التطور الطبيعي للثورة المصرية(2-1)

سامح عسكر في الثلاثاء ١٧ - ديسمبر - ٢٠١٣ ١٢:٠٠ صباحاً

لم يكن يدور في أذهان الشباب الذين قاموا بثورة يناير أن تنتقل السلطة بهذا الشكل من حكومة مستبدة إلى حكومة دينية فاشية أرست دستوراً للبلاد يعود بها إلى عصر الشافعي وابن حنبل، وأن ما عقدته من مقارنات بين الثورة الفرنسية والثورة المصرية لم يكن إلا هلاوس سمعية وبصرية من أثر الجهل والانحطاط الذي تعاني منه الأمة باختلاف توجهاتها الدينية والعلمانية، وأن أمانيهم بإعدام مبارك قياساً على إعدام ماري أنطوانيت ولويس السادس عشر كانت أمنيات فارغة تجهل طبيعة الدولة الحديثة وتأثير الإعلام، وربما لو جرت المحاكمة منذ 100 عام لكان لهم ما أرادوا.

لقد خدعتهم مشاهد اقتحام السجون المصرية وظنوا أن الباستيل الفرنسي يتكرر بصورة مصرية، وتوهموا أن مبادئ العلمانية يمكن تطبيقها بمجرد الشعار، وتناسوا أن الشعب المصري يئن تحت وطأة الجهل والفقر حتى ذهبوا فريسة لتجار الدين، هؤلاء الكهنة باسم الدين الذين ثارت عليهم جماهير فرنسا هم أنفسهم من ساهموا في صنُع ثورة يناير، حتى وفي تشكيل وتنظيم المؤسسات بعد ذلك كان لهؤلاء الكهنة الدور البارز في شيوع العاطفة الدينية وما لَحِقها من صعود الإخوان إلى السلطة، حتى بات القصر الجمهوري مبيتاً شبه دائم لشيوخ الجهل والسفاهة والكذب.

لقد قرأ هؤلاء الشباب عن الشيوعية والليبرالية قبل أن ينظروا في دينهم وينقوه من هذه الهلاوس التي شربوها من هؤلاء الكهنة، تلك الهلاوس التي جعلت بعض الشباب الليبرالي يهتفون مع الإخوان وحازمون بضرورة عودة الخلافة الإسلامية، بيد أنه قد انطبعت في أذهانهم صورة الدين كما يتخيله هؤلاء المتخلفون عن الركب الحضاري، وما كان تميزهم عن الجماعات الدينية بالقراءة والإطلاع إلا بمعلومات لا قيمة لها على الأرض، بعدما أفرغوا ثقافتهم من كل شئ حي ونبيل، وأصبحت عقولهم تفكر كما الشيخ الذي يكفر بالديمقراطية ثم يترشّح في البرلمان.

مجرد مصالح جعلت التنوير رهينة للصراعات السياسية بل والطبقية، وهذا يعني أنه لا تنوير في مصر طالما كان الصراع، وأن سيطرة الجماعات الإخوانية والوهّابية جاءت كبديل عن قوة هؤلاء الشباب الذين ظهروا ضعفاء للغاية ليس فقط على المستوى النظري والعقلي، بل على المستوى السلوكي والعملي، هؤلاء هم من صعدوا بالإخوان على كرسي السلطة، وحين اكتشفوا متأخراً أن الإخوان فاشيون لا سياسة لهم ولا عقل قرروا الثورة عليهم، ولكن فات الأوان وسحقتهم داخلية الإخوان، ولولا أن الإخوان كانوا أغبياء واكتسبوا عداوة الجميع ما كان للجماهير أن تنزل بمليونيات عظيمة في يونيو ويوليو الماضي حتى أجبرت الجيش للانصياع لهم وحماية البلاد.

يمكن تفسير الثورة المصرية أنها تطورت من الاندفاع والجهل، إلى الحرص والعلم، لقد نَشَط من يدعون إلى فصل الدين عن الدولة إعلامياً وشعبياً، وأصبح من المعتاد أن نرى من يطعن في تراث هؤلاء الكهنة ويرى ضرورة تجديده لمواكبة العصر، وأن ما يرفعه البعض من شعارات هو في حقيقته استخدام للشعار ولا يعني بالضرورة تبينه كمنهج، ولولا فشل الإخوان في السلطة ما رأينا هذا المشهد ، وستنتشر دعاوى الخلافة والشريعة في الإعلام، ويظهر لها المُنظّرون من القواعد والتكفيريين، وستغلب العاطفة الدينية الشعبية على منطق التنويريين، وستنتقل مصر رسمياً إلى عصر الشافعي وابن حنبل ويبقى تحصيل الجزية وقتل المرتد ورجم الزُناة مسألة وقت .

