الشفاعة الحنبلية ونشر الانحلال الخلقى فى العصر العباسى الثانى

آحمد صبحي منصور في الجمعة ٠٣ - يناير - ٢٠١٤ ١٢:٠٠ صباحاً

  النبى لا يشفع يوم الدين :( كتاب الشفاعة بين الاسلام والمسلمين )

مقدمة :

1 ـ  تأثير أساطير الشفاعة هائل فى نشر وتبرير الانحلال والفساد الخلقى ، وفى تضييع التقوى الاسلامية التى تعنى فى الأساس الخشية من الله جل وعلا والخوف من عذاب عظيم ، وخاتم النبيين عليه وعليهم السلام تكرر الأمر له أن يُعلن إنه يخاف من ربه ـ إن عصى ـ من عذاب يوم عظيم .( قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) الزمر ) ( قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) ( الانعام 15 ) (إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) يونس ).  وأساطير الشفاعة تُعطى حصانة مسبقة من هذا العذاب ، وبالتالى فلا خوف ولا رهبة من عقاب الأخرة ، ولا بأس أن ينطلق الانسان فى العصيان بلا رادع متبعا هوى نفسه ، والنفس أمّارة بالسوء إلا من رحم ربى جل وعليه ، ومن السهل السقوط فى الغواية ، ومن الصعب التمسك بالفضيلة وأن ينهى الانسان نفسه عن الهوى وإصلاح النفس وتزكيتها وكبح جماحها وقهر نزواتها المحرمة ، ومن المحبب ترك العنان لها كى تسقط فى هاوية الفجور . ويتعاظم الفساد والفجور حين يأتى التشجيع والتبرير من دين أرضى ينشر أساطير الشفاعة . وفى الواقع فإن كل الأديان الأرضية تشترك فى صناعة اساطير الشفاعة بطرق مختلفة تنشر بها الفساد . وهذا ما فعلته أديان المسلمين الأرضية ، وخصوصا السّنة . وبأساطير الشفاعة نشر السنيون المتشددون ــ الحنابلة ــ الانحلال الخلقى فى العصر العباسى الثانى حين سيطروا عليه .

2 ـ لا يعنى هذا أن الانحلال لم يكن موجودا من قبل ، فهو موجود قبل وبعد العصر العباسى الثانى وفى كل عصر ، لكننا هنا نتحدث شيوع الانحلال الخلقى بتشجيع دينى من دين السّنة الحنبلية . كان هناك إنحلال خلقى ( علمانى ) لا يتستر بالدين ولا يبحث عن بررات وتسويغات دينية ، فإرتدى هذا الانحلال الخلقى السُّنى الحنبلى وشاح الدين وإتّخذ مظاهر التدين السطحى المظهرى ، من اللحية والنقاب والحجاب ، وإشتعل فى ظل أساطير الشفاعة . وبسبب الحنبلية إقترن التشدد والتزمت بالرياء والنفاق والتحلل الأخلاقى تحت مظاهر التدين السطحى . ويحدث هذا اليوم تحت سيطرة الوهابية الحنبلية ، حيث تتكاثر المساجد وتتكاثر صفوف الصلاة فيها جنبا الى جنب مع مظاهر الانحلال الخلقى والتحرش الجنسى والفساد فى كل مناحى الحياة . وشعار الناس ( يا بختنا بالنبى ).!.  وهذه لمحة عن أثر الشفاعة الحنبلية فى الانحلال الخلقى فى العصر العباسى الثانى .

