سياسة البطش والارهاب ، وفرّق تسد
ßÊÇÈ مصر فى القرآن الكريم
خامسا : ســـياسة الفرعون الداخلية :

في الخميس ٢١ - نوفمبر - ٢٠٢٤ ١٢:٠٠ صباحاً

خامسا : ســـياسة الفرعون الداخلية :
( سياسة البطش والارهاب ، وفرّق تسد )

1 ـ من الواضح أن فرعون موسي كان متفرغا لشئونه الداخلية، استخدم جيشه القوي في إحكام سيطرته علي مصر وفي إرهاب الضعفاء أو من لا يثق في ولائهم .
ومن الواضح أن فرعون قد أجاد استخدام عناصر قوته من حشد قواته واستنفار أعوانه وعقد المؤتمرات ، وتبدو من النصوص القرآنية مقدرته الفائقة ;ئقة علي الحديث مع الجماهير وسيطرته عليهم
، وفهمه لطبيعة الشعب المصري الذي قد ينسي الآلام حين يستمع إلي نكته يلقيها الفرعون الظالم ، وكل ذلك تصوره الآيات القرآنية الكريمة:" وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ ؟ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ ؟ فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ ، فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ "( الزخرف 51 : 54 )
وربما كان موسي يحس بمقدرة الفرعون علي الحوار وفصاحته في الجدل ، وخشي من التعلثم أمامه فطلب من الله أن يعينه بإرسال هارون معه، وربما كانت إقامة موسي الطويلة في مدين أضعفت لسانه عن النطق الفصيح باللغة المصرية، كل ذلك مع خوفه من جبروت فرعون جعل موسي يقول فيما يحكيه القرآن : قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ، وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ" ( القصص 33 : 34 :   ) ، " قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ ، وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ ، وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ"( الشعراء 12 : 14 )  ،" قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ، وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي ، يَفْقَهُوا قَوْلِي ،وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي ،هَارُونَ أَخِي ،اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي" ( طه25 : 32 ).
2 ـ لقد وجد فرعون الظروف متاحة له كي يتطرف في تقوية نفوذه الداخلي ومعه جيشه الذي يدين له بالولاء ومعه الملأ الذي يجتهد في التفكير فيما يرضيه ويشبع غروره.
يقول تعالي عن نفوذ فرعون في مصر : " إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ"
( القصص 4 ) . وقد جعل القرآن من بني إسرائيل طائفة من أهل مصر فقد عاشوا فيها قرونا قبل مجيء ذلك الفرعون .
وأبان القرآن عن جانب من سياسة الفرعون وهي تقسيم أهل مصر إلي طبقات
:" وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا " وكيف أنه اضطهد الضعفاء منهم.
3 ـ ويعبر عن ذلك بلفظه موحية وهي :" يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ " فالفرعون الذي علا في الأرض بجنده وقوته استضعف طائفة من شعبه ، ( والسين والتاء) تفيد الطلب إذا دخلت علي الفعل، فإذا قلت ( استكتب) أي طلب الكتابة . وإذا قلت (استرحم) أي طلب الرحمة . وهكذا فإذا ( استضعف ) فرعون بني إسرائيل فمعني ذلك أنه دبر من الوسائل ما جعل بها بني إسرائيل في اضعف مكانة ، وتحول ضعف بني إسرائيل إلي قوة تضاف إلي رصيد فرعون ، وبهذه القوة مارس فرعون اضطهاده لبني إسرائيل .
وطالما ( استضعف)فرعون بني إسرائيل فقد تجرأ علي قتل أبنائهم واستحياء نسائهم.
ولو كانوا أقوياء ما جرؤ علي التفكير في ذلك. فالمستبد لا يضطهد إلا من يظهر فيه الضعف . وفرعون موسي حين لم يجد أحدا يقف أمامه ازداد غرورا بقوله وتطرفا في ظلمه . والمثل الشعبي يصور ذلك: " يا فرعون من فرعنك ؟ قال مالقيتش حد يقف قصادي.."
إن فرعون استهان ببني إسرائيل ـ أي استضعفهم ـ و
كانت النتيجة أن نصر الله تعالى اولئك المستضعفين على المستبد الظالم فورثوا ملكه وثرواته (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ  ) ( الأعراف 137 ). ونفس الجرم وقع فيه بنو إسرائيل بعد سنوات حين ( استضعفوا) هارون في غيبة موسي فعبدوا العجل، واعتذر هارون لأخيه فقال: " إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي " ( الأعراف 150 )

