول إلى السلطة هو هدف حزب أو حركة ما يسمى بالإخوان المسلمين حتى ولو أدى ذلك إلى موقف متناقض مع القيم الأخلاقية الإسلامية الأصيلة، فإنها قد دخلت فى حقبة الأربعينات بمصر فى تحالفات سياسية خاسرة، مرة مع القصر.. ومرة ضد القصر.. ومرة مع هذا الحزب، ومرة ضد هذا الحزب، الأمر الذى يؤكد أن الذى كان يحكمها فى هذا المسلك هو المصلحة السياسية البحتة وليست المبادئ الدينية.
مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ
نكتفى بهذا القدر ونلتقى بإذن الله تعالى مع الجزء الخامس إن شــاء الله السميع العليم.