أولا : الدعوة الى الانحلال الخلقى : بمزاعم الغفران لمشاهير الماجنين :

1 ـ إشتهر أبو نواس المتوفى عام 195 بالشعر والمجون معا ، وبعد مرور عدة قرون صاغ الحنابلة فى العصر العباسى هذه الرواية التى صنع لها ابن الجوزى إسنادا ، يقول : ( أخبرنا محمد بن عبد الملك بن خيرون قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال‏:‏ أخبرنا هلال بن محمد بن جعفر الحفار أخبرنا إسماعيل بن علي الخزاعي أخبرنا محمد بن إبراهيم بن كثير الصوفي أخبرنا أبو نواس الحسن بن هانئ حدَّثنا حماد بن سلمة عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك رضي اللهّ عنه قال‏:‏ لا يموتن أحدكم حتى يحسن ظنه بالله من الخير ‏.‏ قال ابن كثير‏:‏ ودخلنا على أبي نواس نعوده في مرضه الذي مات فيه فقال له عيسى بن موسى الهاشمي‏:‏ يا أبا علي أنت في آخر يوم من أيام الدنيا وأول يوم من أيام الآخرة وبينك وبين الله هنات ، فتب إلى الله . قال أبو نواس‏:‏ أسندوني ‏.‏ فلما استوى جالسًا قال‏:‏ إياي يُخوّف بالله ؟ وقد حدّثني حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس بن مالك قال‏:‏ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لكل نبي شفاعة وإني اختبأت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي يوم القيامة ‏"‏ أفترى لا أكون منهم ؟‏.‏). هنا دعوة للإنحلال تتخذ من أبى نواس دليلا ، فعند إحتضاره يموت مطمئنا واثقا من الشفاعة . .

2 ـ وتناقلت المنامات الحنبلية الغفران لأبى نواس بطريقة أخرى دون الحاجة لاختراع حديث ؛ يذكر إبن أيبك الصفدى فى ( الوافى بالوفيات ج 12 ص 286 ) هذه الرواية المنامية عن مجهول عبر الاسناد ( ...عبد الله بن صالح الهاشمى قال حدثنى من اثق به قال : رأيت أبا نواس فى النوم وهو فى نعمة كبيرة .. قلت : ما فعل الله بك ؟ قال : غفر لى وأعطانى هذه النعمة ، قلت ممّ ذاك وأنت كنت مخلّطا ؟قال : اليك عنى .! جاء بعض الصالحين الى المقابر ..وصلى ركعتين لأهل المقابر قرأ فيهما ألفى مرة ( قل هو الله أحد ) وجعل ثوابها لأهل المقابر ، فغفر الله لآهل المقابر فدخلت لنا فى جملتهم . ). هؤلاء جميعا يجهلون الحقيقة القرآنية عن الغفران ، وأنه ليس فى هذه الدنيا ، بل هو يوم الدين : ( ابراهيم   )( الشعراء ).

3 ـ وصيغت رواية منامية أخرى فى ( الوافى بالوفيات ج 11 ص 257 ) غن قاضى مصر الحارث بن معين ت 250 . قالوا إن رجلا كان مسرفا على نفسه فمات فرؤى فى المنام ( فقال : إن الله غفر لى بحضور الحارث بن مسكين جنازتى ، وأنه إستشفع لى فشُفع لى . ). وبالتالى فهى رسالة صريحة : يا معشر الفاسقين الفُجّار ، لا تثريب عليكم ، إنطلقوا فى المجون ما إستطعتم، فالشفاعة والغفران فى إنتظاركم .!

ثانيا : ـ الدعوة الى الانحلال الخلقى بمزاعم الغفران للشيوخ الماجنين إبناء الثمانين :

1 ـ وضعوا قاعدة  إفتروا لها حديثا يزعم أن الله جل وعلا يغفر لمن يموت وهو فى الثمانين من العمر وما فوقها .وقرروا أن يتمتع بهذه الرخصة قاضى القضاة يحيى بن أكثم ت 243 الذى كان مشهورا بالشذوذ الجنسى. يروى ابن الجوزى فى المنتظم هذه الرواية المنامية بالسند عن أحد ( الجيران ) مجهول الاسم والعنوان  : ( أخبرنا القزاز قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن علي الحافظ قال‏:‏ أخبرنا محمد بن الحسين بن سليمان المعدل قال‏:‏ أخبرنا أبو الفضل الزهري قال‏:‏ حدثنا أحمد بن محمد الزعفراني قال‏:‏ حدثنا أبو العباس بن واصل قال‏:‏ سمعت محمد بن عبد الرحمن الصيرفي قال‏:‏ رأى جار لنا يحيى بن أكثم بعد موته في منامه فقال له‏:‏ ما فعل الله بك ؟ فقال‏:‏ وقفت بين يديه فقال لي : سوءة لك يا شيخ .! فقلت‏:‏ يا رب إن رسولك صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ إنك لتستحي من أبناء الثمانين أن تعذبهم ‏"‏ وأنا ابن ثمانين أسير الله في الأرض .! فقال لي‏:‏ صدق رسولي قد عفوت عنك ‏.‏ ) البذاءة هنا أنهم يجعلون رب العزة يستحى من تعذيب شخص فاسق ، ويجعلون هذا حديثا نبويا .! .

