عرض تمهيدى للشفاعة فى الاسلام ب 1 ف 1
النبى لا يشفع يوم الدين : ( كتاب الشفاعة بين الاسلام والمسلمين )
عرض تمهيدى للشفاعة فى الاسلام
مقدمة
1 ـ خلافا للاسلام فان معظم المسلمين يؤمنون بشفاعة النبى محمد ، بل ويؤمنون بشفاعة غيره من الأولياء والأئمة ، ويجعلون يوم القيامة سوقا رائجة للشفاعات والوساطات بحيث يكون النبى محمد وغيره يملكون يوم الدين وليس الله تعالى. خطورة هذا الاعتقاد انه ليس فقط اهانة لله تعالى وتكذيبا لمئات الآيات القرآنية وافتراءا وكذبا على خاتم النبيين محمد عليه وعليهم السلام ، بل هو أيضا افساد لاخلاق المسلمين فطالما سيدخلون الجنة بالشفاعات مهما فعلوا من جرائم وموبقات فلماذا يتقون الله تعالى ولماذا يتعبون أنفسهم بالترقى الخلقى والتهذيب السلوكى؟ لماذا يتعب الطالب البليد أو حتى النجيب نفسه فى المذاكرة طالما أن والده سيتدخل مقدما لانجاحه فى الامتحان سواء ذاكر أم لم يذاكر. طالما أعتقدنا مقدما أننا من الناجحين يوم الدين بسبب شفاعة النبى فقد نجحنا مقدما قبل يوم الدين ، واذن فلا حاجة ليوم الدين من أساسه طالما كانت النتيجة محسومة مقدما . ودائما تجد الأحاديث الضالة المنسوبة كذبا للنبى محمد وراء كل موبقات المسلمين التى وقعوا ويقعون فيها ، وأحاديث الشفاعة فى مقدمة تلك الأكاذيب المفتراة.
2 ـ فى كتابى " الأنبياء فى القرآن الكريم : دراسة تحليلية " وغيره نفيت شفاعة النبى محمد مستدلا بمائة وخمسين آية قرآنية . كان ذلك فى سنة 1985، ولأن الايمان بشفاعة النبى محمد وتأليهه فوق الايمان بالله تعالى وتقديسه جل وعلا فاننى تعرضت للمحاكمة داخل الأزهر لأتراجع عن اعتقادى ، وانتهى الأمر بتقديم استقالتى ورفع دعوى ضدهم لالزامهم بقبولها ، وانتهى الأمر باطلاق سراحى من هذا المستنقع الراكد لأتنسم عبير الحرية مدافعا عن الاسلام العظيم.
3 ـ قضية الشفاعة تقف بقوة وراء العمليات الانتحارية ، بها يتم اقناع الشاب المخدوع والشابة المخدوعة بأن الجنة فى انتظاره وأنه سيشفع يوم القيامة فى أقاربه وأحبائه، وبذلك يفجر نفسه ليقتل الأبرياء فيخسر الدنيا والآخرة .
4 ـ هذا البحث يبحث قضية الشفاعة بين الاسلام والمسلمين رغبة فى انقاذ المسلمين بالاسلام.
والله تعالى المستعان.
د. أحمد صبحى منصور
القاهرة فى يولية 1997
النبى لا يشفع يوم الدين : ( كتاب الشفاعة بين الاسلام والمسلمين )
الباب الأول : الشفاعة فى الاسلام
الفصل الأول : عرض تمهيدى للشفاعة فى الاسلام
أولا :
القرآن يؤكد على أن النبى لا يعلم الغيب وليس له أن يتكلم عن السعة وما يحدث فيها ولذلك فإن كل أحاديث الشفاعة لم يقلها النبى ولا يمكن أن يجتمع الإيمان بالقرآن والرسول مع الإيمان بتلك الأحاديث الكاذبة التى تخالف كتاب الله. والله تعالى هو وحده "مالك يوم الدين" وهو وحده تعالى الذى يملك الأمر كله يوم القيامة، والنبى نفس بشرية ينطبق عليها قوله تعالى ﴿يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالأمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلّهِ﴾ (الإنفطار 19). لذا قال تعالى للنبى ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ﴾ (آل عمران 128). وإذا أصدر مالك يوم الدين قراراً يوم القيامة فلا مجال لتبديل كلمته، وسيقول تعالى حينئذ ﴿مَا يُبَدّلُ الْقَوْلُ لَدَيّ وَمَآ أَنَاْ بِظَلاّمٍ لّلْعَبِيدِ﴾ (ق 29). ومن التكذيب بآيات الله تعالى أن يؤمن بعضنا بأن الله تعالى يصدر قراراً بأن يدخل بعض الناس النار فيتشفع فيهم النبى ويتراجع الله تعالى عن قراره، لأنه ليس فى إمكان النبى أن يتدخل فى إخراج أحد من النار، فالله تعالى يقول له ﴿أَفَمَنْ حَقّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النّارِ﴾ (الزمر 19).
