دور الدولة الاسلامية والفرد المسلم فى تطبيق الوصية والميراث

آحمد صبحي منصور في الأحد ١٩ - يناير - ٢٠١٤ ١٢:٠٠ صباحاً

أولا : لمحة عن دور الدولة الاسلامية والفرد المسلم فى التطبيق للشريعة الاسلامية

1 ـ نزلت تفصيلات التشريعات  فى الميراث والأحوال الشخصية فى ظل دولة إسلامية تجتهد فى تنفيذ التشريع على أرض الواقع . وكان الخطاب التشريعى موجّها لدولة المسلمين ذات الديمقراطية المباشرة التى تجعل المجتمع هو صاحب السلطة ، والذى يمارسها من خلال جهاز متخصص ( اولى الأمر ) . كما كان الفرد المسلم مسئولا مسئولية مباشرة أمام المجتمع وأمام ربه جل وعلا فى تطبيق الشرع ، ولهذا توجّه الخطاب أيضا للفرد المسلم مباشرة بالترغيب والترهيب يعظه ويحثه على التقوى ويخوّفه من عذاب يوم القيامة .  

2 ـ مثلا ، فى الخطاب للمجتمع فى رعاية المطلقة المُرضعة يقول جل وعلا : (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) الطلاق ) الفرد المُطلّق عليه توفير السكن الملائم  لللزوجة المطلقة ، وعليه تدبير النفقة الملائمة لها وللرضيع . وتحقيق المبلغ الملائم هو وظيفة المجتمع فى إصدار تشريعات أو مذكرات تفسيرية أو لائحة تنفيذية ، والتطبيق علي أفراد يختلف وضعهم الاقتصادى والاجتماعى يستلزم تمحيصا وجلسات تقرر المبلغ على أساس العدل أو المعروف ، وهذا معنى الخطاب للمجتمع بقوله جل وعلا (وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ  ).

والخطاب فى الآية التالية يتوجه مباشرة للفرد ( لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7) الطلاق ) ، فالفرد عليه الانفاق على قدر دخله ، وهو الذى يعرف مقدار دخله، ويستطيع خداع السلطة الزمنية البشرية ، ولكنه لا يستطيع خداع رب العزة الذى يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور ، لذا يتم تذكير الفرد بالمبدأ التشريعى أنه لا يكلف الله جل وعلا نفسا إلا وسعها ، مع وعد الاهى للمُعسر بأن يجعل الله جل وعلا بعد عُسر يُسرا.

ثانيا : دور الدولة الاسلامية والفرد المسلم فى تطبيق الوصية

1 ـ وفيما يخص الوصية نجد الخطاب واضحا للمجتمع وسلطته القضائية والاجتماعية . يبدأ هذا بتوجيه مباشر للمجتمع يحرّم منح الوارث السفيه سلطة فى المال الذى يرثه ، لأنه لو تحكّم  فى المال بسفاهته سيضيع المال وسيضيع  نفسه . وطبقا للشريعة الاسلامية فإن المال هو ملك للمجتمع  أصلا ، وليس للفرد أن يتصرف  فى التركة المنقولة اليه إلا إذا أحسن القيام عليها ، وبالتالى فإذا تبين أن الوارث سفيه فإن السلطة تقيم وصيا على الوارث السفيه يستثمر تركة السفيه لصالحه وصالح المجتمع ، ويعطيه من دخل الاستثمار ما يكفي نفقته وكسوته مع معاملة حسنة بالمعروف . يقول جل وعلا : ( وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (5) النساء ).   

2 ـ والوارث الطفل لا بد من تعيين وصىّ عليه يحفظ ماله ، ويستثمره له . وإذا كان هذا الوصى غنيا فالأولى ألا يأخذ مرتبا من مال الوارث القاصر مقابل الوصاية عليه . أما إذا كان فقيرا فله أن يأخذ مرتبا معقولا بالعدل والمعروف . وقد يطمع بعضهم فى مال الوارث القاصر فيزعم أنه سفيه ، لذا فإن من سلطة المجتمع تعيين لجنة تختبر الوارث القاصر حين يبلغ مستوى الرجال ، أى حين يبلغ ويكون قادرا على الانجاب ، وتختبر اللجنة مدى كفاءته فى إدارة تركته ، فإذا تبينت كفاءته سلمته التركة  ، وإن تبين سفهه ظل تحت رعاية الوصىّ . يقول جل وعلا : ( وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً (6) النساء ).

