( 8) العوام من العسكرة الى الحنبلة من المأمون الى قتل إبن نصر الخزاعى

آحمد صبحي منصور في الأحد ١٠ - نوفمبر - ٢٠١٣ ١٢:٠٠ صباحاً

 

( 8) العوام من العسكرة الى الحنبلة من المأمون الى قتل إبن نصر الخزاعى
النبى لا يشفع يوم الدين :( كتاب الشفاعة بين الاسلام والمسلمين )
الباب الثالث : تتبع موضوع الشفاعة فى تاريخ المسلمين الدينى
الفصل الخامس: الأرضية التاريخية التى نبتت فيها أساطير الشفاعة :
( 8) العوام من العسكرة الى الحنبلة من المأمون الى قتل إبن نصر الخزاعى ب3 ف 5 / 8
مقدمة
1 ـ استولى جيش المأمون على بغداد وأصبح المأمون الخليفة بعد قتل أخيه الأمين عام 198 . ولكن ظل المأمون فى فارس ( مرو ) تاركا بغداد تلعق جراحها بعد التدمير والقتل التى حدثت فيها . غياب المأمون شجع على إستمرار العوام (الطرارون ، العيارون ، الخ ) فى لعب دور عسكرى وسياسى ، حمل هذا الدور أحيانا شعار ( الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ). بعد فشل زعيم قطاع الطرق الحسن الهرش إحترف بعض العوام السلب والنهب ، وإنضم اليهم جماعات من الجُند ، فتصدى لهم متدينون من ( العوام ) فظهرت حركة جديد باسم ( المطوّعة ) لها رئيسان ، أحدهما (خالد الدريوش ) بلا هدف سياسى ، والآخر ( سهل بن سلامة ) كانت له أطماع سياسية . وأدى سخط بنى العباس فى بغداد على المأمون الغائب فى مرو الى تشجيع أمير من البيت العباسى على الثورة ، وإتخذ من العوام عسكرا له . هذا الهرج إنتهى بقدوم المأمون بغداد ، وسيطرته على مقاليد الأمور عام 204 .
2 ـ كان هذا مقدمة لحركة أحمد بن نصر الخزاعى ( الحنبلى ) فى عصر الواثق عام 231 . وكان قتل الواثق له نقطة فاصلة فى تحول العوام الى الحنبلية ، إستثمروا فيها خبرتهم العسكرية والسياسية ليتأهلوا بها بعد مقتل أحمد بن نصر الخزاعى لسيطرتهم على الشارع العباسى بدءا من خلافة المتوكل العباسى الذى كان خليفة حنبليا . وقد جعل قادة الحنبلية شريعة دينية لهذا التسلط ( الذى نسميه الآن : التطرف ) وهو إختراع حديث ( من رأى منكم منكرا ) ، وللتشجيع على ضم العُصاة تم إختراع أحاديث الشفاعة التى تمارس بها جرائم السلب والنهب والاغتصاب والقتل مع ضمان الجنة ، بل أصبح العصيان فريضة دينية تحت زعم ( الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ) ثم أتاحوا للعوام الجاه الدينى على أنهم ( قادة ) ( أُمّة محمد ) النّاجية من النار والتى ستدخل الجنة مهما إرتكبت من آثام طالما تواجه وتعادى ( أمة المسيح ) وتنافس الشيعة وأهل البدع والضلال .
ونعطى بعض التفاصيل مما أورده الطبرى .
