ذاكرتي تكاد تكون معوقة تماما عند الحديث عن ذكريات الجامعة. فأنا بالكاد أتذكر شيئا مما حدث في تلك الفترة من الحياة سوى علامات بارزة هنا وهناك لا تتخطى الخمسة أحداث. لكني أتذكر تماما أنني كنت لا أطيق الدراسة على الإطلاق، فكنت دائما أشعر بأنه يتم إلقاء الأكاذيب والسموم في عقولنا على أنها تعليم نتباهى به ونتفوق على بعضنا الآخر في كمية السم التي قد يستوعبها عقل الفرد فينا. ويخرج منا من بقى بعقله ليدرك أننا تحولنا من جهلة إلى أغبياء بفضل التعليم!
كانت أحلام ما قبل الجامعة وقد أدركنا الثانوية العامة تحديدا تتشكل بالقصص والحكاوي من الرواة ممن سبقونا إلى هذا المجتمع الجامعي الأشبه بالخيال آنذاك. ولأننا عشنا ما يزيد عن ثلاثة أرباع أعمارنا ندور في فلك ذكوري بحت خلال دراسة ما قبل الجامعة، فكانت الحكاوي تنصب دائما في الجنس الآخر، هذا المخرج المنتظر والمقدس الذي لدينا آنذاك كان يفوق في قدسيته سيناء المسيحيين ومكة المسلمين. فقد كنا، ولم ندرك حينها، نصارع أعراضا جانبية من خلل في الطبيعة فرضه المجتمع الفوقي علينا بفصلنا تماما عن هذا الجنس الذي ماكنا لنراه إلا في الشارع ونعلم أنه من المحرمات، وهن بالضرورة أيضا كن في نفس المأزق.
ثم ذهبنا إلى الجامعة...
كنا داخل كلية التجارة مجتمع فريد. منقسمين كما المجتمع الخارجي تماما إلى طوائف وأشكال وطبقات كثيرة، حتى فى مناهج التدريس بين دراسة بالإنجليزية البحتة وكنا نطلق على دارسيها "طواويس الكلية" ذوي المستقبل الواعد ودراسة بالعربية والتي لا داعي لذكر أي وصف لها. وكان منا من هم قادمون محلون بمزايا ثروات آباءهم من سيارات تتدرج في فراهتها وملابس ترفة ونقود تصرف يوميا تجعل العقل عاجزا عن استيعاب كيفية وجودها. وآخرون محملون بظروف إقتصادية تتجلى ملامحها في ملابسهم البسيطة، والرثة أحيانا، والأحذية المتهالكة والتي لولا بركات أيادي الإسكافيين لكانت تمردت عند أول مزلقان أو خروج قدم عن مسارها الطبيعي.
لا ينظر إلي جانبنا أحد سوانا! وهناك، على الجانب الآخر، إصطفاف من الجنسين في إنسجام واضح، بينما على هذا الجانب استسلام تام للحاجز النفسي الرهيب الذي أظهر نفسه حاكما للموقف منذ اللحظة الأولى التي خطت فيه أقدامنا داخل الكلية. وللوهلة الأولى كان كل فرد فينا يشعر بأنه وحده، خجل غير طبيعي! ثم وبعد أن بدأت قوانين الطبيعة تشكل ملامح القطعان، بدأ الخجلانون في الانجذاب نحو بعضهم البعض، وأيضا بعضهن البعض، بشكل لا إرادي. وبقي هناك قسمان، قسم يعج بالجنسين معا لا حواجز نفسية بينهم، وقسم آخر منقسم داخل نفسه بين ذكور مع بعضها وإناث مع بعضهن! ثم بدأت تتشكل ملامح جديدة في هذا القسم من المجتمع الملعون...
