تعرضنا في السابق للعلل والأسباب التي دفعت البخاري إلى تأليف كتابه، ومنها أنه كان في سياق الرد على أهل الرأي أو من كانوا يسمونهم بالمرجئة أو الجهمية، وهم من كانوا يُعرفون بأصحاب أبي حنيفة، ووقفنا على أن الراوي عبدالله بن الزبير الحميدي(ت219هـ)كان من أعداء أبي حنيفة الذين تأثر بهم البخاري في شبابه، إذ توفى الحميدي وكان البخاري في الخامسة والعشرين من عمره، بعد ذلك أصبح الحميدي من أهم رواة البخاري ،فقد روى له في الصحيح 85 حديث، ورغم أن الحميدي كتب مسنده بأكثر من 1000حديث إلا أن البخاري حين نقل عن شيخه لم يتقيد بما أملاه الرجل في مسنده أو تعرض لاهتماماته التي دونها في كتابه.
مما سبق يدفعنا إلى الشك في دقة النقل ، ويعني أن البخاري قد تعمد تحريف أقوال شيخه أو أنه نسب إليه بالخطأ والوهم، وسنناقش ذلك بنماذج مفصلة عبر معلومات نعرضها لأول مرة، ولن يكون البحث تفصيلياً منهجياً إذ يتطلب ذلك مساحة كبيرة لا يسعنا التعرض لها الآن، ولكن سنتعرض لنماذج من تدليس البخاري عن شيخه الحميدي، حيث يقول الشيخ كذا وكذا..ثم ينقل عنه البخاري بالحذف والإضافة بما يوافق معتقده..وكي تسري هذه الأفكار إلى الأجيال اللاحقة فعليهم تغييب العقل وحصار النقد ، وهو ما حدث بقبول هذه الأخبار عن البخاري بمعايير الثقة والسمع والطاعة وحاكمية الرأي...
لأنه إذا تتبعنا السياق العام الذي كتب فيه البخاري كتابه سنجد أنه كان رداً على فئة معينة وفقهاء أحناف ومدارس للرأي، أصبح فيه كل من يؤيد البخاري في رده يصعب عليه نقده أو مراجعته..ومع تعاقب الزمان تغير الوضع بصورة أقرب إلى حكايات ألف ليلة وليلة....فالكتاب صحيح لا يخالجه شك، والبخاري لا يكذب ولا يُخطئ بل ولا يجوز عليه ذلك، وإذا بحثنا عن السبب سنجده سبب مذهبي، رغم أن نقل البخاري عن شيوخه-ومنهم الحميدي-جاء بعد موتهم بسنوات أو بعشرات السنين، وفي هذا العصر لم تكن علوم النسخ والطباعة متقدمة كما هي عليها الآن، فإذا أراد البخاري أن يكون أكثر دقة فعليه أن يمتلك كمبيوتر أو اسطوانة مدمجة يسجل عليها ما قاله الحميدي.. خاصة في علم الحديث المختلط فيه الرجال وأقوالهم ممن لم يراهم البخاري ولو مرة في حياته.
الآن سنعرض أربعة أحاديث-كنموذج-على تدليس ووضع البخاري عن الحميدي، وسنرى أن الحميدي ساق الحديث بتمامه سنداً ومتنا، ثم جاء البخاري لينقل السند عن الحميدي بتلاعب واضح في المتن..!..وفي نماذج أخرى وضع البخاري أحاديث كاملة ونسبها للحميدي إما وهماً أو عمدا..
الحديث الأول: تدليس البخاري وحذف اسم الصحابي سمرة بن جندب
روى الحميدي في مسنده(1/9):"حدثنا سفيان حدثنا عمرو بن دينار قال أخبرني طاوس سمع بن عباس يقول بلغ عمر بن الخطاب أن (سمرة باع خمرا فقال قاتل الله سمرة) ألم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها".
ثم دلس البخاري هذه الرواية ونقلها عن الحميدي قائلاً (7/464):" حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا عمرو بن دينار قال أخبرني طاوس أنه سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقول بلغ عمر بن الخطاب أن (فلانا باع خمرا فقال قاتل الله فلانا) ألم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها"
قلت: أن البخاري حذف اسم الصحابي "سمرة بن جندب" من المتن وهو ما بين المزدوجين، ثم وضع بدلاً منه كلمة"فلان"وهي تعني تستر البخاري عن بيع سمرة للخمر ولعن ابن الخطاب لهذا العمل، ثم حذف كلام ابن الخطاب"لعن الله اليهود" ووضع بدلاً منه"قاتل الله اليهود"والسبب أنه وبمجرد ذكر لعن بن الخطاب يعني جوازه على الصحابي وهو ما كان يرفضه البخاري أن يكون صحابياً في هذا الموقف.