أولا : حركة المطوعة بالأمر والمعروف فى بداية خلافة المأمون ( 201 : 204 )
1 ـ فى أحداث عام 201 يقول الطبرى : ( وفي هذه السنة تجردت المطوعة للنكير على الفساق ببغداد ) وكان رئيسا المطوعة ( خالد الدريوش وسهل بن سلامة الأنصاري أبو حاتم من أهل خراسان).ويذكر الطبرى السبب، وهو ( أن فساق الحربية والشطار الذين كانوا ببغداد والكرخ آذوا الناس أذى شديدا ) أى إن الفاسقين من الحربية أى الجنود و ( الشُّطار ) أى اللصوص وقُطّاع الطرق : (أظهروا الفسق وقطع الطريق وأخذ الغلمان والنساء علانية من الطرق . فكانوا يجتمعون فيأتون الرجل فيأخذون ابنه فيذهبون به فلا يقدر أن يمتنع ، وكانوا يسألون الرجل أن يقرضهم أو يصلهم فلا يقدر أن يمتنع عليهم . وكانوا يجتمعون فيأتون القرى فيكاثرون أهلها ويأخذون ما قدروا عليه من متاع ومال وغير ذلك لا سلطان يمنعهم ولا يقدر على ذلك منهم. ) .
هذا يذكرنا بالانهيار الأمنى الذى تعانى منه مصر وبعض الدول العربية الآن ، حيث سيطرة البلطجية وفرضهم الاتاوات ، وتعاون البوليس مع البلطجية، أى ليس هناك جديد تحت الشمس ( العربية ) . يقول الطبرى كأنه يعيش فى عصرنا : ( لأن السلطان كان يعتزّ بهم ، وكانوا بطانته ، فلا يقدر أن يمنعهم من فسق يركبونه . ) . السلطان هنا يعنى السلطة القائمة ،وكانوا مجموعات متصارعة من أرباب السُّلطة العباسية وخصومهم ، وفى صراعهم كانوا محتاجين للعصابات الإجرامية ، وكانوا يقاسمونهم السلب والنهل . ولم يكن هذا غريبا ، فالخليفة الأمين كان يسلّط الهرش على الناس .
ويذكر الطبرى كيف كان أولئك البلطجية ـ بمصطلح عصرنا ـ يفرضون الإتاوات على الناس ، أو بتعبير العصر العباسى ( يخفرون ) أى يزعمون أنهم يحمون السكان مقابل دفع إتارة ، يقول الطبرى : ( وكانوا يجبون المارة في الطرق والسفن وعلى الظهر ، ويخفرون البساتين، ويقطعون الطرق علانية ، ولا أحد يعدو عليهم. وكان الناس منهم في بلاء عظيم. ) . ثم تطرفوا فهجموا على مدينة قطربل فانتهبوها علانية ، وصاروا يبيعون ما سلبوه فى بغداد علانية : ( ثم كان آخر أمرهم أنهم خرجوا إلى قطربل ، فانتهبوها علانية ، وأخذوا المتاع والذهب والفضة والغنم والبقر والحمير وغير ذلك ، وأدخلوها بغداد وجعلوا يبيعونها علانية . وجاء أهلها فاستعدوا السلطان عليهم فلم يمكنه إعداؤهم عليهم ، ولم يرد عليهم شيئا مما كان أخذ منهم .وذلك آخر شعبان . ).
2 ـ عندئذ تحرك الصلحاء المتدينون من العوام لمواجهة العُصاة من العوام : ( فلما رأى الناس ذلك وما قد أخذ منهم وما بيع من متاع الناس في أسواقهم وما قد أظهروا من الفساد في الأرض والظلم والبغي وقطع الطريق وأن السلطان لا يغير عليهم قام صلحاء كل ربض وكل درب، فمشى بعضهم إلى بعض ، وقالوا : "إنما في الدرب الفاسق والفاسقان إلى العشرة ، وقد غلبوكم وأنتم أكثر منهم، فلو اجتمعتم حتى يكون أمركم واحدا لقمعتم هؤلاء الفساق ، وصاروا لا يفعلون ما يفعلون من إظهار الفسق بين أظهركم ". )
3 ـ وكان أول زعيم هو خالد الدريوش الذى رفع شعار الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وجمع به الناس وتصدى بهم للفُسّاق، ولكن هذا كان يستلزم الحرب ، أى حرب السّلطة المتعاونة مع أولئك الفُسّاق، لذا توقف خالد الدريوش لأنه رفض أن تتطور حركته الى الخروج على السلطان : ( فقام رجل من ناحية طريق الأنبار يقال له خالد الدريوش ، فدعا جيرانه وأهل بيته وأهل محلته على أن يعاونوه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فأجابوه إلى ذلك ، وشد على من يليه من الفساق والشطار ، فمنعهم مما كانوا يصنعون، فامتنعوا عليه ، وأرادوا قتاله. إلا أنه كان لا يرى أن يغير على السلطان شيئا . ) .
