-1-
لم يعد للعرب من شاغل يشغلهم، غير كيفية الإمساك، وذبح هذا الأرنب.
فمنهم من يشويه بعد ذلك، ومنهم من يقليه، ومنهم من يطبخه.
وهم يستعدون للإمساك بهذا الأرنب، استعدادهم الحربي والعسكري لدخول معركة، مع عدو شرس وقوي. وتشترك الدولة كلها في الإعداد لهذه الحرب، وضمان كسبها، وعدم عودة المحاربين منكسرين، فارغي الوفاض.
وإمساكهم بالأرنب، وذبحه، وتقديمه على طبق من فضة للمسؤول، هو الانتصار الأكبر بعد طول استعداد وانتظار.
فالأجهزة تستعد منذ وقت كاف، وتجمع التقارير، وتحللها، وتتتابع، وترصد كل المشبوهين من أصحاب السوابق، ويأتي اليوم والساعة الحاسمة، لكي تكون النهاية.
ولكن لا نهاية للحداثة، لأن الحداثة هي القدر، ولا مفر لنا من القدر.
-2-
لقد شعر المثقفون العرب في نهاية 2010 أنهم ملاحقون ومراقبون من أجهزة الأمن العربية، في مشرق العالم العربي وفي مغربه، وأن "يومهم" قريب، بعد أن ضاق صدر الأنظمة العربية بالحداثة، ودعواتها، والحداثيين، وسمَّهم – كما يصفهم رجال الدين - القاتل للقوارض.
وأمل المثقفون أملاً كبيراً في "الربيع العربي"، الذي بدأت زهوره تتفتح مع بداية عام 2011، ولكن الأجهزة الأمنية في أماكن حقول "الربيع العربي"، كانت أقوى من الشعوب. فكانت النكسات التي نتجرع سمومها الآن في تونس، وليبيا، وسورية خاصة.
-3-
لاحظ كثير من المثقفين العرب المعاصرين – كما يقول المفكر والباحث التونسي محمد الحداد – أن ثمة قراراً بإعدام كلمة "حداثة"، وسحبها نهائياً من المعجم المصطلحي المتداول. وهو ما شعروا به من خلال محاضرات في عواصم عربية مختلفة.
وقد لاحظ هؤلاء، أن البعض أصبح ينتقي كلماته بدقّة كي يتفادى استعمال كلمة "حداثة"، والبعض الآخر يهيج، ويموج، لمجرّد ذكر الكلمة، وكأنها الكُفر البواح.
والأخطر من ذلك، أنّ البعض يسعى إلى إقناع نفسه وغيره، من أنّ "الربيع العربي" أعاد الإسلام إلى الشعوب بعد عقود من الضلال الحداثي، مما يعني أن "الحداثة" أصبحت "جاهلية جديدة" على حد قول سيد قطب في كتابه (معالم في الطريق)، ومحمد قطب في كتابه (جاهلية القرن العشرين)، ينبغي القطع معها. وهذه الصياغة للمقولة القطبيّة -نسبة إلى سيد قطب- قديمة، نعرف جيداً، ما تسبّبت به من ويلات في المجتمعات العربية، ومنها مصر الأمس واليوم.
وبقدرة قادر، أُسبغت صفة الحداثة على بعض الحكّام، الذين عصفت بهم ثورات "الربيع العربي"، رغم ما كان يحيط بهم من مئات الوعاظ ورجال الدين المتفننين في تبرير حكمهم بالمستندات التراثية، ورغم أن الثورات عليهم قامت باسم الديموقراطية، التي هي جزء من مكتسبات "الحداثة"، وتمثّل الوجه السياسي منها.
-4-
من جانب آخر، يعترف كثير من المثقفين العرب في الشرق والغرب– ومنهم محمد الحداد والراحل العفيف الأخضر – ولا ينكرون، أنّ للخطاب الحداثي انحرافاته، كما الخطاب الديني المزيف المقابل له أيضاً.
لقد ابتعد الحداثيون عن الإرهاب والعنف، الذي قام به الآخرون، واكتفوا بالجدل وبالتي هي أحسن، ورغم هذا ظلوا منبوذين وملاحقين، ومن المغضوب عليهم، والسبب – في رأينا - أنهم لم يجيدوا مخاطبة الشارع العربي المتدين، كما خاطبه المقابلون لهم في الشارع. فالجماعات الدينية كانت تقابل جدل الحداثيين من داخل الدين، بينما كان الحداثيون يقابلون المقابلين من خارج الدين، بأفكار مُستقاة من أفلاطون، ونيتشه، وهيجل، وماركس، وغيرهم، فلم يسمع لهم أحد. ولم يدرسوا تجربة وحكمة الرئيس الراحل بورقيبة، عندما أصلح تونس من خلال أبي حامد الغزالي، وابن رشد، وابن القيم، وغيرهم، وليس من خلال جان جاك رسو، وفولتير، ومونتيسكيو، وديكارت، وغيرهم.
إضافة لهذا، فقد كانت انحرافات "الحداثة" أقلّ سوءاً، فلم نسمع في العالم العربي عن قيام مجموعات، تستند إلى الحداثة، بتفجير المباني، ووضع القنابل في القطارات والطائرات، واغتيال المخالفين في الرأي، وترويع النساء، والأقليات، واستهداف المثقّفين والفنّانين.
-5-
ورغم انتشار العولمة، والإنترنت، ووسائل المعرفة الأخرى، وثورة المعلومات والاتصالات التي يعيشها العالم العربي الآن، إلا أن تفاعل الفكر العربي مع الفكر العالمي قد بدأ يتراجع في الفترة الأخيرة، ممّا جعل الكثيرين، من حداثيين أو تراثيين، يرددون تصوّرات قديمة ومنفصلة عن تطوّرات "الحداثة"، ومن هذه التصورات، ربط الظاهرة "الحداثة" بالظاهرة الاستعمارية، وهو ربط متعسف.
ويقول الباحث الحداد، رداً على هذا الربط المتعسف، إن التاريخ شهد موجات استعمارية، لم ترتبط بالحداثة، مثل السيطرة الرومانية على جنوب المتوسط، أو الحروب الصليبية، كما وجدت "تجارب حداثية"، نشأت من رحم مقاومة الاستعمار والهيمنة الإمبريالية، كما هو الشأن في اليابان، وأميركا الجنوبية، ومثل "الحداثة السياسية" في الهند، و"الحداثة التكنولوجية" في الصين.
كذلك، فإنّ ربط الحداثة بمعاداة الدين لا يصحّ، ولا يستقيم... فالحداثة في اليابان، والهند، وأميركا الجنوبية، وجنوب أفريقيا، وأوروبا الشرقية، قامت في تآلف مع الدين، وكذلك بعض التجارب الواعدة في العالم الإسلامي، مثل تركيا، وإندونيسيا، وماليزيا.
والغرب ذاته، بدأ حداثته بالدين من خلال الكاهن لوثر، والحركة البروتستانتية، التي لم تكن نفياً للدين، بل كانت تجديداً له، وتنقيحاً مما لحقه من أباطيل، وخرافات، وتقليد أعمى لرؤسائه، لذلك أعجب بها بعض "النهضويين" العرب الذين دعوا إلى الإصلاح، ولم يعبؤوا بتهم "التكفير" التي لحقتهم. فثمّة خلط طفولي، وجاهل، ومتعمّد لدى بعض التقليديين العرب بين معاداة الدين والدفاع عن حرية المعتقد، واحترام العقائد المختلفة.