كل هذا الإفك وتلك البذاءة لتشجيع على إرتكاب الشذوذ الجنسى إتباعا للقاضى يحيى بن أكثم . ثم للتأكيد يؤلفون مناما آخر فى نفس الموضوع : ( أخبرنا القزاز قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن علي الخطيب قال‏:‏ أخبرنا القاضي أبو العلاء الواسطي قال‏:‏ حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد المفيد قال‏:‏ حدثنا عمر بن سعد بن سنان قال‏:‏ حدثنا محمد بن سلم الخواص قال‏:‏ رأيت يحيى بن أكثم القاضي في المنام فقلت له‏:‏ ما فعل الله بك ؟ فقال لي‏:‏ وقفني بين يديه وقال لي‏:‏ يا شيخ السوء لولا شيبتك لأحرقنك بالنار .! فأخذني ما يأخذ العبد بين يدي مولاه . فلما أفقت قلت‏:‏ يا رب ما هكذا حُدّثت عنك ؟ فقال الله تعالى‏:‏ وما حُدّثت عني ؟ - وهو أعلم بذلك - قلت‏:‏ حدثني عبد الرزاق بن همام حدثنا معمر بن راشد عن ابن شهاب الزهري عن أنس بن مالك عن نبيك صلى الله عليه وسلم عن جبريل عنك يا عظيم أنك قلت‏:‏ ‏"‏ ما شاب لي عبد في الإسلام شيبة إلا استحييت منه أن أعذبه بالنار ‏"‏ ‏.‏ فقال الله عز وجل‏:‏ صدق عبد الرزاق وصدق معمر وصدق الزهري وصدق أنس وصدق نبيي وصدق جبريل وأنا قلت ذلك انطلقوا به إلى الجنة ‏.‏ ). هنا محاولة حنبلية للتأكيد بمنام كاذب على صحة هذا الحديث .

2 ـ وأعطوا هذه الرخصة لأبى بكر الأدمى بعد موته عام 348 . يفترى ابن الجوزى فى ( المنتظم ) : ( أخبرنا عبد الرحمن بن محمد أخبرنا أحمد بن علي قال‏:‏ حدثني علي بن أبي علي المعدل أخبرنا أبو بكر بن أبي موسى القاضي وأبو إسحق الطبري وغيرهما قالوا سمعنا أبا جعفر عبد الله بن إسماعيل بن بويه يقول‏:‏ رأيت أبا بكر الآدمي في النوم بعد موته بمديدة ، فقلت له : ما فعل الله بك ؟ فقال لي‏:‏ وقفني بين يديه وقاسيت شدائد وأمورًا صعبة‏.فقلت له‏:‏ فتلك الليالي والمواقف والقرآن فقال‏:‏ ما كان شيء أضر علي منها لأنها كانت للدنيا‏.فقلت له‏:‏ فإلى أي شيء انتهى أمرك قال‏:‏ قال لي الله عز وجل آليت على نفسي أن لا أعذب أبناء الثمانين‏.).