والإيمان بأحاديث الشفاعة تلك ليس فقط تكذيباً لآيات الله تعالى الصريحة الواضحة ولكنه أيضاً تأليه للنبى محمد عليه السلام بل وتطرف فى تأليهه إلى درجة الادعاء بأنه هو صاحب الأمر يوم القيامة وأنه مالك يوم الدين، وهو الادعاء ضمناً بأن النبى هو أرحم الراحمين لأنه ينقذ الناس من النار بعد أن يحكم الله تعالى بدخولهم فيها.. وهو الادعاء ضمناً بأن النبى هو الأعلم بحال البشر من الله ولذلك فهو يتدخل لدى الله لإنقاذ بعضهم، ولا يملك الله تعالى إلا الموافقة.. فهل ذلك يتفق عقلاً مع الإيمان بالله تعالى مالك يوم الدين الذى لا شريك له فى ملكه وحكمه؟ . والإيمان بالحديث الكاذب الذى يدعى أن النبى يشفع فى البشر جميعاً شفاعة عظمى معناه التكذيب الصريح بالقرآن الذى لا يجعل للنبى أى ميزة يوم القيامة، بل يؤكد أنه مثل كل نفس بشرية يتعرض للحساب والمساءلة ويحاول أن ينجو بنفسه من هول الموقف.. فالنبى نفس بشرية ينطبق عليها قوله تعالى ﴿يَوْمَ يَفِرّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. وَأُمّهِ وَأَبِيهِ. وَصَاحِبَتِهُ وَبَنِيهِ. لِكُلّ امْرِىءٍ مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ (عبس 34: 37) أى سيفر الجميع فى ذلك الوقت ولن يجد النبى أو غيره وقتاً لكى يفكر فى غيره، فكيف سيتصدر للشفاعة فى البشر جميعاً؟
ثم كيف سيتدخل النبى فى حساب البشر ليتوسط فى إدخال بعضهم الجنة، والله تعالى يقول للبشر جميعاً قال تعالى﴿يَأَيّهَا النّاسُ اتّقُواْ رَبّكُمْ وَاخْشَوْاْ يَوْماً لاّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنّ وَعْدَ اللّهِ حَقّ فَلاَ تَغُرّنّكُمُ الْحَيَاةُ الدّنْيَا وَلاَ يَغُرّنّكُم بِاللّهِ الْغَرُورُ. إِنّ اللّهَ عِندَهُ عِلْمُ السّاعَةِ﴾ (لقمان 33،34). وصدق الله العظيم. فالله تعالى هو وحده الذى عنده علم الساعة، وقد أخبرنا ببعض غيب الساعة فى القرآن، ومنه أن النبى وهو والد ومولود لا يملك أن ينفع والده ولا يستطيع أن ينفع ابنه.. وإذا كان لا ينفع ابنته فاطمة فكيف سينفع الآخرين؟. ثم كيف سيتدخل النبى فى حساب البشر ويشفع فيهم وهو نفسه يتعرض للحساب والمساءلة.. إن الله تعالى يؤكد على حساب الأنبياء يوم القيامة حين يجعل الحديث عن حسابهم وهم أفراد مساوياً للحديث عن باقى البشر، والبشر ملايين البلايين، يقول تعالى ﴿فَلَنَسْأَلَنّ الّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنّ الْمُرْسَلِينَ﴾ (الأعراف 6) وبالنسبة لخاتم النبيين فإن الله تعالى يتحدث عن حسابه وهو شخص واحد ويقرن ذلك بحساب الذين معه وهم آلاف الناس، يقول تعالى ﴿وَإِنّهُ لَذِكْرٌ لّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ﴾ (الزخرف 44). وفى حساب النبى فلن يستطيع أن ينفع أحداً من أصحابه، وليس بإمكان أحد من أصحابه أن يغنى عنه شيئاً، يقول الله تعالى للنبى ﴿وَلاَ تَطْرُدِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ.. مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مّن شَيْءٍ﴾ (الأنعام 52). أى فلن يتحمل النبى شيئاً من حسابهم ولن يتحمل أحدهم شيئاً من حساب النبى.