4 ـ لقد استمر اضطهاد الفرعون لبني إسرائيل حتى بعد رسالة موسي :
" قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ،قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا "
( الأعراف 128 : 129 )
بل إن رسالة موسي كانت حافزا علي مواصلة الاضطهاد الفرعوني :
"فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ"
( غافر 25 )
وأدي ذلك الاضطهاد إلي خوف الأغلبية من بني إسرائيل من الالتفاف حول موسي:
" فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الْمُسْرِفِينَ "
( يونس 83 ).
5 ـ ولكن هل لحق ذلك الاضطهاد بموسي وهو يتحرك ضد فرعون داخل أرض فرعون؟
لقد كان موسي ـ عليه السلام ـ يتخوف أشد الخوف من العودة لمصر ومقابلة فرعون ودعوته للهداية وإطلاق سراح بني إسرائيل وتكرر قوله لربه في الوحي أنه " يخاف" من مواجهة الفرعون . " قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ.. وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ"( الشعراء 12 ، 14 )، " قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ، وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ "( القصص 33 : 34 )
وحتى بعد أن أرسل الله هارون مع موسي ظل الخوف مسيطرا علي الأخوين وشكيا ذلك لله تعالي فجاءتهما البشري من الله أنه معهما " اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ،فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ،قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى ،قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى.. "( طه : ـ 46 )
وبالتمعن في الآيات الأخيرة نلحظ مدي بأس فرعون والخوف الذي زرعه في القلوب ، ولكن الله تعالي أحاط موسي وهارون برعايته فأخاف منهما فرعون ، ولقد فكر فرعون في قتل موسي واقترح ذلك علي الملأ لأن فرعون الرهيب ( يخاف) من موسي أن يبدل دين قومه ، ولأول مرة يقف رجل من الملأ يعارض دعوة فرعون . " وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ ، وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ ، وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ " ( غافر 26 ـ ).
لقد استعاذ موسي بالله من طغيان فرعون ،والله تعالي قد وعد موسي وهارون أن يحفظهما من كيد فرعون وآذاه. " قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآَيَاتِنَا"(القصص 35 )
وتحقق وعد الله لهما فلم يستطع جبروت فرعون أن يصل إليهما .. لم يستطع فرعون أن ينال شيئا من موسي برغم حقده وجبروته وطغيانه وبرغم أن موسي يتحداه داخل أرضه ويهدد سلطانه ، والله غالب علي أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
6 ـ لقد كان إرهاب السلطة الفرعونية يغلف الشارع المصري ، ونلمح ذلك من خلال تحرك الشخصيات في قصة موسي.
يقول تعالي يحكي عن بداية موسي بعد إلقائه في اليم " وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ "
( القصص 11 )فأخت موسي كانت تقص أثر التابوت الذي يسبح في النيل ، وهي تحاذر أن يراها أحد. ولا ريب أن التابوت قد وصل إلي منطقة محرمة حيث يقع قصر الفرعون مما استوجب علي أخت موسي أن تتواري حتى لا يشعر بها أحد من الملأ المحيطين بقصور الفرعون .
وانتهت القصة بأن تبن
ّت امرأة فرعون الطفل موسي ثم عاد موسي إلي أمه كي ترضعه
" فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ،وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا "
( القصص 13 : 15 )
ونستفيد من الآيات أن موسي نشأ مع أهله رضيعا ثم شب معهم إلي بلوغه الشباب تحت رعاية القصر الفرعونى ، ويعدها دخل مدينة الفرعون ،أو بالأحري تسلل إليها علي حين غفلة من أهلها . ولو كان موسي قد عاش في قصر الفرعون ما دخل المدينة علي حين غفلة من أهلها ، إذن لا بد حينئذ أن يكون معروفا ذا نفوذ.
ويبدو من الآية أن مدينة فرعون كانت أشبه بالثكنة العسكرية لا يدخلها غريب عنها إلا متسللا وأن من يتسلل إلي هذه المدينة من غير المصريين يكون عرضة للظلم .
وهكذا فإن موسي وجد شجارا في المدينة أو بمعني آخر وجد شخصا من شيعته الذين تربوا معه في الحي الإسرائيلي يدافع عن نفسه أمام بغي واحد لابد أن يكون من جند فرعون .