4 ـ هنا ظهر جندى خراسانى بنفس الدعوة للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، والعمل بالكتاب و(السُّنة ) يقصد بها مواجهة السلطة الحاكمة لو وقفت فى وجهه ، وقد تسلح لذلك بمصحف علّقه فى عنقه، وبايعه الناس حتى الأشراف منهم على قتال من يخالفه ، وعمل له ديوانا يكتب فيه أسماء من بايعوه :( ثم قام من بعده رجل من اهل الحربية، يقال له سهل بن سلامة الأنصاري من أهل خراسان ، يكنى أبا حاتم ، فدعا الناس إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكروالعمل بكتاب الله جل وعز وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وعلق مصحفا في عنقه. ثم بدا بجيرانه واهل محلته ، فأمرهم ونهاهم ، فقبلوا منه . ثم دعا الناس جميعا إلى ذلك، الشريف منهم والوضيع ، بني هاشم ومن دونهم . وجعل له ديوانا يثبت فيه اسم من اتاه منهم . فبايعه على ذلك وقتال من خالفه وخالف ما دعا إليه كائنا من كان . فاتاه خلق كثير فبايعوا. ) .
وبهذه القوة منع البلطجية من أخذ الاتاوات ( الخفارات ) من الناس ، قائلا : "لا خفارة فى الاسلام ". يقول الطبرى : ( ثم إنه طاف ببغداد وأسواقها وأرباضها وطرقها ، ومنع كل من يخفر ويجبي المارة والمختلفة وقال لا خفارة في الإسلام والخفارة أنه كان يأتبي الرجل بعض أصحاب البساتين فيقول بستانك في خفري أدفع عنه أراده بسوء ولي في عنقك كل شهر كذا وكذا درهما فيعطيه ذلك شائيا وآبيا . فقوي على ذلك . )
5 ـ ودخل سهل بن سلامة فى صراع معقد مع جماعات السُّلطة المتحكمة واعوانهم من البلطجية .
6 ـ ثم تعقّد الصراع أكثر بظهور ابراهيم بن المهدى الذى أعلن خلع المأمون وبايعه عوام بغداد واطلقوا عليه لقب ( المبارك ) . واستعان ابراهيم بعوام بغداد واستولى بمساعدتهم على جنوب العراق وحتى الكوفة وسواد العراق عام 202 . وفى عام 203 خلع اهل بغداد ابراهيم بن المهدى ودعوا للمأمون ، الذى كان فى طريقه الى بغداد . واختفى ابراهيم بن المهدى بعد أن حكم بغداد حوالى عامين فى فترة إضطراب انتهت بدخول المأمون بغداد عام 204 .
7 ـ قبل أن نطوى هذه الصفحة نذكر أنه كان بين زعماء تلك الحركة شاب من أسرة ذات مكانة ، وهو أحمد بن نصر الخزاعى . ذكر الطبرى أن إبن نصر قد بايع له أهل الجانب الشرقى على الأمر بالمعروف والسمع له فى سنة إحدى ومائتين .. وأنه لم يزل ثابتا على ذلك الى ان قدم المأمون بغداد فى سنة أربع ومائتين . ثم قاد ابن نصر حركة جديدة بعدها بثلاثين عاما تقريبا ،أسفرت عن قتله .