المستفاد هنا الآتى : وجوب هيئة مختصة تشرف على تركة القُصّر الوارثين ، تختبر الوارث القاصر ، وهل بلغ مبلغ الرجال أم لا ، وتختار الوصى ، وتقدر إن كان يستحق مرتبا أم لا ، ومقدار المرتب ، وتراقب إستثماره للتركة ، وتقرر المرتب الذى ينفقه الوارث الصبى تحت الوصاية أو السفية الذى سيظل تحت الوصاية .

3 ـ وتقوم نفس اللجنة بمراقبة الوصية عند الموت . يقول جل وعلا فى خطاب مباشر لكل مؤمن : ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)  البقرة ) أى إن الوصية فرض وحق واجب على كل مؤمن حين يحضره الموت ويريد أن يكون تقيا يريد أن يترك خيرا خلفه بعد موته ، والوصية هى اساسا بالتعيين للوالدين الأحياء ، أو أحدهما إن كان حيا وقت وفاة الابن أو البنت . والوصية بلا تحديد للأقربين من بقية الورثة الذين يختارهم الموصى ، سواء أوصى لابنه أو بنته أو أخيه أو اخته ، أو زوجه . وقلنا أن الورثة هم الوالدان والأبناء والأخوة والأخوات . وهؤلاء هم الأقربون والورثة ، وعلى المؤمن الذى يحتضر أن يوصى لهم أو لبعضهم ، سواء كان وارثا أو محجوبا من الإرث كالأخ والأخت فى وجود الابن . وبعد موته قد يقوم بعضهم بتبديل الوصية ، وهو هنا آثم :( فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) البقرة ) والله جل وعلا السميع العليم يسمع ويعلم وسيحاسب المخطىء يوم القيامة . وقد يكون الموصى ظالما فى وصيته ، وحينئذ تتدخل اللجنة لإقامة العدل وإصلاح الأمر بينهم : ( فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182) البقرة ).

ثالثا : فى قسمة الميراث

1 ـ الترتيب كالآتى : الوصية عند الموت ، ثم قبل تقسيم التركة يتم إقتطاع الوصية والديون ، وعند التقسيم ، فإذا حضر الأقارب غير الورثة واليتامى والمساكين ( من غير الورثة ) يتم التصدق عليهم بمبلغ بالمعروف الذى يعنى الاحسان ، ويُقال لهم قولا معروفا : ( وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (8) النساء ) . ويتوجه الخطاب مباشرة للمؤمنين بالتحذير والترهيب من أكل أموال اليتامى ظلما فى الميراث : ( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (10). النساء )

2 ـ ثم تأتى تشريعات قسمة الميراث على الأقربين .وفى خاتمتها نعلم أنها ضمن ( حدود الله ) ، وأن جزاء من يتعدى حدود الله هو الخلود فى الجحيم .

رابعا : حدود الله الخاصة بحقوق البشر تحتاج الى سلطة المجتمع فى التطبيق :