3 ـ  ويذكر مناما آخر عن أحد القضاة : أبو السائب عتبة بن عبيد الله المتوفى عام  350 : ( أخبرنا أبو منصور القزاز أخبرنا أبو بكر بن ثابت أخبرنا علي بن أبي علي المعدل أخبرنا أبو طاهر المخلص أخبرنا ابو بكر أحمد بن علي الذهبي المعروف‏:‏ بابن القطان قال‏:‏ رأيت أبا السائب عتبة بن عبيد الله قاضي القضاة بعد موته فقلت‏:‏ ما فعل الله بك مع تخليطك بهذا اللفظ ؟ فقال‏:‏ غفر لي . فقال‏:‏ كيف ذلك ؟ فقال : إن الله تعالى عرض عليّ أفعالي القبيحة ثم أمر بي إلى الجنة ، وقال‏:‏ لولا آليت على نفسي أن لا أعذب من جاوز الثمانين لعذبتك ، ولكني قد غفرت لك وعفوت عنك .اذهبوا به إلى الجنة فأُدخلتها‏.‏.)

ثالثا :  الجمع بين التطرف الحنبلى والانحلال

1 ـ من هنا لم يكن غريبا أن يشتهر قادة التطرف الحنبلى بالانحلال الخلقى . وأسوأ مثال لذلك هو زعيم الحنابلة فى عصره :  (محمد بن داود الظاهري) ت 297 . وقد تزعم أصحاب الحديث فى العراق وبغداد وحين جاء الطبري إلى بغداد فى أخريات عمره رأى فيه محمد بن داود منافسا خطيرا فكانت محنة الطبري على يديه ، إذ أن عشرات الألوف من فقهاء الحديث كادوا يفتكون بالطبري والجأوه إلى الهرب لبيته وحاصروه داخل البيت بسبب مسألة الاستواء على العرش، واتهامه بمخالفة رأى ابن حنبل ، وظل الطبرى محصورا فى داره سنوات إلى أن مات مقهورا ، ومنع فقهاء الحديث دفن الطبرى فلم يدفن إلا ليلا وفى داره .وكان الطبرى قد جاوز الثمانين بخمس سنين ، يقول عنه ابن كثير فى تاريخه عن مأساة الطبرى " ودفن فى داره لأن بعض العوام الحنابلة ورعاعهم منعوا دفنه نهارا ومن الجهلة من رماه بالإلحاد... وإنما تقلدوا ذلك عن أبى بكر محمد بن داود الفقيه الظاهري حيث كان يتكلم فيه ويرميه بالعظائم .". هذا هو الملمح الأول من شخصية محمد بن داود الظاهرى . الملمح الثانى الخاص بموضوعنا هو شهرته بالشذوذ الجنسى ، وإعلانه هذا بلا تحرّج . والحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي صاحب الكتاب الضخم " تاريخ بغداد " كتب سيرة محمد بن داود ضمن تاريخه لأهل بغداد ( 5 / 256 رقم 2750 )، وكتابه " تاريخ بغداد "( 14 جزءا )  هو المصدر الأساس للعصر العباسي ورجاله من بدايته الى القرن الخامس الهجرى ، وعنه نقل اللاحقون ترجمة محمد بن داود مثل ( المنتظم ) لابن الجوزى و( تاريخ ابن كثير ) و( الوافي بالوفيات ) للصفدى و( العبر ) للذهبي و( وفيات الأعيان ) لابن خلكان و( شذرات الذهب ) لابن العماد الحنبلي و( الفهرست ) لابن النديم . وذكر الخطيب البغدادي أن محمد بن داود كان ( يهوى فتى حدثا من أهل اصبهان ، يقال له "محمد بن جامع "،  ويقال له " ابن زخرف "..)، وكان ابن جامع هذا هو الذى ينفق على محمد بن داود ، حتى قيل ( لم يُر معشوق ينفق على عاشق غيره ) .ودخل المعشوق محمد بن جامع يوما الى الحمام وخرج ، فنظر فى المرآة فأعجبه حُسنه ، فغطى وجهه بمنديل ، وجاء الى محمد بن داود وهو على تلك الحالة فقال : ما هذا ؟ قال :"  نظرت فى المرآة فأعجبنى حُسنى فما أحببت أن يراه أحد قبلك .! "، فغشى على محمد بن داود من فرط العشق . وفى مجلسه الذى يفتى فيه ويروى الأحاديث جاءه رجل برقعه يستفتيه ، مكتوب فيها :

يا ابن داود يا فقيه العراق      أفتنا فى قواتل الأحداق

هل عليهن فى الجروح قصاص أم مباح لها دم العشاق ؟

فكتب له

كيف يفتيكم قتيل صريع   بسهام الفراق و الاشتياق

وقيل التلاق أحسن حالا  عند داود من قتيل الفراق .