ومن الغريب أن يقول الله تعالى له نفس الكلام عن المشركين، يقول تعالى للنبى عنهم ﴿وَلاَ تَتّبِعْ أَهْوَآءَ الّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ. إِنّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ اللّهِ شَيْئاً﴾ (الجاثية 18،19) أى أنهم لن ينفعوا النبى بشىء يوم القيامة، وفى ذلك تمام العدالة.. فالقيامة هى العدالة المطلقة التى لا نظير لها، يقول الله تعالى ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىَ بِنَا حَاسِبِينَ﴾ (الأنبياء 47).
ولكن تلك العدالة فى اليوم الآخر تحولت فى عقائدنا إلى ظلم وشفاعات ووساطات وتزكية لنا نحن دون باقى الأمم، وأصبح من العقائد الثابتة لدينا أن الجنة من نصيبنا نحن من دون البشر جميعاً، وأن أحداً لن يدخل الجنة إلا بعد أن نرضى عنه، وبذلك سلبنا الله تعالى حقوقه علينا وجعلنا أنفسنا مالكين ليوم الدين، وبعد أن ترسب فى اعتقادنا أننا نجحنا فى اختبار يوم القيامة قبل أن تقوم القيامة فعلنا كل الموبقات، والآن نتمتع بكل الرذائل التى أهلك الله تعالى بسببها الأمم السابقة، لدينا السرقات والنهب والتطفيف فى الكيل والموازين، وكان ذلك سبب إهلاك قوم شعيب، ولدينا وباء الشذوذ الجنسى الذى أهلك الله تعالى بسببه قوم لوط، ولدينا ادعاء الألوهية وتقديس البشر الذى أهلك الله تعالى بسببه الأمم السابقة.. ونحن نعبد البشر من الأئمة والأنبياء ونضفى التقديس على أكاذيب ننسبها للرسول ونجعلها فوق كلام الله، ومع ذلك نؤمن بأننا أولياء لله تعالى من دون الناس ونعتقد أننا خير أمة أخرجت للناس..!! ونكتفى بنقد الآخرين ولا نتصور أن فينا عيباً واحداً..!! ومع أننا نرى الله تعالى يذيقنا العذاب الأدنى فى الدنيا إلا أننا لا نتعلم ، وينطبق علينا قوله جل وعلا : " ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون " خصوصا وأن رب العزة يقول بعدها على من يكذب بآيات الله تعالى ويعرض عنها تمسكا بأكاذيب الشفاعات وكتب الأحاديث الضالة : " ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها ، انا من المجرمين منتقمون." السجدة 21ـ22"
ونحن بحمد الله تعالى ـ الذى لا يحمد على مكروه سواه ـ أصبحنا أذل الأمم وأضعفها وأضيعها. نتمتع باذلال حكامنا المسلمين لنا ، ويتمتع حكامنا المقدسون باذلال الغرب لهم، ونحن من محكومين وحكام أصبحنا شر أمة أخرجت للناس.نشرة الأخبار العالمية تتزين دائما بأخبارنا السوداء قتلى وضحايا وقتلة ومجرمون ، أصبحنا آفة العالم ، تظهر فينا بكل صدق لعنة الله تعالى علينا ، أو عذابه الأدنى فينا ، ثم ينتظرنا العذاب الأخزى فى الآخرة ان لم نتب ونرجع للقرآن مخلصين وننبذ افك التراث الضال . كل ذلك النصح لا يجدى مع من يتمسك بتلك الأحاديث والعقائد الضالة التى أوردتنا مورد التهلكة.. ولا نتعلم..