عندها فقط اكتشفنا أن الرواة ممن سبقونا كانوا كاذبين سارحين متخيلين يقصون علينا ما رأوه، وليس ما خاضوه بأنفسهم من تجارب. وذاك لأنهم كانوا منتمين لنفس الطبقة وهي طبقتنا الدنيا وقد سار عليهم من قوانين في تلك التجربة ما عرفنا بعد ذلك أنه صار علينا. وأدركنا أن الرواة هما بقايا المختلين نفسيا من مجتمع مجذوب كان الأكثر فيه خللا ينحو نحو التطرفات بشتى أنواعها.
ازداد الانقسام في مجتمع الخجل. فكان الأكثرية إحباطا بؤر شديدة الثراء للتجمعات الدينية، والتي بدورها تشكلت كنوع من أنواع التمرد على الخلل المركب الذى يعود جزء منه في قدمه إلى المدارس الحكومية الفاصلة بين الجنسين وجزء يخوض تجربة قاسية من الشعور بالغربة داخل مجتمع كان من المفترض أن يكون طبيعيا لكنه أصبح مفرقا. أما الأقلية كان عند بعضهم من الوعي الكافي والثراء الفكري نوعا ما وقد إتجهوا للناحية الأخرى من تنظيمات يسارية أو شيوعية. وفي مجمل الأمر، ومهما كان الاتجاه الفكري، كان المآل هو نوع من أنواع اظهار التفرد إما في المعرفة أو في الدين. وكان الدين هو المسيطر. هذا لأن الفرد المتمرد يواجه صعوبات تحدد إلى أي مدى يستطع التمرد. فإما أن يقطع شوطا كبيرا في التمرد فيذهب ناحية اليسار، أو يقع أسيرا لمجتمع الأسرة المحافظة والفقيرة بدورها فكرا أو مالا أو إثنتيهما والتي سيعود إليها حتما آخر كل يوم فلم يكن من المقبول أن يخط خطوة إلا ناحية اليمين.
تناسى هذا القسم من المجتمع الجانب الآخر المتسق مع بعضه، وبدأ يتفاعل داخله. وبدأت القيم المقلوبة تخط نفسها بفعل قوانين الطبيعة لفرض نوع من أنواع السيطرة، فكان ذاتيا يحكمه القوة العضلية فى تفضيل الذكور على الإناث ومن ثم بلورة القيم في الحكم على الأخلاقيات التي كانت تستمد زيفها الشديد من زيف الموقف إثر كل فعل تتفرد فيه، أو تشترك فيه، أنثى.
ومن هذا الجانب المنقسم كانت هناك بعض خطوات تحمل الطموح في الذهاب إلى الجانب الآخر المتناسق والمتسق. لكن خطوات كتلك كانت تتطلب شيئا ما يجعل الفرد يستحق القفز إلى هناك ومن ثم تسلق الحاجز النفسي وسحقه. والسواد الأعظم من النجاح كان يذهب ناحية الجميلات من الجانب الخجول، واللائي استطعن الانضمام إلى المجتمع الآخر مستخدمات جمالهن كعنصر، وكن يذهبن إلى الأدنين من الجانب الآخر فيتلقفوهن...ولكن إلى حين...وتلك كانت المخاطرة التي لم يعلمن عنها مسبقا. فبتخطيهن الحاجز كان هناك حكمين لا ثالث لهما، إما أن تظل هناك وهذا كان نادرا بل ومستحيلا، لأن هذا يتطلب ما هو أكثر من الجمال، كالمال والترف والطبقة الاجتماعية، أو تعود إلى القطيع الذي حكم عليها بمجرد تخطيها للجانب الآخر بكل أقبح وأقذر أنواع الصفات كعقوبة نازلة بسوء السمعة وهذا بدوره كان يجعل الخسارة كلما كانت قريبة في وقت العودة كلما كان زمن العقوبة طويلا ينتهي بنهاية الجامعة، وفي جميع الأحوال لا يقبلها القطيع،! فكان أغلبهن يتزوجن من حيث أتين ولا يعدن إلى الدراسة طاويات ذكريات الجامعة حتى لا يعلم عنها المحيطون في بلادهن فيخسرن آخر أمل لهن في المستقبل المرتبط بتكوين أسرة، أو يخسرن الحياة نفسها كثمن إن كانت الأصول من مجتمع أكثر خبلا.