الحديث الثاني: وضع البخاري حديثاً عن الحميدي في الفتن غير موجود في مسنده
الحديث رواة البخاري كالتالي(10/443):حدثنا الحميدي حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا عبد الله بن العلاء بن زبر قال سمعت بسر بن عبيد الله أنه سمع أبا إدريس قال سمعت عوف بن مالك قال:
"أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وهو في قبة من أدم فقال اعدد ستا بين يدي الساعة موتي ثم فتح بيت المقدس ثم موتان يأخذ فيكم كقعاص الغنم ثم استفاضة المال حتى يعطى الرجل مائة دينار فيظل ساخطا ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلا دخلته ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر فيغدرون فيأتونكم تحت ثمانين غاية تحت كل غاية اثنا عشر ألفا"
هذا الحديث لم يروه الحميدي للبخاري مطلقاً ، وأنه يزيد الاحتمال بأنه من وضع البخاري نفسه إما عزواً بالخطأ وإما بالعمد، والدليل مُجمل في عدة شواهد:
1-أن الحديث غير موجود نهائياً في مسند الحميدي..
2- الحديث يحكي باب الفتن آخر الزمان، والبخاري كان شغوفاً بهذه الأخبار.
3- أنه مروي عن الحميدي عن الوليد بن مسلم، بينما في المسند لم يروِ الحميدي عن الوليد إلا ثلاثة أحاديث فقط ليس من بينها ما يخص الفتن-موضع الباب
4-عاش البخاري بعد وفاة الحميدي 37 عام وهي الفترة التي من الراجح أنه كتب كتابه فيها، أي أن الحميدي توفى والبخاري كان عمره 25 عام، حيث عاش البخاري 62 عاماً كما هو مشهور، وهذا يعني أمرين اثنين، الأول أن البخاري كان شاباً صغيراً حين نقل عن الحميدي، فكيف اتسعت ذاكرته لنقل وتسجيل ما قاله الرجل بعد عشرات السنين؟وهل كتب البخاري صحيحه في فترة شبابه؟..الثاني أنه نقل أقوال الحميدي بعد موته من مسنده ثم كذب وقال"حدثنا"!!
5-لو فرضنا أن الحميدي حكى هذا القول للبخاري ولكن لم يدونه في مسنده فهذا يضعنا أمام احتمالين، الأول أن الحميدي حكى هذا القول لغير البخاري، الثاني أن الحميدي لم يتعرض لهذا الموضوع في حياته..
6-باستطلاع كتب الحديث وجدنا أن الحميدي لم يقل هذا في حياته لأي راوٍ آخر غير البخاري، وأن الحميدي بالأصل لم يكن مهتماً بالفتن موضع الباب ولا بعلوم القرآن، وأنه كان مهتماً فقط بسيرة النبي وأبواب الفقه للرد على الأحناف كما تقدم!!
7-في سنن الترمذي(ت279هـ) حكى المصنف حديثاً عن البخاري عن الحميدي قوله عن ابن مسعود.." آية الكرسي هو كلام الله وكلام الله أعظم من خلق الله من السماء والأرض"..(10/116)..وهذا الحديث أيضاً غير موجود في مسند الحميدي ولم يروه الرجل لأحد سوى البخاري، مما يعني أن البخاري كان ينقل عن الحميدي أحاديث لم يروها الحميدي في مسنده بل لم يسجلها البخاري في كُتبهِ أصلاً!
الحديث الثالث: قرينة على وضع البخاري عن الحميدي في الفتن
الحديث رواة البخاري كالتالي(11/472):حدثنا الحميدي حدثنا الوليد قال حدثني ابن جابر قال حدثني عمير بن هانئ أنه سمع معاوية يقول:
"سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك"
الحديث غير موجود أيضاً في المسند..و كما هو واضح من أبواب الفتن عن الحميدي عن الوليد بن مسلم، أي أن البخاري كان ينقل في الفتن عن الحميدي عن الوليد، وهذا ما لم يثبته الحميدي نفسه في مسنده، وبذلك يظهر أن البخاري كان يضع الأحاديث عن الحميدي في أبواب الفتن وعلوم القرآن من ذاكرته، تلك الذاكرة التي يصعب أن تنضبط بعد وفاة الحميدي ب37عام، أو أنها منضبطة ولكن الرجل مهتم، وقد ثبت في مسند الحميدي أن الرجل لم يكن مهتماً بالفتن وأخبارها مطلقاً..
الحديث الرابع: إسرائيليات البخاري ينسبها للحميدي
مثلما تقدم عن وضع البخاري أحاديث في الفتن عن الحميدي، وضع أيضاً أحاديث أخرى عن نفس الرجل تشرح أحوال الشمس والكواكب، وهو اتجاه عام للاسرائيليات في التراث، لأن التعرض لأحوال الغيب بالكيفية لم يكن إلا تكلفاً غير مبرر ونزعات أسطرة ضاربة في عمق التاريخ، وكُتب البخاري طافحة بهذا الاتجاه..