وبسبب هذا العشق مات محمد بن داود شابا ، فقد دخل نفطويه النحوي على ابن داود وهو يحتضر فقال له : كيف نجدك ؟ فقال : حب من تعلم اورثنى ما ترى.." يشير الى غرامه بابن جامع .

2 ـ وكان على شاكلته الفقيه المحدث ( محمد بن مناذر) المتوفى عام 198 .قيل عنه ( سمع محمدًا وشعبة وسفيان بن عيينة وغيرهم ‏.‏ وكان محمد بن مناذر يتعبد ويتنسك ويلازم المسجد ، ثم هوى عبد المجيد بن عبد الوهاب الثقفي فتهتك وعدل عن التنسك وأظهر الخلاعة . وكان عبد المجيد من أحسن الناس وجهًا وأدبًا ولباسًا ، وكان يحب ابن مناذر أيضًا ). ( المنتظم 10 / 71 ).  

رابعا :  الجمع بين الانحلال والتدين السطحى

1 ـ هى ظاهرة أساس فى أى مجتمع يسيطر عليه دين أرضى ، فينتشر التدين السطحى المظهرى والاحتراف الدينى جنبا الى جنب مع الانحلال الخلقى ، سواء ما ظهر منه وما بطن . ويحكى ابن الأثير واقعة طريفة حدثت عام 409 وكانت مشهورة فى بغداد . وقتها كانت بغداد تعانى الفتن ـ كالعادة ـ فجاء السلطان البويهى بجنده الديالمة ليضبط الأمور ، وأنزل جنوده فى أحياء بغداد التى تركز فيها الشغب ، أى الكرخ وباب البصرة ، وعاث الجند الديالمة فسادا من الخمر والفسق . يقول ابن الأثير عن سلطان الدولة البويهى : ( وأنزل الديلم أطراف الكرخ وباب البصرة، ولم يكن قبل ذلك، ففعلوا من الفساد ما لم يشاهد مثله.فمن ذلك أن رجلاً من المستورين أغلق بابه عليه خوفاً منهم، فلما كان أول يوم من شهر رمضان خرج لحاجته، فرآهم على حال عظيم من شرب الخمر والفساد، فأراد الرجوع إلى بيته، فأكرهوه على الدخول معهم إلى دارٍ نزلوها، وألزموه بشرب الخمر فامتنع، فصبّوها في فيه ( فمه ) قهراً، وقالوا له: " قم إلى هذه المرأة فافعل بها "، فامتنع فألزموه، فدخل معها إلى بيت في الدار، وأعطاها دراهم، وقال: هذا أول يوم في رمضان، والمعصية فيه تتضاعف، وأحب أن تخبريهم أنني قد فعلت. فقالت: لا كرامة ولا عزازة، أنت تصون دينك عن الزناء وأنا أريد أن أصون أمانتي في هذا الشهر عن الكذب! فصارت هذه الحكاية سائرة في بغداد.) . التدين السطحى هنا يجعل الفاحشة أهون من الكذب لدى هذه المرأة المحترفة ، لأن شيوع الزنا جعله عادة لا ينجو منها إلّا القليل مثل هذا الرجل ( المستور ) .