ثانياً:
من يؤمن بشفاعة النبى يستدل عليها بالأحاديث وبتأويل لآيات القرآن الكريم. وقد قرر علماء الأصول أن أحاديث الأحاد- ومنها أحاديث الشفاعة- لا تؤخذ منها العقائد والسمعيات والغيبيات، لأن العقائد لا تؤخذ إلا من الحق القرآنى اليقينى، وقبل علماء الأصول فإن القرآن نفسه يؤكد على أن النبى لا يعلم الغيب وليس له أن يتحدث فى الغيبيات، ومنها علامات الساعة والشفاعة، أى أن تلك الأحاديث لم يقلها النبى، وبالتالى فإن الاستشهاد بها فى إثبات شفاعة النبى أمر باطل.
نأتى بعدها لمحاولتهم تأويل آيات القرآن لإثبات شفاعة مزعومة للنبى عليه السلام.. وفى البداية نقول أن محاولة التأويل فى آيات القرآن معناه أن تحصل بالتأويل على معنى يأتى مناقضاً لآيات عديدة فى القرآن الكريم، وعلى سبيل المثال فإنك إن استطعت بالتأويل والتحريف أن تثبت شفاعة للنبى فإنك ستأتى بمعنى يخالف القرآن الذى يقول للنبى ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ﴾ (آل عمران 128) ويقول له ﴿أَفَمَنْ حَقّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النّارِ﴾ (الزمر 19).أما الذى يبحث عن الحق فى القرآن يبغى وجه الله تعالى ويرجو الهداية فإنه يترك نفسه بين آيات القرآن ولا يفرض عليها أهواءه وأمنياته، وحيثما تصل به الآيات الكريمة إلى معنى فإنه يتمسك به ويضحى فى سبيله بكل ما توارثه من عقائد وأفكار. والقرآن الكريم كتاب مثانى متشابه، والمعانى فيه تتكرر، والمتشابه من الآيات يتكرر فيها المعنى الواحد بصور مختلفة، وفى نفس الوقت تؤكد الآيات المتشابهة المعنى الذى تأتى به الآيات المحكمة، ومعنى ذلك أن الباحث عن الحق فى القرآن لن يلجأ إلى تأويل بعض الآيات لكى يؤكد ما توارثه من عقائد، ثم يأتى فى النهاية بما يخالف آيات القرآن، لن يفعل ذلك الباحث عن الحق، ولكه سيراجع القرآن الكريم كله، ويأتى بالآيات الخاصة بموضوعه، ما كان منها محكماً وما كان منها متشابهاً، وكل الآيات معاً ستعطى حقيقة قرآنية واحدة.
وبالنسبة لقضية الشفاعة سيجد الآيات نؤكد على أن النبى ليس له من الأمر شىء وأنه فى حياته كان يخاف أن عصى ربه عذاب يوم عظيم، وأنه كان يعلن أنه لن يجيره من الله أحد ولن يجد من دون الله ناصراً إلا إذا بلغ الرسالة.. وطالما أن هذه الآيات وهى كثيرة- تؤكد على نفى شفاعة النبى إذن يبدأ الباحث عن الحق فى تتبع آيات الشفاعة بعد أن تأكد منها أنها لا شأن لها بالنبى، خصوصاً قوله تعالى عن الشفاعة ﴿مَن ذَا الّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ﴾ (البقرة 255) لأن الآية التى قبلها تنفى الشفاعة بمفهومها البشرى أى التوسط، فالآية تقول ﴿يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ أَنْفِقُواْ مِمّا رَزَقْنَاكُم مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ﴾ (البقرة 254). فإذا كان فى هذه الدنيا بيع وخلة أى صداقة وإذا كان فى هذه الدنيا وساطة وشفاعة ومحسوبية، فليس فى الآخرة شىء من ذلك.