واستغاث المظلوم بموسي، ولأن ذلك الرجل المصري يمثل السلطة الفرعونية التي يستطيل بها علي الإسرائيلي فإن موسي كان أقرب إلي حالة الدفاع الشرعي عن النفس ، وبهذه الحالة النفسية استخدم موسي كل قوته وكراهيته للظلم في ضربة واحدة قضي بها علي خصمه.
"وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ "
( القصص 15 )
لقد عرف موسي منذ اللحظة الأولي من هو عدوه ومن هو شيعته ومعناه أن ذلك المصري كان من الملأ المتخصصين في إيقاع الأذى ببني إسرائيل ، ولذلك تآمر رفاقه علي قتل موسي، وبعدها كانت الإشاعات بقتل موسي للمصري قد انتشرت ، أو ربما كان الملأ قد حققوا في الأمر ووصل إليهم ممّن سمع مقالة الإسرائيلي لموسي " أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ"( القصص 19 )
وهكذا جاء الرجل الآخر ونرجح أنه كان مصريا ـ يحذر موسى " وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ "( القصص20 ).
7 ـ وفي عصر الطغيان وفي أوقات الشدة يكون الرجال قليلين من بين الذكور من البشر..
والقرآن الكريم يصف ذلك المصري بالرجولة ويكتفي بذلك عن ذكر اسمه ليحوله إلي رمز ، وكذلك فعل القرآن مع " رجل " آخر قال كلمة حق لقومه وأوذي في سبيلها. " وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ"
( يس 20 )
ووصف القرآن بعض المؤمنين حول الرسول محمد صلي الله عليه وسلم وقت محنة الأحزاب بقوله : "مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا " ( الأحزاب 23 )
أما بعض (الذكور) من قوم لوط فقد قال لهم لوط : " يا قوم هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ ؟" ( هود 78 )
فليس كل الذكور رجالا ..!!
8 ـ نعود إلي الرجل ( الرجل ) المصري الذي سجل القرآن الكريم موقفه ( الرجولي ) ونقرر أن المصريين لم يفتقروا إلي وجود رجال حتى في أحلك عصور الطغيان .
ثم نعود إلي موسي بعد أن حذره الرجل المصري وهو يتسلل من المدينة التي حولها الإرهاب الفرعوني إلي ثكنة عسكرية.
ولانجد أبلغ من وصف القران لحال موسي وحال تلك المدينة " فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ "
( القصص 21 ) أى هم ظالمون ، والرجل الذى قتله موسى خطأ كان ظالما لأنه يخدم فرعون الظالم ولأنه من ملأ فرعون الظالم ومن أدواته فى الظلم ، ويستخدم سلطته علنا فى ضرب شخص مستضعف ، وهذا المستضعف يحاول الدفاع عن نفسه فلا يستطيع فيستغيث . وليس جرما مقاومة الظلم والدفاع عن النفس ، وليس ظلما أن تعين المظلوم الذى يدافع عن نفسه حتى لو أدى ذلك لقتل الظالم. فهكذا فعل موسى عليه السلام.
9 ـ والخوف مرض سريع العدوى. ولقد شملت دائرة الخوف من إرهاب فرعون أقرب الناس إليه فالرجل المؤمن من آل فرعون كان يكتم إيمانه خوفا من فرعون "وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ "( غافر 28 ) ومع ذلك الخوف كان يجادل قومه داعيا إياهم إلي الحق في حوار طويل أورد القرآن بعض تفاصيله . وأشار القرآن إلي أن مكانة ذلك الرجل لم تدفع عنه المؤامرات من الملأ ولولا نصرة الله له لأصابه منهم ضرر عظيم . قال لهم ( الرجل المؤمن) يائسا في النهاية :  "فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ" وتقول الآية التالية عنه وعن أعدائه : " فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ " ( غافر 44 ـ )
إذن نحن أمام ( رجل) مصري آخر ليس من قاع المدينة بل من داخل البيت الفرعوني.
10 ـ ولقد وصلت دائرة الخوف من الإرهاب الفرعوني لتضم امرأة فرعون نفسها وهي التي استعانت بالله من شر فرعون فقالت " وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ "( التحريم 11 ).
11 ـ وفي النهاية فإن دائرة الخوف اكتملت بفرعون نفسه ، فالظالم أكثر الناس رعبا من عاقبة ظلمه وكلما ازداد رعبا ازداد ظلما ليحمي نفسه من أوهام تسيطر عليه ، وكلما ازداد ظلما ازداد رعبا من أشباح ضحاياه .. وهكذا يصل في النهاية إلي مصرعه .
وكان فرعون يخشى من دعوة موسي السلمية التي تتلخص في بساطة شديدة في أن يخرج بقومه من مصر