ثانيا : حركة احمد بن نصر الخزاعى فى خلافة الواثق عام 231
1 ـ سبق التعرض للمأمون ومحنة ( خلق القرآن ) وإضطهاد الفقهاء وأهل الحديث ، وإستمرار ذلك فى عصر المعتصم بعد المأمون ، وتعرض ابن حنبل للضرب بسبب تصميمه على رأيه عام 219 . وبعد ضربه وإطلاق سراحه إعتزل ابن حنبل . ثم تولى الواثق عام 227، الذى جدّد إضطهاد أهل الحديث فى ( خلق القرآن ) . فإختفى ابن حنبل تماما عن الأنظار طيلة خلافة الواثق . وبالتالى لم يشهد ابن حنبل محنة أحمد بن نصر الخزاعى الذى قتله الواثق وصلب جثته عام 231 . وظل ابن حنبل بعيدا عن مسرح الأحداث الى وفاته عام 241 ، بعد عشر سنوات من مقتل ابن نصر الخزاعى .
2 ـ بدأ الأمر بكتاب الخليفة الواثق عام 231 إلى أمير البصرة يأمره أن يمتحن الأئمة والمؤذنين بخلق القرآن. وكان من ضحايا الواثق فى خلق القرآن الفقيه نعيم بن حماد ، فقد طلبه الواثق من مصر ، فجىء به الى بغداد فى الحديد ، وامتنع عن القول بخلق القرآن ، فسجنه الواثق ، وظل فى السجن مقيدا الى ان مات فيه عام 228 . ومثله يوسف بن يحيى البويطى ، الذى حملوه الى بغداد مثقلا بالحديد لأنه رفض القول بخلق القرآن ، وظل فى السجن الى ان مات 232 .
3 ـ وشهد عصر الواثق قتل وصلب أحمد بن نصر عام 231 . وجاءت التفاصيل فى تاريخ الطبرى ( 9 / 135 : 139 ) وتاريخ بغداد ( 5 / 173 : 180 ) ، ثم نقل عنهما ابن الجوزى فى المنتظم .( 11 / 165 : 170 ).
ولم يكن لأحمد بن نصر تميز فى الحديث ، ولكن تميّز على قادة أهل الحديث بإنتمائه الى أسرة ذات مكانة ونفوذ ممّا شجعه على أن يكون صاحب طموح ونشاط معارض للعباسيين تحت شعار الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر . وبسبب خطورته وخطورة حركته بادر الواثق بإخماد حركته ، وعقد له محاكمة سريعة تجنب فيها الواثق التحقيق معه بالتهمة الأصلية وهى الثورة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وحصر المحاكمة فى موضوع خلق القرآن الذى لم يكن ابن نصر رأسا فيه ، ولكنها التهمة التى بها قام الواثق بقتل ابن نصر بيده ، وصلبه، وكتبت بها ورقة كانت معلقة على جثته وهو مصلوب .
4 ـ يقول الطبرى تحت عنوان ( ذكر مقتل أحمد بن نصر الخزاعى على يد الواثق ) : ( وفى هذه السنة تحرّك ببغداد فى ربض عمرو بن عطاء ، فأخذوا على أحمد بن نصر الخزاعى البيعة ) . أى أن بعض أهل بغداد بايعوا أحمد بن نصر على الثورة ضد العباسيين . ومن التفاصيل نفهم مكانة ابن نصر ، فقد كان جده مالك بن الهيثم أحد نقباء بنى العباس ، أى من كبار مؤيديهم . ويقول ابن الجوزى عن مكانة أسرة ابن نصر الخزاعى : ( ومالك بن الهيثم كان أحد نقباء بني العباس في ابتداء دولتهم ، وسويقة نصر ببغداد تنسب إلى أبيه نصر ‏.‏ )أى ظلت سويقة نصر ببغداد حتى عصر ابن الجوزى فى القرن السادس الهجرى.