والقرآن ذكر الشفاعة فى آيات محكمات وآيات متشابهات.. وآية ﴿أَنْفِقُواْ مِمّا رَزَقْنَاكُم مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ﴾ من الآيات المحكمة التى تنفى الشفاعة بمفهومها البشرى الذى نمارسه فى الدنيا والذى على أساسه نتمنى أن يكون يوم الدين سوقاً لشفاعة الأنبياء والأولياء.. ولذلك تأتى آيات محكمة كثيرة تنفى هذه الشفاعة وتؤكد على أنه ليس بإمكان نفس بشرية أن تنفع نفساً بشرية، ومنها قوله تعالى ﴿وَاتّقُواْ يَوْماً لاّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ﴾.. ﴿وَاتّقُواْ يَوْماً لاّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ﴾ (البقرة 48،123). وقوله تعالى ﴿يَأَيّهَا النّاسُ اتّقُواْ رَبّكُمْ وَاخْشَوْاْ يَوْماً لاّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً﴾ (لقمان 33).
أما الآيات المتشابهة فهى تفسر بعضها بعضاً، فقوله تعالى ﴿مَن ذَا الّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ﴾. وقوله تعالى ﴿مَا مِن شَفِيعٍ إِلاّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ﴾ (يونس 3) يشير إلى أن هناك من المخلوقات- غير البشر- من يشفع ولكن بعد إذن الرحمن، ولكى تعرف هذه المخلوقات نرجع إلى باقى الآيات، فالله تعالى يقول ﴿يَوْمَئِذٍ لاّ تَنفَعُ الشّفَاعَةُ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرّحْمَـَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً﴾ (طه 109). فالآية هنا أضافت الرضى من الرحمن بعد الإذن، وتأتى آية أخرى تقول عن الجاهلين وعبادتهم للملائكة ﴿وَقَالُواْ اتّخَذَ الرّحْمَـَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مّكْرَمُونَ. لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ. يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَىَ وَهُمْ مّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ﴾ (الأنبياء 26: 28). إذن يتضح لنا أن الملائكة هى التى تشفع ولكن بعد رضى الله تعالى وإذنه وأمره، ثم تأتى آية أخرى تقول بصراحة ﴿وَكَمْ مّن مّلَكٍ فِي السّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللّهُ لِمَن يَشَآءُ وَيَرْضَىَ﴾ (النجم 26). إذن الملائكة هم المقصودون بقوله تعالى ﴿مَن ذَا الّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ﴾. ولأنهم ملائكة فإن لهم دوراً فى الحساب، وهذا الدور قد حدده رب العزة بأمره وإذنه ورضاه، ولا اختيار للملائكة فى ذلك، وعليه فالشفاعة مصدرها الله تعالى، بأمره وإذنه ورضاه، أما أولئك البشر الذين أصدروا من عندهم قراراً بأن بعض البشر سيشفع فيهم عند الله، فالله تعالى هو الذى رد على أولئك الذين أخذوا من عندهم شفعاء من البشر لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، يقول تعالى ﴿أَمِ اتّخَذُواْ مِن دُونِ اللّهِ شُفَعَآءَ قُلْ أَوَلَوْ كَـانُواْ لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلاَ يَعْقِلُونَ. قُل لِلّهِ الشّفَاعَةُ جَمِيعاً﴾ (الزمر 43،44). فالبشر هم الذين يتخذون الأولياء والشفعاء، وهم الذين يؤلفون الأساطير والأحاديث والأكاذيب، وهم الذين يعبدون أولئك الشفعاء وينتظرون منهم المدد فى الدنيا والجاه فى الآخرة، وينسون أن الله تعالى هو وحده الولى ﴿أَمِ اتّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ فَاللّهُ هُوَ الْوَلِيّ﴾ (الشورى 9) وينسون أن الله وحده هو الشفيع ﴿أَمِ اتّخَذُواْ مِن دُونِ اللّهِ شُفَعَآءَ.. قُل لِلّهِ الشّفَاعَةُ جَمِيعاً﴾.
ومن عجب أن القرآن يؤكد على أن النبى لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً إلا بإذن الله، ومع ذلك يجعلونه مالكاً ليوم الدين وشفيعاً يوم القيامة بالمخالفة لكتاب الله العزيز.