، والعقل الحصيف لا يري خطرا في أن يتخلص الفرعون من أولئك الذين يكرههم ويستضعفهم ، ولكن أوهام فرعون ومخاوفه من أن تنتقم منه أشباح الضحايا السابقين من بني إسرائيل جعلته يرفض ذلك بل يعتبرها دعوة لتخريب نظامه القائم علي الإرهاب المطلق . وكان العلاج أن يقتل المزيد من الضحايا حتى يشعر بالأمن ويطرد عنه الخوف :"وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ "( غافر 26 )
وبلغ الخوف بفرعون درجة الغيظ من هذه الشرذمة القليلة التي هربت بنفسها من جحيمه .
" فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ،إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ ،وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ ،وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ "
( الشعراء 53 ـ )
تكاثرت مخاوف فرعون من هذه الشرذمة القليلة التي بالغ في اضطهادهم إلي أقصي مدي ولم يكتف بذلك بل طاردهم بغيا وعدوا إلي أن وصل بظلفه إلى حتفه.
12 ـ وربما يتحول الخوف في نفس المظلوم إلي إيمان فيشعر بالأمن متوكلا علي الله ،أما الظالم فيظل أسير الشيطان يعيش في دائرة من الرعب لا نهاية لها إلا بموته، يقول جل وعلا :  "سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ " ( آل عمران 151 )
ويعلمنا القرآن أن نخشى الله وحده كي نشعر بالأمن وإلا أخافنا الشيطان من كل شيء ومن لا شيء. "إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ " ( آل عمران 175 )
لقد سيطر الشيطان علي فرعون فأخافه من بني إسرائيل حيث لا محل للخوف منهم مطلقا ، وزين له أن يتطرف في اضطهادهم وفي كفره في نفس الوقت ، يقول تعالي: " وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ " ( غافر 37 ).
13 ـ ومن القرآن نعرف وسائل فرعون في اضطهاد خصومه .
كان السجن والصلب من وسائل العقوبة والاضطهاد في عصر يوسف حيث كان الهكسوس يحكمون .
وفي عصر فرعون أضيف للصلب تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف
لأن فرعون أراد أن يثبت للسحرة انه أشد عذابا وأبقي من رب العزة . " قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمْ الَّذِي عَلَّمَكُمْ السِّحْرَ فَلأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى " (طه 71 ) إذن حرص فرعون علي إيقاع الإيلام في العذاب ليؤكد دعواه في الألوهية والاستبداد وتحدي رب العباد.
وبالإضافة إلي ذلك كانت هناك عقوبات أخري مثل السجن والرجم وقتل الأبناء واستحياء البنات.
ففرعون هدد موسي بالسجن" قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ"
(الشعراء 29 )
وكان موسي يخاف منهم أن يرجموه لذا قال لهم: " وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ ، وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ " ( الدخان 20 : 21 )
أي إن اعتزالهم له ومجرد أن يتركوه فى حاله كان في حد ذاته أمنية له ..
وتحدث القرآن عن اضطهاد بني إسرائيل وتعذيبهم ، ولكن السؤال هل اقتصر ذلك علي قتل الأبناء واستحياء البنات ليك
نّ خدما لفرعون وقومه .
لقد عمل فرعون علي إضعاف بني إسرائيل
، وكان من وسائله في ذلك أن يقضي علي نسلهم بتلك الطريقة المبتكرة ، ولكن كانت له وسائله الأخرى في تعذيبهم .. يقول تعالي: "وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ"
و(الواو) التي جاءت في قوله تعالي " ويذبحون" " ويستحيون" تفيد أنهم كانوا يعانون من العذاب بالإضافة إلي ماكان يحدث لأبنائهم وبناتهم.
ولو كان عذابهم في أن يروا ما يحدث لأبنائهم وبناتهم لكفي .
14 ـ ولا ريب أن فرعون كان يحس بالتقصير وهو يطارد بني إسرائيل وهم يفرون منه.
ولا ريب أنه كان يحاول أن يصلح خطأه حين تركهم أحياء
، وكان يسارع مخلصا في
إصلاح
 هذا الخطأ ، إلي أن استيقظ وموج البحر يحتويه فأعلن توبته وإسلامه في الوقت الضائع يقول تعالي:"وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ ،أالآن ؟ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ ؟ ،فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنْ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ " ( يونس 90 : 92 )
15 ـ وصدق الله العظيم .. " وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ "

هذه المقالة تمت قرائتها 2191 مرة
تعديل To English
المستضعفون في الأرض .

التعليقات (3)
[43240]   تعليق بواسطة  عائشة حسين     - 2009-10-26
الخوف مرض ولا شفاء منه إلا بالاقتراب من الله سبحانه
حذف التعليق
تعديل التعليق

هذه مقولة سليمة لأن الخوف سريعا ما يتسلل إلى القلوب، فهو لا يحتاج إلى وقت بينما الأمن يأخذ وقتا طويلا ،حتى يستطيع الوصول إلى الأنفس الخائفة فالخوف مرض كما أن الأمن هو الشفاء من ذلك المرض ولا سبيل إلى الأمن إلا بطاعة الله والقرب منه ، وتخيل أنك في مبنى آيل للسقوط ، أو هكذا تخيلت أنت ومن معك ماذا سيكون الموقف ؟ سيكون محاولات إعطائك أمان غير مجدية إلا إذا تماسكت وكان هذا التماسك من داخلك، وتستطيع به أن تتغلب على ما يقابلك من مصاعب: فمثلا في حالة سقوط المبنى تستطيع التفكير السليم في طرق النجاة أما إذا سيطر الخوف عليك حتى وإن كان المبنى سليما معافا فكثرة التزاحم تؤدي يقينا لحدوث كوارث لا تقل عن في خطورتها عن سقوط المبنى الفعلي وهذا ما كان يحدث في الزلاول عندما يسطر الخوف على الناس فيسقط بهم الدرج أو يسقط الضعفاء منهم فتدوسهم الأقدام ،أو يلقي البعض نفسه من النوافذ أو الفتحات فيلقى حتفه، الخ ومن واقع قصة فرعون موسى كان يعرف طبيعة الشعب المصري ويتعامل معه وفقها، وكان لا يتوارى في المبالغة في التعذيب وإعلان ذلك صراحة أمام الناس ، متبعا المثل الذي لازال مستعملا إلى الآن : اضرب المربوط يخاف السايب ، ولكن في كل فئة كان يظهر له من يتغلب على خوفه ومرضه رغم جبروته ، وأدل مثال على ذلك هو السحرة فكيف أنهم برغم علمهم لما يخبؤه لهم الفرعون من عذاب،  إلا أنهم اختاروا طريقهم  وقالوا:( {قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا }طه72 ) إذن هم قضوا على مرض الخوف بتوقع أقصى العقوبة،وهي القضاء عليهم في الحياة الدنيا ، بل هم يتمنون أن ينعموا بنعمة غفران الذوب والخطايا من الله ، لأنهم كانوا مكرهين على هذه الأعمال السحرية المخالفة لشرع الله :( إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى )


وبعد هل يستطيع أن يقيّم كل واحد نفسه وفق معطياته التي لا يعرفها أحد غيره إلا الله سبحانه بالطبع وهو من يستطيع فعل ذلك : كم يبعد أو يقترب من هذه الصحوة التي حدثت للسحرة ؟ هنالك يستطيع إصلاح خطؤه ـ لو أراد ـ قيل فوات الأوان (والعاقبة للتقوى )

 

[43244]   تعليق بواسطة  أيمن عباس     - 2009-10-26
حذف التعليق
تعديل التعليق

الأستاذ الدكتور/ أحمد صبحي منصور نشكرك على حرصك على إفادتنا بكل ما تكتب فوضعك الكتاب على هيئة مقالات هكذا يعطينا فرصة أفضل للقراءة والتعليق والاستفادة، هناك كثير من النقاط في هذا المقال لفتت انتباهي ،ولكن أكثر نقطة كانت عن المستضعفين من بني إسرائيل ،شعرت بطمأنينة على القرآنيين وما شابههم من فئات مستضعفة مسالمة ولا تثير الشغب ، وفي نفس الوقت يقع عليها الاضطهاد بشكل عنيف ويسخر منها في وسائل الإعلام مما يؤدى إلى تشويه محتوى الفكر وأخذ صورة سيئة عنه .وتقاوم لمجرد أنها تعتنق أفكاراً مغايرة لأفكار السلطة القائمة والمتعارف عليها بين العامة . ولكن شعرت أن نصر الله أت لا محالة :

(وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ ) ( الأعراف 137 ).