5 ـ وقد إفتقد قادة أهل الحديث المكانة والنفوذ لأنّ معظمهم من الفقراء والعوام ، ولذا كانوا يلوذون بجاه أحمد بن نصر ضد الدولة العباسية . يقول الطبرى عن أحمد إنه كان يغشاه أهل الحديث كيحيى بن معين وابن الدورى وابن خيثمة، وقد إستمالوه الى معارضة رأى العباسيين فى خلق القرآن ، فأصبح ابن نصر مخاصما لمن يقول بخلق القرآن ، ( هذا مع منزلة أبيه فى الدولة ) كما يقول الطبرى . بل كان ابن نصر ( يبسط لسانه فيمن يقول ذلك ). ولم يأبه ابن نصر بغلظة الواثق واضطهاده من يخالف رأى المعتزلة. وقد شتم أحمد بن نصر الخليفة الواثق علنا بين جماعة من الناس فى بيته ووصفه بالخنزير ورماه بالكفر . وشاع هذا فى بغداد . وتجمع حول ابن نصر أهل الحديث يشجعونه على مواجهة الواثق ، يقول الطبرى : ( وحملوه على الحركة لانكار القول بخلق القرآن ، وقصدوه بذلك دون غيره ، لما كان لأبيه وجده فى دولة بنى العباس من الأثر ، ولما كان له ببغداد ، وأنه كان أحد من بايع له أهل الجانب الشرقى على الأمر بالمعروف والسمع له فى سنة إحدى ومائتين ..فرجو إستجابة العامة له إذا تحرّك . ) .
6 ـ ويروى ابن الجوزى عن شيوخه من أهل الحديث أن أمر أحمد بن نصر ( تحرّك ببغداد في آخر أيام الواثق، فاجتمع إليه خلق من الناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، إلى أن ملكوا بغداد . ) أى إستولوا على بغداد وقت أن كان الواثق يقيم فى مدينة ( سامرا ) بزعم ابن الجوزى . وبدأ أتباع احمد بن نصر فى الإستيلاء على بغداد يقودهم رجلان : ( يقال لأحدهما‏:‏ طالب في الجانب الغربي ، ويقال للآخر‏:‏ أبو هارون في الجانب الشرقي . وكانا موسرين . فبذلا مالًا . وعزما على الوثوب ببغداد في آخر أيام الواثق في شعبان سنة إحدى وثلاثين ومائتين.) ووصلت الأخبار الى رئيس الشرطة ( إسحاق بن إبراهيم ، فأخذ جماعة، منهم فيهم أحمد بن نصر وصاحباه طالب وأبو هارون . ) وحملهم الى الخليفة الواثق فى سامراء .
7 ـ وحقّق الواثق بنفسه مع ابن نصر فى موضوع خلق القرآن بحضور ابن أبى داود رأس المعتزلة : ( فجلس لهم الواثق . وقال لأحمد بن نصر‏:‏ دع ما أخذت له . ( يعنى دع موضوع الثورة والحركة لأخذ بغداد ) ما تقول في القرآن ؟ قال‏:‏ هو كلام الله. قال‏:‏ أفمخلوق هو؟ قال‏:‏ هو كلام الله .قال‏:‏ أفترى ربك في القيامة ؟ قال‏:‏ كذا جاءت الرواية ‏.‏ قال‏:‏ ويحك يرى كما يرى ؟ أفمخلوق هو ؟ قال‏:‏ هو كلام الله. قال‏:‏ المحدود المجسوم ويحويه مكان ويحصره الناظر؟ أنا أكفر برب هذه صفته.) وسأل الواثق الحاضرين : ( ما تقولون فيه ؟ ) فقال القاضى عبد الرحمن بن إسحاق : هو حلال الدم . وأيده جماعة من الحاضرين ، ولكن حاول ابن أبى داود إنقاذه ، فقال للواثق‏:‏ " يا أمير المؤمنين شيخ مختل لعل به عاهة أو تغير عقله، يؤخر أمره ويستتاب ." فقال الواثق‏:‏ ما أراه إلا مؤذنًا بالكفر قائمًا بما يعتقده منه‏.‏ ودعا الواثق بسيف ( الصمصامة ) ، وقال‏:‏ ( إذا قمت إليه فلا يقومن أحد معي، فإني أحتسب خطاي إلى هذا الكافر الذي يعبد ربًا لا نعبده ولا نعرفه بالصفة التي وصفه بها . ) ثم أمر بالنطع فأُجلس عليه وهو مقيد ، وأمر بشد رأسه بحبل ، وأمرهم أن يمدوه ‏.‏ ومشى إليه حتى ضرب عنقه . وأمر بحمل رأسه إلى بغداد فنصبت في الجانب الشرقي أيامًا ، وفي الجانب الغربي أيامًا . وتتبع رؤساء أصحابه فوضعوا في الحبوس ‏.‏