ثالثاً:
يوم القيامة، يوم يقوم الناس لرب العالمين، له مراحل تبدأ بالبعث ثم الحشر ثم العرض ثم الحساب ثم دخول الجنة أو النار، وعند الحشر والهول العظيم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه، ينطبق هذا على كل البشر من الأنبياء وغيرهم، وعند العرض أمام الله تعالى يقف البشر جميعاً أمامه جل وعلا صفاً ﴿وَعُرِضُواْ عَلَىَ رَبّكَ صَفّاً﴾ (الكهف 48). وبعدها يوضع كتاب الأعمال لكل أمة ولكل شخص بعينه. وتعقد المحاكمة الإلهية فى يوم الحساب أو يوم الفصل أو يوم التغابن. والقاضى هنا هو رب العزة ﴿يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يَخْفَىَ عَلَى اللّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلّهِ الْوَاحِدِ الْقَهّارِ. الْيَوْمَ تُجْزَىَ كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَـسَبَتْ لاَ ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ. وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الأَزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ. يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصّدُورُ. وَاللّهُ يَقْضِي بِالْحَقّ﴾ (غافر 16: 20).هل هناك أعظم من هذا الكلام؟ سبحان من كان هذا كلامه!!
فى المحكمة الإلهية لا ظلم، بل عدل مطلق، ونحن فى محاكمات الدنيوية نراعى العدل ما استطعنا، ولا نرضى بأن يتشفع أحدنا فى المتهم أمام القاضى ويجعله يخرج بريئاً وهو مستحق للإدانة، ومع ذلك فإننا نرض أن نزيف أقاويل ننسبها للنبى عليه السلام نجعل فيها المحكمة الإلهية يوم الحساب سوقاً للشفاعات والوساطات، ونكذب بآيات الله تعالى الصريحة التى تكررت فى القرآن تنفى شفاعة البشر، بل وتجعل دور الأنبياء فى تلك المحاكم الإلهية العظمى مناقضاً لتلك الشفاعة المزعومة.
فى محاكمنا الدنيوية هناك شاهد لصالح المتهم وهناك شاهد يشهد على المتهم ويثبت عليه الجريمة، وهناك فرصة للمتهم كى يدافع عن نفسه ما استطاع، وكل ذلك طبعاً بعد أن يأذن القاضى للشاهد والمتهم.. وذلك أقصى ما استطعنا الوصول إليه فى تحقيق العدالة على الأرض، إلا أن العدالة لا تتحق أحياناً لأن القاضى بشر ، وحتى لو كان يتحرى العدل فإنه لا يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور.
أما فى المحكمة التى يعقدها الله تعالى عالم الغيب والشهادة فإنه جل وعلا يوفر كل الفرصة لكل فرد لكى يدافع عن نفسه ما استطاع، وحيث أن كل إنسان يأتى للحساب حريصاً على النجاة بنفسه فقط فإنه لا مجال لأن تجزى نفس عن نفس شيئاً أى لا مجال لأن يشفع بشر فى البشر، بل يحدث العكس، وهو أن يحاول كل منا أن يلقى المسئولية على الآخر لينجو، ولذلك فإن الشاهد البشرى الذى يشهد لصالح المتهم أمام الله لا وجود له، لأن كل نفس بشرية منهمكة فى الجدال عن نفسها فقط يقول تعالى ﴿يَوْمَ تَأْتِي كُلّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نّفْسِهَا وَتُوَفّىَ كُلّ نَفْسٍ مّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ (النحل 111).