روى البخاري في صحيحه(14/494):حدثنا الحميدي حدثنا وكيع حدثنا الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر قال:"سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى{ والشمس تجري لمستقر لها }قال مستقرها تحت العرش"
هذا الحديث هو أيضاً من وضع البخاري عن الحميدي لعدة أسباب:
1-أن الحديث غير موجود في مسند الحميدي نهائياً، أو شاهد ومتابعة واحدة تعطى اهتمام للحميدي بأحوال الشمس والمجرات.
2-أن الحديث مروي عن الحميدي عن وكيع بن الجراح(ت196هـ) ونقل الحميدي عن وكيع في مسنده لا يتعدى خمسة أحاديث كلها في أبواب الفقه وأحوال الصحابة.
3- الحديث منسوب لأبي ذر الغفاري، ولكن في مسند أبي ذر عند الحميدي لم يتحدث أبو ذر عن أحوال الشمس مطلقاً، وهذا يعني أن أبا ذر لم يكن مهتماً بالشمس ولم يذكرها عند الحميدي.
4-أطراف الحديث عند البخاري من روايات عياش عن وكيع عن الأعمش،وأبو نعيم عن الأعمش، وابن يوسف عن سفيان عن الأعمش ...جميعاً من رواية أبي ذر، وهذا يعني أن الحديث مشهور عند الحميدي عن أبي ذر-المتفرد بالحديث- فكيف لم يدونه الحميدي في مسنده؟!..ولماذا لم يتحدث الحميدي عن أحوال الشمس في كتابه ثم تحدث عند البخاري أصلاً؟!
5-في صحيح مسلم ومسند ابن حنبل وصحيح ابن حبان..الرواية عن وكيع ومحمد بن عبيد عن الأعمش وهذه قرينة على تفرد الأعمش بالرواية عن أبي ذر..
6-إذا علمنا تفرد الأعمش بالحديث فهذا يعني أن من وضع حديث سجود الشمس تحت العرش هو من وضع حديث .."استئذان الشمس".. لربها كي تغرب وتشرق كل يوم، والحديث في البخاري أيضاً عن الأعمش، وهو كارثة علمية بكل المقاييس، إذ ثبت علمياً أن الشمس بالنسبة للأرض ثابتة والأرض هي ما تدور حولها، ولكن من وضع الحديث كان يرى العكس..
7-الحديث بحكم عنعنته هو مقطوع السند لأن الأعمش مدلس ولا يحتج بحديثه ما لم يقل حدثنا...طبعاً هذا باصطلاح المحدثين..ولكن تحول الحديث بقدرة قادر إلى قرآنٍ يُتلى ما دام في البخاري...رغم أن البخاري وضع أحد رواياته عن الحميدي، فما الذي يضمن لنا انه لم يضعه عن الآخرين؟
باختصار الحميدي لم يتحدث مطلقاً عن أحوال الشمس ، بينما البخاري وضع روايتة بالكذب أو بالوهم- عسى أن لا نسئ الظن- ثم جاء البخاري ونسب الحديث للحميدي طالما كان عن الأعمش وهو من أكابر الرواة الذين نقلوا الإسرائيليات في تراث المسلمين، وعليه يظهر ملمح غائب من ملامح النقل والتدوين في العصور القديمة، وهو أن النقل كان عن المشاهير والثقات حتى لو لم يكن الضبط في الاتصال، وهذا الملمح هو ما صنع الأخبار المرسلة والمكذوبة في التراث، إذ يصعب ضبط الأخبار إلا بالشهادة والتدوين، وكِلا الشرطين لم يتحققا بنسبة كبيرة في هذه العصور.
أضيف أن البعض قد استخدم حديث الشمس في تكفير الأحناف الماتوريدية أو من كانوا يسمونهم"بالجهمية" وقد ظهر ذلك واضحاً في الإبانة لابن بطة(5/ 475) باب كفر الجهمية، وهذا يرجح معلماً من معالم الصراع بين أهل الحديث وأهل الرأي في تلك الحقبة وكيف أن وضع الحديث كان أداةً للحرب بين العقلاء والمقلدين، بل بين المقلدين أنفسهم ، وهو يخدم نفس السياق الذي تحدثنا عنه في السابق، أن كُتب الحديث جاءت للرد على أهل الرأي"الأحناف"بالخصوص والعقلاء بالعموم، ولكن كي تظهر علومهم أكثر قوة في مواجهة أصحاب الرأي نراهم وقد مدحوا أنفسهم بأوصاف على شاكلة حافظ الزمان ووعاء العلم وأعجوبة البلاد ومثل هذه التوصيفات المهترئة التي لا تصمد أمام البحث العلمي والنقد الجاد والعقلاني.