1 ـ وصلتنى هذه الرسالة من أحد الأحبة من أبنائى ( اهل القرآن ) . وأجيب عليها فى هذا المقال . قال : (منذ فترة وأنا اتتبع مقالاتك منتظراً بشوق قراءة رأيك السياسي في مجريات الأحداث المصرية بعد الإنقلاب العسكري أو بعد اسقاط حكومة الأخوان، وعودة العسكر بأيديهم الملطخة بالدماء والإعلام المنافق ومنع الحريات وقانون الإعتصامات والدستور الجديد. انا من المهتمين جدا بآرائك السياسية أيضاً. . ).
وتصادف يوم السبت الماضى أن كان منزلنا مزدحما بالضيوف فقد جاء ابنى الشريف منصور من نيويورك فى زيارته الشهرية ، والعادة ان ينتظره أصدقاؤه من المصريين المغتربين فى منطقة واشنطن وضواحيها ، وكلهم ناشطون معه ، وكانت مناسبة عيد ميلاده فاتسع الجمع للمزيد من الأصدقاء ، وعلى العادة تحول الحديث الى السياسة ومصر ، وهذا فى جلستين : أحدهما للشباب من أصدقاء شريف جلسوا ـ على راحتهم ـ فى الدور الأرضى ، وجلست مع بعض أصدقائى ( الكهول والشيوخ ) . وكان منهم الاستاذ مختار كامل رئيس تحالف المصريين الأمريكييين . جاء دورى فى الحديث وكان عن حاضر مصر بين العسكر والاخوان . وكنت قد كتبت فى ذلك كثيرا ، ولا أحب تذكير الأصدقاء كل وقت وأقول ( لقد كتبت فى هذا من قبل ) ـو ( لقد تنبأت بهذا ووقع بالفعل ) . كان مفروضا حين أتكلم أن آتى بالجديد فى الوضع المصرى ، خصوصا وقد توقفت عن الكتابة السياسية من مدة طويلة بسبب التفرغ لبحث ( الشفاعة ) والتاريخ الأسود للحنابلة فى العصر العباسى الثانى . قلت رأيى فى الوضع المصرى والصراع بين الاخوان والعسكر ، والرد على التخوفات من رجوع الاستبداد العسكرى . وأكتبه هنا إستجابة لابنى الحبيب من أهل القرآن .
2ـ ـ إن الوضع فى مصر بعد سقوط مبارك يشبه أتوبيسا مكتظا بالركاب من مختلف الأجيال . لقد جثم مبارك على صدر مصر والمصريين ثلاثين عاما من الاستبداد والجمود والخمود ، متحكما فى كل شىء ومعه عائلته وبطانته الفاسدة التى لا يقترب منها إلا من له سجل عات من الفساد . عاش المصريون ثلاثين عاما تحت قهر مبارك وعسكره وشرطته ، بلا شعاع أمل ، الى أن وصلت الأمور الى نهايتها فقامت ثورة 25 يناير 2011 . ذهب مبارك ـ وهى حىُّ ـ الى زبالة التاريخ ، ولكن ذهابه أشعل حماسا لأجيال ظلت محبوسة مقهورة ثلاثين عاما ، وجاءها الوقت لكى تعبر عن نفسها . هناك جيل محمد حسنين هيكل الذى لا يزال نشطا وقد تعدى التسعين . وهناك جيل تعدى الثمانين : يحيى الجمل والجنزورى ورفعت السعيد ، وهناك جيل الببلاوى وسعد الدين ابراهيم والعوا وقد تعدى السبعين ، وهناك جيلى وقد تعدى الستين والى نفس الجيل ينتمى عاشور نقيب المحامين ونجاد البرعى وفريد زهران وأمير سالم و مصطفى بكرى وأسامة الغزالى حرب والسيد البدوى ..الخ . ثم هناك جيل د عثمان محمد على وابراهيم عيسى ثم جيل بلال فضل الى أن نصل الى جيل الشباب من سنّ اينائى محمد وشريف وأمير وحسام ( فى الثلاثينيات ) ثم جيل العشرينيات ، جيل جيكا وشباب كفاية وشباب تمرد ، وصولا الى الأطفال الذين شاركوا فى المظاهرات من 25 يناير 2011 ولا يزالون .