كل ذلك جاء عن أثر الانفصام عن الواقع وعدم الاعتراف رسمياً وشعبياً أن ما يُسمى.."بالربيع العربي"..هو في حقيقته ربيع إخواني أصولي وهّابي، لا علاقة له بالتنوير، وأن الهدف منه هو إعادة البوصلة إلى الوراء حيث عصر الفتوحات والغزوات، حتى رأينا في سوريا من يجهر علناً بأن الدور بعد بشار الأسد سيكون كذا وكذا حتى نفتح العالَم، وأن الكفار والمرتدين والملاحدة هم من يكرهون ثورات العرب، هكذا كانوا صُرحاء في سوريا، ولكن أقرانهم في مصر استعملوا التقية ولم يجهروا بما جاشت به صدورهم من أحلام التوسع والهيمنة على مقدرات الشعوب باسم الدين.

وقد صدقهم هؤلاء الشباب السُذج العبيط وسهّلوا لهم عمليات الاستيلاء على السُلطة، ولكن تزول الغرابة بعدما ظهر من هويته أنه مجرد شباب فارغ المضمون سهل ترويضه وتدجينه، وأنه ينخدع بالشعار مثلما ينخدع الإخوان بالشريعة والخلافة، وأن الفارق بينهم وبين ما قام به مارتن لوثر (ت 1546م)هو أن مارتن رأى أن الثورة الحقيقية تأتي من الإصلاح الديني وحصار الكهنة في معابدهم ألا يتدخلوا في شئون الناس، بينما هم رأوا أن الثورة هي مجرد تحقيق أحلامهم بالعدل والمساواة دون النظر للإصلاح الديني الذي لا يصح في حق الإسلام كما يزعمون ، وأن الفارق بين ربيعهم وربيع الشعوب الأوروبية عام 1848 ومن قبله الثورة الفرنسية، هو أن الشعوب الأوربية رفعت صور علماء التنوير والإصلاح الديني والفكري، وكانت ثوراتهم بالأصل ضد رجال الدين وكهنة الكذب على الله وعلى الناس.

الفارق بين الثورة المصرية والثورة الفرنسية ظهر مما رفعته الجماهير من أسماء ومبادئ وليس من شعارات ثورية فارغة، فالفرنسيون رفعوا صور جان جاك روسو وفولتير اللذان توفيا في عامٍ واحد قبل اندلاع الثورة الفرنسية بأحد عشر عاما، وبرفع صورهم رفعوا بالضرورة مبادئهم وأفكارهم التنويرية، والتي تمثلت في أبرز مؤلفات روسو.."العقد الاجتماعي"..الذي كان له الدور الكبير في رسم ملامح المجتمع الفرنسي بعد الثورة، بينما لا نجد ذلك حاضراً في الثورة المصرية، أو بالأحرى أن العكس تماماً هو الذي حدث، فجماهير التحرير رفعت صور القرضاوي حتى جاء لإمامتهم في الميدان، ومن هنا يظهر التشابه بين الثورة المصرية وثورة الخوميني في إيران.

إن الفشل في تقدير هذه الصورة الدينية الأصولية للربيع العربي جاء عن جهل تام بطبيعة الشعوب العربية، هذه الطبيعة الدينية الأصولية التي صنعتها السلفية الوهّابية خصوصاً في العقود الخمس الأخيرة حيث زمن البترودولار ونشر السلفية بين الشعوب بالمجّان، حتى أن الأزهر فشل في التصدي لتلك الهَجمة ونجح الوهّابيون الإخوان في اختراقه، بل وتهديد منصب.."شيخ الأزهر"..الذي ظل حِكراً على المتصوفة الأشعرية منذ انتهاء عصر الفاطميين وإلى الآن، بل وحتى بعد سقوط الإخوان لا زالت دعاويهم ضد الأزهر تجد رواجاً بين البعض من حيث الصورة المطبوعة بأن مسئولي الدولة ومؤسساتها -كالأزهر مثلاً –هم عُملاء للحاكم بالضرورة.

إن ما يشفع للأزهر ليس مجرد وقوفه مع الشعب في ثورته في 30 يونيو، أو تحفظه لما حدث في ثورة يناير ووقوفه على الحياد، بل أعظم ما يشفع للأزهر أنه لا زال يُمثل العاطفة الدينية للمصريين حتى لو اختلفوا معه، وأن هذا التمثيل يخدم بقاء الدولة المصرية ألا تذهب في رياح الفوضى ، وأن الغالبية من شيوخ الأزهر هم فقراء يحملون همّ الشعب، بخلاف كهنة السلفية والإخوان الذي أراهم من أبرز معالم الرأسمالية والثراء الفاحش في عالمنا العربي، أكثرية شيوخ السلفية من الأغنياء، يقابلهم أكثرية شيوخ الأزهر من الفقراء، وهذا يعود بالأذهان إلى ثراء الكنيسة الفرنسية الفاحش مقابل إفلاس الدولة ما قبل الثورة، حين أجبر ذلك فقراء فرنسا في الريف إلى اللجوء للكنيسة حيث العطايا والهدايا، وبالطبع لن يكون ذلك بالمجان، بل المقابل أن تسود رؤى الكنيسة مقابل رؤى التنويريين المارقة!

اجمالي القراءات 9411