وفي رواية أخرى‏:‏ أنّ الواثق لم يحقق معه فيما قيل عنه في الخروج عليه، لكنه قال‏:‏ ( ما تقول في القرآن وهل ترى ربك ؟ فذكر نحو ما تقدم إلى أن قال‏:‏ فدعا الواثق بسيف عمرو بن معد يكرب ، ومشى إليه وضربه ضربة وقعت على حبل العاتق ، ثم ضربه ضربة أخرى على رأسه . ثم انتضى سيما الدمشقي سيفه فضرب عنقه ، وجزّ رأسه . ثم صلب في الحظيرة التي فيها بابك ، وفي رجليه قيود ،وعليه سراويل وقميص . وحمل رأسه إلى مدينة السلام ، فنصب في الجانب الشرقي أيامًا ، وفي الجانب الغربي أيامًا . ثم حول إلى الشرقي . وحظر على الرأس حظيرة . وضرب عليه فسطاط وأقيم عليه الحرس ‏.‏ ) وتقول الرواية ( ‏ ضربت عنق أحمد بن نصر . وهذه نسخة الرقعة معلقة في أذنه‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم‏:‏ هذا رأس أحمد بن نصر بن مالك . دعاه عبد الله الإمام هارون الواثق بالله أمير المؤمنين إلى القول بخلق القرآن ونفي التشبيه ، فأبى إلا المعاندة، فعجّله الله إلى ناره. ) ‏.‏
8 ـ وأدّى حُمق الخليفة الواثق وقتله ابن نصر وصلب جسده فى مكان وتعليق راسه فى مكان آخر الى زيادة شهرته ، فقد أصبح رمزا فى أعين العوام للثورة على العباسيين ، وفى إعتناق التشدّد السنى للمزايدة على الدولة العباسية السّنية . وقد ساعد على هذا أكثر وأكثر تلك الدعاية التى قام بها أهل الحديث ، وهم أرباب القصص والوعظ ، وقد إخترعوا منامات وقصصا راجت عن كرامات لرأس احمد بن نصر، خصوصا فى خلافة المتوكل الذى تولى بعد أخيه الواثق . وقد ذكر ابن الجوزى هذه الحكايات المصنوعة مُصدّقا لها بالطبع فى مناقب ابن حنبل ص 399 400 ، وذكر بعضها فى المنتظم بإسناد وعنعنة، يقول : ( أخبرنا عبد الرحمن القزاز قال‏:‏ أخبرنا الخطيب أحمد بن علي بن ثابت أخبرنا إبراهيم بن هبة الله الجرباذوقاني أخبرنا معمر بن أحمد الأصبهاني قال‏:‏ أخبرني أبو عمرو عثمان بن محمد العثماني إجازة قال‏:‏ حدثني علي بن محمد بن إبراهيم حدثنا إبراهيم بن إسماعيل بن خلف ) ثم يأتى موضوع الحكاية قال الراوى ‏:‏ ( كان أحمد بن نصر خلّي ( أى خليلى وصاحبى ) فلما قتل في المحنة ، وصُلب رأسه ، أُخبرت أن الرأس يقرأ القرآن ، فمضيت فبتّ بقرب من الرأس مشرفًا عليه . وكان عنده رجالة وفرسان يحفظونه . فلما هدأت العيون سمعت الرأس يقرأ‏:‏ ‏{‏آلم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون‏}‏ الآية . فاقشعر جلدي . ثم رأيته بعد ذلك في المنام وعليه السندس والإستبرق وعلى رأسه تاج، فقلت‏:‏ ما فعل الله بك يا أخي ؟ قال‏:‏ " غفر لي وأدخلني الجنة إلا أني كنت مغمومًا ثلاثة أيام " فقلت‏:‏ ولم ؟ قال‏:‏ " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ بي ، فلما بلغ خشبتي حوّل وجهه عني. فقلت له بعد ذلك‏:‏ يا رسول الله قُتلت على الحق أم على الباطل ؟ قال‏:‏ أنت على الحق . ولكن قتلك رجل من أهل بيتي فإذا بلغت إليك أستحي منك ‏.‏ ) . يعنى جعلوا الرسول يستحى من أحمد بن نصر .!
