نصت المادة السادسة من القانون رقم 462 لسنة 1955 علي تطبيق الشريعة الإسلامية علي المسيحيين في حالة اختلافهم في الملة أو الطائفة. ونقل المشرع بعد ذلك هذا النص حرفيا إلي المادة 3 من القانون رقم 1 لسنة 2000.
والنص علي هذا النحو يخالف قصد المشرع، الذي أراد تطبيق الشريعة المسيحية علي المسيحيين، والذي قال في مذكرته الإيضاحية «حتي لا يكون هناك إخلال بحق أي فريق من المصريين مسلمين أو غير مسلمين في تطبيق شريعة كل منهم». وهكذا جاء النص مخالفا لحكمته وهي احترام قاعدة المساواة الدستورية بين المواطنين، بل ومخالفا أيضا لأحكام الشريعة الإسلامية ذاتها، حيث أفتي مجمع البحوث الإسلامية في 19/10/1997 بعدم جواز تطبيق الشريعة الإسلامية علي الزواج المنعقد بين مصريين مسيحيين يختلفان في الملة أو الطائفة أخذا بما عرف عن خاتم المرسلين محمد صلي الله عليه وسلم من أنه كان يأمر قضاة المسلمين بأن يطبقوا علي زواج أهل الكتاب من غير المسلمين شرائعهم، وهو ما أيده أخيرا شيخ الأزهر في حديثه الصحفي بجريدة الأهرام بتاريخ 10/7/2010.
وقد تسبب هذا النص المعيب في الكثير من الضيق والحرج والاحتقان، وهو السبب الرئيسي وراء كل القضايا القانونية المعلقة بين الدولة والكنيسة، فهو يمثل القضية الكبري التي يعاني منها المسيحيون في مصر في الوقت الحاضر.
وقد حاولت محكمة النقض - أعرق المحاكم المصرية علي الإطلاق - الحد من عيوب هذا النص، فقررت عدم تطبيق مبدأ تعدد الزوجات في الشريعة الإسلامية، علي غير المسلمين ولو اختلفوا في الملة أو الطائفة، وهي بهذا تخالف النص مخالفة صريحة بعد أن وضعت قاعدة قانونية قضائية من صنعها.
ومع ذلك فقد أجازت محكمة النقض تطبيق الشريعة الإسلامية في مسألة الطلاق، فالزواج المسيحي المختلف مع زوجته في الملة أو الطائفة يستطيع أن يطلقها بإرادته المنفردة طبقا للشريعة الإسلامية، ولا يحكم القاضي بوقوع الطلاق، بل يثب وقوعه بالإرادة المنفردة للزوج.
والسبب التاريخي لهذا النص المعيب، أن المشرع الذي وضعه كان يجهل بوجود قواعد تنازع القوانين في القانون المدني، فوقع في حيرة من أمره إزاء مشكلة الاختلاف في الملة أو الطائفة، ولم يعثر لها علي حل إلا بتطبيق الشريعة الإسلامية التي لا علاقة لها بأطراف النزاع، ولو كان يعلم بوجود قواعد التنازع، لكان قد طبقها حتما لكونها تؤدي إلي تحقيق قصده قطعا.
ولقد تكونت لجنة قانونية علمية، من بعض أكبر أساتذة القانون في مصر، رأت من واجبها الوطني أن ترفع الحرج والضيق والاحتقان الذي تسبب فيه تطبيق الشريعة الإسلامية علي زواج المسيحيين، فوضعت نصا بتعديل المادة السادسة من القانون 462 لسنة 1955، التي أصبحت المادة الثالثة من القانون رقم 1 لسنة 2000.
وقد حقق هذا التعديل المقترح هدفين أساسيين: الأول هو إلغاء الحكم بتطبيق الشريعة الإسلامية علي زواج غير المسلمين وتطبيق شرائعهم فقط طبقا لقواعد تنازع القوانين المنصوص عليها في القانون المدني، بحيث يرجع في الشروط الموضوعية لصحة الزواج إلي شريعة كل من الزوجين وقت انعقاد الزواج. أما آثار الزواج فتسري عليها شريعة الزوج وقت الزواج. وتسري علي الطلاق الشريعة التي ينتمي إليها الزوج وقت الطلاق، وتسري علي التطليق والانفصال شريعة الزوج وقت رفع الدعوي.
ونص المشروع المقترح علي أنه يجوز لغير المسلمين عقد زواج مدني إذا تعذر عقد زواج ديني حتي لا تفرض الدولة علي الكنيسة عقد زواج ديني لا توافق عليه، وتحل في نفس الوقت مشكلة الزواج الثاني للمسيحيين الذين لا ترغب الكنيسة في تزويجهم، علي أن تخضع شروط هذا الزواج وآثاره وكذلك انحلاله لشريعة الطرفين أو أيهما وفقا لقواعد التنازع سالفة البيان.