3 ـ من الممكن أن يسير الاتوبيس المصرى المكتظ بأجياله بهدوء ، وقد كان يسير بهدوء وخمول ثلاثين عاما فى عصر الملعون الذى كان يسيطر وحده على عجلة القيادة ، والباقون مجرد ركاب ، ومن يعترض منهم يُلقى به خارج الاتوبيس . الوضع إختلف مع نفس الركاب بعد إلقاء السائق الملعون فى صفيحة الزبالة . الركاب كلهم تحولوا الى تنازع ، كلهم يريد أن يحتل موقع قيادة الأتوبيس . لم يعودوا ركابا مؤدبين سامعين طائعين ، بل هناك على الأقل ( حراك ) أو على الأصح ( صراع ) . وهو الذى يحدث الآن .
4 ـ وأضطر للقول بأنى قلت من قبل بأهمية أن يصل الاخوان للحكم ليتم فضحهم ، فقد مكثوا ثمانين عاما يخططون فى الظلام للوصول الى حكم مصر دون أن يفكروا ثمانين دقيقة فى كيفية حكم مصر. وقلت فى مقالا ( غسيل المواعين ) بأن مصر تحتاج للعسكر لتنظيفها من الاخوان ، ثم لا بد أن تتخلص من إستبداد العسكر ليقتصر دور الجيش على حماية الوطن ويقتصر دور الشرطة على حماية المواطن . وفى حديث صحفى لصحيفة خليجية لم يتم نشره فنشرته هنا تنبأت بأن المعركة القادمة فى مصر هى فى التخلص من الاستبداد العسكرى بعد التخلص من الاخوان ،وقلت وقتها إن التخلص من الاخوان ليس سهلا لأنهم لا يعرفون سوى المعادلة الصفرية : إما أن نحكمكم وأما أن نقتلكم ، علاوة على أن التحدى الحقيقى هو فى التخلص من الوهابية السنية ، وهى أيدلوجية الاخوان الدينية والسياسية ، ولقد تشرّبها المصريون خلال اربعين عاما على أنها الاسلام .ويجب مناقشة الوهابها إسلاميا وتاريخيا ، وهذا ما نقوم به .
هذا هو المناخ الذى يتنفسه المصريون الذين تحول أكثرهم الى ناشطين من مختلف الأجيال ، من حسنين هيكل الى شباب تمرد .
5 ـ بالزمن وما يجرى فيه من احتكاك وصراع ستتغير المعادلة وستصل مصر الى برّ الأمان . بعد خمس سنوات سينتهى جيل هيكل ويحيى الجمل والببلاوى والجنزورى وعمرو موسى ، ثم سيلحقه جيل سعد الدين ابراهيم والعوا ، وسيصمد قليلا جيل جورج اسحاق وفريد زهران وأسامة الغزالى حرب والسيد البدوى ، ولكن سيضطر الى الاختفاء ويتحول الى طابور أسحاب المعاشات ...، وبعد عشر سنوات سيتولى قيادة مصر جيل الخمسين وما تحت الخمسين ، وسيضطرون الى إقساح المجال للشياب من صانعى ثورتى 25 يناير و 30 يونية .
الوضع سيكون أفضل فى المستقبل يعونه جل وعلا لأن هذا الشباب سيكتسب خبرة ووعيا بأهمية الاصلاح بالمعاناة والاحتكاك والعمل السياسى فى الشارع وعلى أجهزة الاعلام وفضاء الانترنت . هذا الشباب هو صانع الثورة والذى تم إختطاف ثورته من الاخوان والعسكر وعواجيز السياسة ورؤساء الأحزاب الورقية ، هو الذى ضحّى وبذل الدم وعانى من الاعتقال فى عهد مبارك والمجلس العسكرى والاخوان والسيسى ( دومة ، علاء عبد الفتاح مثالا ). هذا الشباب هو صاحب الحاضر وشريك فى صناعته ، ولكنه وحده هو صاحب المستقبل ، وبالخبرة والمعاناة لن يسمح بتضييع ثمار ثوراته ودماء شهدائه . أى فى النهاية فهذا الشباب هو الذى سيحكم مصر وقد تعلم وتهيأ لحمل المسئولية ، وهو الأعرف بمعاناة المصريين والأحرص على تحقيق طموحاتهم .