وفى رواية أخرى جعلوا رأس أحمد بن نصر تدور نحو القبلة ، فكلفوا رجلا يعيدها كل مرة خلاف القبلة : ( أخبرنا عبد الرحمن بن محمد أخبرنا الخطيب قال‏:‏ قرأت على أبي بكر البرقاني عن أبي إسحاق إبراهيم بن محمد المزكي أخبرنا محمد بن إسحاق السراج قال‏:‏ سمعت أبا بكر المطوعي قال‏:‏ لما جيء برأس أحمد بن نصر صلبوه على الجسر فكانت الريح تديره قبل القبلة فأقعدوا له رجلًا معه قصبة أو رمح فكان إذا دار نحو القبلة أداره إلى خلاف القبلة ‏.‏ ).
9 ، ثم أنزلوا رأسه وجمعوه بجسده ودفنوه عام 237 . وكان هذا فى خلافة المتوكل . فقد أدت دعاية أهل الحديث الى تقديس العوام للرأس المصلوب ، فصاروا يتبركون به، وكثرت أعدادهم . وخشى المتوكل من أن يتحول هذا الرأس الى مصدر تهديد لسلطانه ، مع أنه صار حنبليا ، إلا إنه خشى من عواقب وجود الرأس عامل تذكير بقتل ابن نصر يكون دافعا للإنتقام والثورة على الدولة العباسية ، فأمر بإنزال الرأس ودفنها ، فرفض العوام . تقول الرواية فى تاريخ الطبرى فى أحداث عام 237 : ( وفيها أمر المتوكل في يوم الفطر منها بإنزال جتة أحمد بن نصر بن مالك الخزاعي ، ودفعه إلى أوليائه. ) ( ذكر أن المتوكل لما أمر بدفع جثته إلى أوليائه لدفنه فعل ذلك فدفع إليهم . وقد كان المتوكل لما أفضت إليه الخلافة نهى عن الجدال في القرآن وغيره. ونفذت كتبه بذلك إلى الآفاق .وهمّ بإنزال أحمد بن نصر عن خشبته ، فاجتمع الغوغاء والرعاع إلى موضع تلك الخشبة ، وكثروا ، وتكلموا . فبلغ ذلك المتوكل ، فوجه إليهم نصر بن الليث ، فأخذ منهم نحوا من عشرين رجلا فضربهم وحبسهم . وترك إنزال أحمد بن نصر من خشبته لما بلغه من تكثير العامة في أمره . وبقي الذين أخذوا بسببه في الحبس حينا. ثم أطلقوا . ) وبعدها تم دفن جثة ابن نصر . وجاءت الأخبار ( بخبر العامة وما كان من اجتماعها وتمسحها بالجنازة ، جنازة أحمد بن نصر وبخشبة رأسه . ) ( فأمر المتوكل بالكتاب إلى محمد بن عبد الله بن طاهر بمنع العامة من الاجتماع والحركة في مثل هذا وشبهه. ) .
أخيرا :
1 ـ تحول العوام الى الحنبلية فى عصر الخليفة الحنبلى المتوكل ، بل وزايدوا عليه فى موضع رأس احمد بن نصر . مع كل ما فعله المتوكل للحنابلة فى خلافته .
2 ـ صار العوام حنابلة مع غياب ابن حنبل عن مسرح الأحداث وقتها . 

اجمالي القراءات 10251