خامسا : الجمع بين التوبة السطحية والهجوم على المواخير وقت الكوارث

1 ـ المواخير أو بيوت الزنا كانت تفتح أبوابها بشكل عادى تستقبل الزبائن وتدفع ضرائب للدولة ، كأحد المظاهر الحياتية الاجتماعية تسير جنبا الى جنب مع التعصب الحنبلى . واشتهر عضد الدولة البويهى بتشجيع المواخير وفرض الضرائب على المحترفات فيها . وفى ظل المواخير كانوا يتذكرون التوبة فقط عند حدوث الكوارث ، فيعطلون المواخير وبيوت الزنا . وننقل من صاحبنا ابن الجوزى ملامح ذلك الارتباط بين الكوارث والتوبة السطحية الوقتية .

2 ـ وأبرز مثل هو كارثة المجاعة والوباء عام 449 ، يقول ابن الجوزى فى المنتظم عن الغلاء وتحوله الى مجاعة : (  في العشر الأخير من المحرم ‏‏:‏ بلغت الكارة الدقيق تسعة دنانير ، وكدى ( أى إفتقر ) المتجملون ( أى المستورون ) وكثير من التجار، وأُكلت الكلاب والميتات ، ومات من الجوع في كل يوم خلق كثير ، وشوهدت امرأة معها فخذ كلب ميت قد اخضر وجاف وهي تنهشه ، ورمي من سطح طائر ميت فاجتمع عليه خمسة أنفس فاقتسموه وأكلوه،  ورؤي رجل قد شوى صبية في أتون فأكلهـا ، فقُتـل . وسُـدّدت أبواب دور مات أهلها ، وكان الإنسان يمشي في الطريق فلا يرى إلا الواحد بعد الواحد‏.‏) وقت هذه المحنة إعتدى الحنابلة على الشيعة فى الكرخ : ( وفي صفر هذه السنة‏:‏ كبست دار أبي جعفر الطوسي متكلم الشيعة بالكرخ ، وأخذ ما وجد من دفاتره، وكرسي كان يجلس عليه للكلام ، وأخرج ذلك إلى الكرخ ، وأضيف إليه ثلاثة مجانيق بيض كان الزوار من أهل الكرخ قديمًا يحملونها معهم إذا قصدوا زيارة الكوفة فأحرق الجميع‏. ) .‏ وكالعادة ينتج عن المجاعة وباء بسبب كثرة الجثث والجيف، ويتنقل الوباء بين البلاد : ( وفي جمادى الآخرة‏:‏ ورد كتاب من تجار ما وراء النهر، قد وقع في هذه الديار وباء عظيم مسرف زائد عن الحد ، حتى انه خرج من هذا الإقليم في يوم واحد ثمانية عشرة ألف جنازة ، وأحصي من مات إلى أن كتب هذا الكتاب فكانوا ألف وستمائة ألف وخمسين ألفًا . والناس يمرون في هذه البلاد فلا يرون إلا أسواقًا فارغة وطرقات خالية وأبوابًا مغلقة ، حتى إن البقر نفقت‏.‏ وجاء الخبر من آذربيجان وتلك الأعمال بالوباء العظيم ، وأنه لم يسلم إلا العد القليل‏.‏ ووقع وباء بالأهواز وأعمالها وبواسط وبالنيل ومطير أباذ والكوفة وطبق الأرض ، حتى كان يخد للعشرين والثلاثين زبية ( قبر ) فيلقون فيها . وكان أكثر سبب ذلك الجوع . وكـان الفقـراء يشـوون الكلاب ، وينبشون القبور فيشوون الموتى ويأكلونهم . وكان لرجل جريبان أرضًا دفع إليه في ثمنها عشرة دنانير فلم يبعها فباعها حينئذ بخمسة أرطال خبز وأكلها ومات مـن وقتـه‏.‏ وطويـت التجارات وأمور الدنيا ، وليس للناس شغل في الليل والنهار إلا غسل الأموات والتجهز والدفن. ) فى هذه المحنة ظهرت التوبة الوقتية : ( وتاب الناس كلهم ، وتصدقوا بمعظم أموالهم ، وأراقوا الخمور ، وكسروا المعازف ، ولزموا المساجد لقراءة القرآن خصوصًا العمال والظلمة . وكل دار فيها خمر يموت أهلها في ليلة واحدة . ووجدوا دارًا فيها ثمانية عشر نفسًا موتى ففتشـوا متاعهـم فوجـدوا خابيـة خمـر فأراقوهـا . ودخلوا على مريض طال نزعه سبعة أيام فأشار بإصبعه إلى خابية خمر فقلبوها ، وخلصه الله تعالى من السكرة . وقبل ذلك كان من يدخل هذه الدار يموت . ومن كان مع امرأة حرامًا ماتا من ساعتهما . وكل مسلمين بينهما هجران وأذى فلم يصطلحا ماتا معًا . ومـن دخـل الـدار ليأخـذ شيئًا مما قد تخلف فيها وجدوا المتاع معه وهو ميت‏.‏ ) . واضح هنا أن الاشاعات ربطت الموت ( كعقوبة ) بإفتراف المعاصى طلبا للتوبة .