أما الهدف الثاني الذي حققه التعديل المقترح من لجنة كبار أساتذة القانون في مصر، فهو تلافي العيب الخطير الموجود في نص المادة 3 من القانون رقم 1 لسنة 2000 القائم حاليا والذي يقرر تعدد الشرائع الدينية في كل مسائل الأحوال الشخصية في مصر، علي الرغم من أن القانون قد تم توحيده بالفعل بالنسبة لمعظم هذه المسائل ليخضع المصريون جميعا، وبصرف النظر عن دياناتهم، لقواعد موحدة عملا بالتوجهات الوطنية التي كان المصريون جميعا -من أبناء جيلي ومن سبقهم- حريصين عليها في ذلك الوقت. ولم يبق دون توحيد سوي المسائل المتعلقة بالأسرة من زواج وطلاق كما بينا، وحتي في مسائل الأسرة فقد تم توحيد القانون في مسألة النسب لارتباطها بالميراث، وفي مسألة المسئولية المدنية عن فسخ الخطبة.
وقد أوقع هذا العيب الخطير في نص المادة الثالثة من القانون رقم 1 لسنة 2000 الكثيرين في الخطأ، بما في ذلك المحكمة الدستورية العليا ذاتها، والتي أصدرت في 9/12/2001 حكما بعدم دستورية المادة 177 من لائحة الأقباط الأرثوذكس لسنة 1938، التي تنص علي اعتبار المفقود ميتا بعد ثلاثين عاما من تاريخ فقد وبينما القانون قد تم توحيده في مسألة اعتبار المفقود ميتا طبقا للمادة 32 من القانون المدني، ولم يعد نص اللائحة المذكورة منطبقا أصلا، وبالتالي لم يكن هناك أي مبرر للحكم بعدم دستوريته، لولا العيب الخطير في صياغة المادة موضوع التعديل.
وإذا تم تعديل نص المادة 3 من القانون رقم 1 لسنة 2000 القائم حاليا علي النحو الذي اقترحته اللجنة المشكلة من كبار أساتذة القانون في مصر ستزول كل القضايا المعلقة بين الدولة والكنيسة، وستحقق الدولة إصلاحا تشريعيا كبيرا، يرفع المعاناة عن المسيحيين التي دامت أكثر من نصف قرن من الزمان. ولن تكون هناك حاجة بعد ذلك لإصدار القانون الموحد الذي تحدثت عنه وسائل الإعلام كثيرا، والذي يبدو أن البعض قد انتهز فرصة الحديث حول اقتراب إصداره لإعادة النظر في موضوعات سبق توحيد حكم القانون المصري في شأنها بالنسبة للمصريين جميعا، وكأننا نريد العودة إلي زمان التوسع في تعدد الشرائع الدينية المنطبقة علي مواطني الدولة الواحدة، بعد أن كان تطور التشريع الوطني قد تخطي هذه المرحلة بتوحيد أحكام القانون المصري في معظم مسائل الأحوال الشخصية للمصريين جميعا، وإلغاء المحاكم الشرعية والمجالس الملية توحيدا لجهة القضاء التي تنظر في المنازعات المتعلقة بهذه المسائل، ولم يبق خاضعا لأحكام الشرائع الدينية سوي المسائل المتعلقة بالأسرة. فهل يريد بنا البعض الآن أن نرتد عن هذا التطور المحمود الذي كان يهدف إلي توحد المصريين في ظل دولة مدنية وطنية قوية لنعود إلي ظلام الفرقة الدينية التي تنال من قوة الدولة ووحدتها؟
فالأقباط الأرثوذكس في غير حاجة إلي هذا القانون الموحد بعد أن سبق أن أصدر المجلس الملي العام قرارا نشر في الوقائع المصرية عام 2008 بتعديل لائحة 1938 بما يحقق رغبتهم في قصر أسباب التطليق علي الزني وتغيير الديانة، وهو قرار تطبقه بعض المحاكم في مصر الآن، كما تلتزم الكنيسة المصرية بهذا التفسير للكتاب المقدس عند إبرام الزواج بمعرفتها. وقد لا تكون من الحكمة مطالبة الدولة بالتسرع في إصدار تشريع من مجلس الشعب الآن، مؤكدا لهذا المعني في وقت يشهد فيه العالم تطورا تشريعيا مخالفا في كل الدول المسيحية، خاصة بعد أن أقرت الدولة مؤخرا حق الكنيسة في اعتناق ما تراه صحيحا في تفسيرها للكتاب المقدس بالنسبة للزواج الديني الذي يتم بمعرفتها.
أما الطائفة الإنجيلية فقد أعلن رئيسها مؤخرا أنه يعطي الأولوية لتعديل المادة الثالثة من القانون رقم 1 لسنة 2000، علي النحو الذي اقترحته اللجنة المشكلة من أكبر أساتذة القانون في مصر، وهو ما أيدته أيضا الكنيسة الأرثوذكسية وفقا لما نشره بعض الصحف.
ولا يخفي كاتب هذه السطور شرف عضويته في هذه اللجنة الأخيرة، ويشهد أن ما انتهت إليه قد جاء تعبيرا عن قناعة مؤكدة بفكرة الدولة المدنية الحديثة التي تؤمن بمبدأ المساواة بين مواطنيها بصرف النظر عن المعتقد الديني، ولكنها تدرك في نفس الوقت أن حمايتها لحقوق الإنسان علي هذا النحو هو مصدر قوتها الذي يتعين أن يحرص عليه الجميع. فأي محاولات طائفية للنيل من مصادر هذه القوي، أو أي تخاذل في مواجهة مثل هذه المحاولات، لن يشكل انتصارا لطائفة علي أخري وإنما هو هدم للمعبد علي رؤوس أصحابه حكاما كانوا أو محكومين.