6 ، ولكن الأمر ليس سهلا . فالزمن وحده ليس كافيا لاحالة القادة الحاليين الى المعاش والاستيداع ، لا بد من صراع سياسى.. ولتخفيف وترشيد هذا الصراع السياسى فلا بد من إصلاح تشريعى دستورى وقانونى يؤسس دولة علمانية حقوقية ديمقراطية تضمن للفرد كرامته والعدالة الاجتماعية وحريته المطلقة فى الدين والاعتقاد والعبادة وفى الفكر والرأى وفى الحركة السياسية السلمية ، وتضمن تعليما راقيا مجانيا من الطفولة الى الجامعة ، وتجعل دور الأزهر فى حماية الحرية الدينية والسياسية للمواطن المصرى ، وأن يقف ضد إستغلال الدين فى العمل السياسى لأن دين الله جل وعلا أقدس من أن يكون مطية للوصول للحكم ... البدء بالاصلاح التشريعى وتنقية قانون العقوبات المصرى هو الخطوة الأولى التى ستحفف من حدة الصراع وتقلل آثاره الجانبية وتقلل من وقته لتدخل مصر الى عصر الاستقرار السياسى على أسس الحرية والعدل .
7 ـ لا مجال هنا للمبالغة فى التخوف من العسكر والشرطة . فالشعب المصرى عبر جدار الخوف ، وقادة الجيش والشرطة تعلموا من تجاربهم السيئة السابقة . وهم يعرفون أنهم عاجلا أو آجلا سيتركون مناصبهم وسيتحولون الى أفراد عاديين يحتاجون الى من يرعاهم ويدافع عنهم . وهم قد رأوا ما حدث خلال ثلاثة أعوام للملعون المخلوع وللمعزول المهبول ، ويرون مصير حبيب العادلى ، ويرون عزل المجلس العسكرى ووزراء الداخلية الذين تعاقبوا من وجدى الى غيره ..خلال ثلاثة أعوام عرفت مصر رئيسا مخلوها ورئيسا معزولا ورئيسا مؤقتا ، وتنتظر رئيسا منتحبا لمدة أربع سنوات أو ثمانى سنوات فقط . والأهم من ذلك كله عرفت مصر كيف تعزل رئيسا منتخبا ، وعرفت كيف يلجأ قائد الجيش للشعب ويأتمر بأمره ، وعرفت ( الإحراق السياسى ) أى أن يتم فضح إنسان وتعريته بنقده وكشف فضائحه بحيث لا يفترب من المنافسة على المناصيب الكبرى إلا الأقل فى سجل الفساد .
8 ـ لا مجال من التحوف من العسكر والشرطة وما يحدث الآن من صراع مع الاخوان وفصائلهم العسكرية فى سيناء ومدن القناة وتنظيماتهم السرية فى الجامعات وفى المظاهرات . أضطر للذكير بأننى قلت فى مقال سابق وقت حكم مرسى إنّ ( الاخوان شؤم ) لأنهم إن ظلوا فى الحكم سيدمرون مصر وأن تم عزلهم سيلجأون للعمل السرى بما يستلزم معه فرض هيبة الدولة بما يُعيد الخوف من إحتمال عودة الدولة البوليسية . ما يحدث الآن مهما بلغ تجاوزه لا يُقارن بعهد الملعون المخلوع . ثم إنه فى مواجهة إرهاب حقيقى يستهدف الدولة ، ولا بد للدولة أن تتصدى له ، خصوصا وأن سُمعة الإخوان سيئة فى مجال الارهاب وسفك الدماء ، هناك تجاوز يحدث لا بد من غقاب المسئول عنه ، وسيأتى وقت العقاب ، ولكن الأهم هو الحفاظ على الدولة المصرية العتيدة ، وهذا لا يكون إلا بالحفاظ على جيشها . وهذا يتأتى بتفرغ الجيش للدفاع عن الوطن والحيلولة من عمله بالسياسة . منع الجيش من الحُكم هو واجب وطنى وإحترام لدوره وشرفه الغسكرى .
9 ـ لا مجال للتخوف من العسكر والشرطة ، فهى على حدّ قول المصريين ( شدّة وتزول ) . المهم ( ألّا تطول ) . وكى لا تطول لا بد من تسريغ الاصلاح ، وانتحاب الرئيس ومجلس النواب ، والبدء فى اصلاح التشريع المصرى و التعليم المصرى والاقتصاد المصرى .