3 ـ وعادت المواخير الى عملها بكامل طاقتها بعد زوال المحنة الى أن حدثت محنة أخرى عام  454: ( فـي ربيـع الأول‏:.. ورد سيل شديد ليلًا ونهارًا فوقف الماء في الدروب ، وسقطت منه الحيطان ، واتصل المطر والغيم بقية آذار وجميع نيسان حتى لم يجد يوم ذاك وكان في أثنائه من البرد الكبار ما أهلك كثيرًا من الثمار.. ) ويستطرد ابن الجوزى فى وصف هذه الكارثة المناخية الى أن يقول : (   ‏وفي ربيع الآخر‏:‏ عطلت المواخير وغلقت ونودي بإزالتها . وكان السبب أنه كثر الفساد وشرب الخمر. ) .

4 ـ وعادت المواخير تعمل بكامل طاقتها عشر سنوات الى أن حدث زلزال عام 464 . ( وفـي ليلـة الجمعـة لأربـع بقيـن مـن ربيع الآخر وقت طلوع الفجر ‏:‏ حدثت زلزلة ارتجت لها الأرض ست مرات‏.‏ ) واستنكر فقيه حنبلى خروج مغنية من دار أحد القواد الأتراك وكسر العود الذى تحمله فعاقبه القائد التركى فثار الحنابلة ( .. واجتمـع الحنابلـة في جامع القصر من الغد ، فأقاموا فيه مستغيثين ..وطلبوا قلع المواخير وتتبع المفسدات ومن يبيع النبيذ ..فتقدم أمير المؤمنين بذلك ، فهرب المفسـدات وكبسـت الـدور وارتفعـت الأنبـذة ووُعـد بقلـع المواخيـر ، ومكاتبة عضد الدولة برفعها . )،.

5 ـ وتكرر نفس الحال عام  469 في ذي القعدة‏، حيث :‏ ( كثرت العلل والأمراض ببغداد وواسط السواد ، وكثر الموت حتى بقي معظم الغلات  بحالها في الصحراء لعدم من يرفعها . وورد الخبر من الشام كذلك‏.‏ ) وكالعادة ظهرت التوبة الوقتية : ( وفي يوم الأربعـاء لعشـر بقيـن من ذي القعـدة‏:‏ أزيلـت المواخيـر ودور الفسـق ببغـداد ، ونقضـت وهـرب الفواسـق، وذلـك لخطـاب جـرى من الخليفة للشحنة الذي كانت هذه إقطاعه، وبذل له عنها ألف دينار فامتنع ، وقال‏:‏ "هذه يحصل منها ألف وثماني مائة دينار". فكوتب النظام بمـا جـرى فعوض الشحنة من عنده وكتب بإزالتها‏.‏) أى كان متولى الشرطة يأخذ مرتبه أو ( إقطاعه 1800 دينار ) من تلك المواخير وعرق المومسات ، فرفض إزالتها ، فتم تعويضه .

أخيرا

يقول جل وعلا فى سورة الزمر عن التدين السطحى والتوبة الوقتية عند الكوارث : (  وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8)).   

ودائما : صدق الله العظيم .!!

اجمالي القراءات 16811