ومرت الأيام والشهور وبدأت تجربة الجامعة تلملم أوراقها لتستحيل إلى ذكريات كان لها الأثر في تحديد مستقبل الكثيرين، قليل يتخطى إلى مستقبل قد يكون مشرقا ولكن منا من إستحال لإما متطرفا أو متمردا ومتطرفا أو ضحايا او آثمات أو طاوين وطاويات تلك التجربة بكل ما فيها ثم العودة إلى حيث كل شئ كان في الأصل.
ثم كان يوم الخميس، آخر يوم في تجربة الجامعة، تجربة تعقيداتها أعمق بكثير من الحكي عنها بصورة مفهومة. وكنت في طريق عودتي من الجامعة إلى البيت. أسير في الطريق بعد النزول من الميكروباص. وإذا بهرج ومرج في الشوارع لا أكاد أرى إلى أي اتجاه يهرول الناس الذين إختلطوا بين كبير وصغير بصيحات غير مفهومة. ثم بعد محاولات تعديل الوضع المكاني والمرأي حتى أستطيع فهم ماذا يحدث ولماذا يهرول هؤلاء العشرات من الرجال والاطفال، فإذا بي أري رجلا يهرول كما ولدته أمه وكانت الصفوف الأولى تلاحقه بالحجارة!!
إنه محمد!
لا أعرف له إسما غير ذلك ولكن المدينة تعرفه بهذا الإسم.
ذقنه رثة وهائم في الشوارع بشعره الطويل المفعم بقبح الطبيعة من حوله. يقولون عنه أنه كان عبقريا في جامعته! ولسبب أو لآخر، غير معروف، ذهب عقله! أو هكذا يقولون!
ولماذا إذا يفعل معه "العقلاء" ما يفعلون؟
قال لي أحدهم والضحكات تعلو فوق شفتيه وقد استفزتني ضحكاته السخيفة التي تجردت من الإنسانية والمعترفة بالواقع المقيت أنه كان يجلس متكئا على جدار فى طريق السوق، حيث البيع والشراء، وبدأ الأطفال يتقدمون نحوه ويستفزونه ويخطفون منه أشياءه. فلم يكن منه إلا أن هرول وراءهم وأخذ أحد أشياءه من أحد الأطفال الذي وقع إثر المشادة، فهجم عليه الناس والأهالي دون معرفة مسبقة بالأمر وجردوه من ملابسه ثم طاردوه بهذا الشكل!
استدرت...محملا بالحنق...ماذا يحدث؟!
وصلت المنزل مهلكا متعبا، ثم بعد حين غلبني النعاس. وكان صباح الجمعة وقد صحوت على صوت الميكروفون القادم من أحد العشرين مسجد الذين يحيطون بمنزلنا فى محيط لا يزيد عن الكيلومتر المربع، وكانت الأصوات تتعالى من الميكروفونات الأخرى فى خطبهم، إلا أن هذا كان يبدو أقربهم وأقواهم لهذا كان أوضح للمسامع دون حاجة إلى تركيز.
يتحدث عن سماحة الدين...مع تطعيم بحكايات تاريخية آتية من أفراد ينتمون لزمن سحيق كعادة كل جمعة بنفس الحكاوى التي لا تتغير، والمكان شبه الجزيرة العربية، يضرب بهم أمثلة من السماحة والمودة برغم أن التفاصيل لا تقول بذلك! ثم بعد وصلة السماحة والتراحم والمودة، بدأ في إلقاء الأدعية خاتما بها خطبته وكانت الأدعية تصب كلها في لعنات على اليهود والصليبيين والغرب والشيعة والكفرة مع التمنيات بالزوال من الوجود والقتل والدماء، وتتعالى الصيحات وراءه "آمين"!!!
ثمة شئ جعلني أهتم تلك المرة بما هو خارج من هذا الميكروفون برغم تكراره على مسامعي كل جمعة في نفس الوقت...