1 ـ جاءت كلمة "حدود" فى القرآن الكريم (14) مرة. وكلها تعنى حقوق الله وتشريعاته، ولا تعنى العقوبة كما يدل مصطلح حد الردة أو "حد الزنا" وتطبيق "الحدود" فى الشريعة السنية .
جاءت مرتين بمعنى شرع الله وأوامره فى قوله تعالى: ( الأعْرَابُ أَشَدّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ اللّهُ عَلَىَ رَسُولِهِ (التوبة 97). وفى قوله تعالى:( وَالنّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ ) (التوبة 112) .وجاءت مرة فى تشريع الصيام فى : ( أُحِلّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصّيَامِ الرّفَثُ إِلَىَ نِسَآئِكُم ) وفى نهايتها يقول تعالى : ( تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا ) البقرة 187 ).وجاءت مرتين فى تشريع الميراث، يقول تعالى : ( تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا )(النساء 13، 14 .).وجاءت تسع مرات فى تشريعات الله تعالى فى الزواج والطلاق.: منها مرة فى موضوع، الظهار أى إذا ظاهر الرجل على امرأته وحرمها على نفسه، فلا يرجع إليها إلا بعد تقديم الكفارة، ويقول تعالى بعدها ( وتلك حدود الله )( المجادلة 4 ) .  ومنها أربع مرات فى أية واحدة تتحدث عن الطلاق الأول للزوجة والطلاق الثانى ، وحق الزوجة فى الافتداء أو ( الخُلع ):  يقول تعالى فيها : ( الطّلاَقُ مَرّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمّآ آتَيْتُمُوهُنّ شَيْئاً إِلاّ أَن يَخَافَآ أَلاّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ ) (البقرة 229) .  ومنها مرتان فى الآية التى تتحدث عن الطلاق للمرة الثالثة وحتمية أن تعقد الزواج على شخص  آخر إذا أرادت الرجوع لتتزوج الزوج السابق: ( فَإِنْ طَلّقَهَا فَلاَ تَحِلّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتّىَ تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِن طَلّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ إِن ظَنّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ يُبَيّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (البقرة 230) .  ومرتان فى تحريم إخراج المطلقة من بيتها قبل العدة : ( لاَ تُخْرِجُوهُنّ مِن بُيُوتِهِنّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مّبَيّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يَتَعَدّ حُدُودَ اللّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ (الطلاق 1) . هذه هى المواضع التى جاء فيها لفظ "الحدود" وكلها تعنى شرع الله ولا تدل مطلقا على العقوبات المنصوص عليها فى القرآن مثل السرقة والزنا والقصاص وقطع الطريق والقذف للمحصنات . وليس منها ما يتعلق بالعقوبات التى استحدثها العصر العباسى لشرب الخمر والردة وترك الصلاة.ذلك يدل على أن العصر العباسى وفقهاءه قد نحتوا لهم مسميات خاصة لا تتفق وتشريعات القرآن..وذلك يدل أيضاً على أن عصر الرسول المرتبط بالقرآن أساساً لم يعرف مدلولاً اسمه "حد السرقة" أو "حد الزنا" وسائر العقوبات المنصوص عليها فى القرآن لأن القرآن حين ذكر عقوبة الجلد للزانى لم يستعمل كلمة حد الزنا ، وكذلك حين تحدث عن جريمة السرقة أو القذف أو القتل.. ويمكن مراجعة ذلك فى القرآن . هذا بعض ما قلناه فى كتابنا ( حد الردة.. المزعوم ).

2 ـ وفيما يخص موضوعنا عن دور الدولة الاسلامية الفرد المؤمن فى تطبيق شريعة الميراث وغيرها من التشريعات و ( الحدود ) نقول إن على الدولة الاسلامية أن تتدخل فى تطبيق التشريعات الخاصة بحقوق البشر فقط كالميراث والوصية والأحوال الشخصية من زواج وطلاق ونفقة ومتعة وعدّة وما يترتب للمرأة بالذات من حقوق ، وما يكون لليتيم والمساكين من حقوق . بإعتبار أن المرأة واليتيم والمساكين هم الطرف الأضعف فى المجتمع ، ويعتاد المجتمع غالبا تهميشهم وظلمهم وأكل حقوقهم .

ولا دخل للدولة ومجتمعها فى تطبيق حدود الله جل وعلا فى العبادات كالصلاة والصوم لأنها حقوق الله جل وعلا ، وموعد الحساب عليها مؤجل ليوم الحساب . ولكن للمجتمع دخل فى تطبيق الزكاة المالية لأنه وإن كانت عبادة إلا إن المستفيد منها جزء من المجتمع . وللمجتمع دخل فى تطبيق حدود الله فى الوصية والميراث و الأحوال الشخصية . هذا حتمى لأن دور الدولة الاسلامية هو إقرار العدل والاحسان وما نسميه اليوم بحقوق الانسان ، وكان أحرار المفكرين المسلمين يقولون عنه ( حقوق العباد ) المطلوب رعايتها وتنفيذها فى الدنيا . 

اجمالي القراءات 10139