وتبدأ المحاكمة الإلهية بأفضل البشر وهم الأنبياء والدعاة للحق، الذين يؤتى بهم أولاً ليشهدوا (على) أقوامهم،أى شهادة خصومة ضد أقوامهم يقول تعالى ﴿وَأَشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِـيءَ بِالنّبِيّيْنَ وَالشّهَدَآءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ ثم يقول عن حساب باقى البشر ﴿وَوُفّيَتْ كُلّ نَفْسٍ مّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾ (الزمر 69،70). أى يأتى النبى شاهداً (على) قومه ، أى شاهد خصومة، يدافع عن نفسه أمام ربه بأنه بلغ الرسالة وأدى ما عليه، أى أنه لا يشهد (لقومه) أى لصالحهم ولكن يشهد (عليهم) أى يكون خصماً لمن عصى منهم، والله تعالى يقول ﴿إِنّآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَىَ فِرْعَوْنَ رَسُولاً﴾ (المزمل 15). والرسول يكون شاهداً على قومه الذين عاصرهم وشاهدهم، والأمة التى لم يشهدها الرسول فى حياته يكون عليها شهداء من الذين عايشوهم، يقول تعالى ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىَ هََؤُلآءِ شَهِيداً﴾ (النساء 41). والله تعالى حكى بعض ما سيحدث فى ذلك اليوم: إذ سيدور حوار بين الله تعالى وعيسى عليه السلام، يقول فى نهايته عيسى ﴿مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبّي وَرَبّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمّا تَوَفّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ (المائدة 117). أى كان شهيداً عليهم مدة حياته فيهم.. أما خاتم النبيين عليه سلام الله فسيقول ﴿ يَرَبّ إِنّ قَوْمِي اتّخَذُواْ هَـَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً﴾ (الفرقان 30). وهذا هى مصيبتنا الكبرى.. أننا اتخذنا القرآن مهجورا ، وهو الذى ضمن الله تعالى حفظه ليكون حجة علينا إلى يوم الدين ، واتخذناه مهجورا بأن اكتفينا باتخاذه أغنية للمقرئين والمنشدين فىة حفلات العزاء ، واتخذناه " رقية " وحجابا " فى الصالون والسيارة والمكتب مجرد رمز للبركة للمعتقدين فى الزار والأرواح الشريرة ، هجرناه بابعاده عن حياتنا العملية فى العقائد والسلوكيات ، بينما اتبعنا فى تلك الحياة العملية كتب الزيف والأحاديث الشيطانية وأوليائها وأئمتها. ولأنهم اسندوا كل هذه الضلالات للنبى محمد ،ولأنهم رسموا له شخصية الاهية تخالف حقيقته البشرية التى أكدها القرآن الكريم ، ولأنهم جعلوه بتلك الأحاديث الضالة مالكا ليوم الدين بالشفاعة الكاذبة ـ بسبب ذلك كله سيأتى النبى محمد يوم القيامة يتبرأ منهم جميعا لأنهم خصومه الحقيقيون ، تقول الآية التالية " وكذلك جعلنا لكل نبى عدوا من المجرمين ، وكفى بربك هاديا ونصيرا. " الفرقان 31 "
وبعد النبى هناك شهيد على كل مجتمع من داخل المجتمع نفسه ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلّ أُمّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مّنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَىَ هَـَؤُلاَءِ وَنَزّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لّكُلّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىَ لِلْمُسْلِمِينَ﴾ (النحل 89). أى أنه بعد وفاة النبى محمد هناك شهيد على كل أمة تالية فى كل مجتمع، وموضوع الشهادة هو الكتاب الحكيم الذى أنزله الله تعالى تبياناً لكل شىء فهجره المسلمون فى سبيل أحاديث مزورة سيتبرأ منها الرسول يوم القيامة. الشاهد على أمته كان فى خصومة مع قومه. هو يِؤكد لهم أن الله تعالى أنزل القرآن الكريم تبيانا لكل شىء وهم يؤكدون أن القرآن غامض محتاج لتفسير ، موحز محتاج لتفصيل ، وناقص محتاج لتكميل ، وفيه من التشريعات ما يستوجب الحذف والالغاء ، لذا يؤمنون أن السنة أو أحاديثهم تنسخ ـ أى تلغى ـ بعض تشريعات القرآن ، وانها تشرح القرآن وتكمله وتفسره وتهيمن عليه . هذا هو موضوع الشهادة يوم القيامة ، اذ سيأتى الشهود يشهدون شهادة خصومة على أقوامهم يؤكدون قوله تعالى " وَنَزّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لّكُلّ شَيْءٍ " دون أن يجرؤ المشركون وقتها على التشكيك فى القرآن متسائلين فأين تفصيلات الصلاة والزكاة و .. فى القرآن الكريم ؟
ولذلك فإن الذين اخترعوا تلك الأحاديث والذين يروجون لها ويصدون عن سبيل الله وكتابه ويبغونها عوجاً هم أشد الناس خزياً يوم العرض على الله، يقول تعالى عن أولئك الكاذبين على الله ورسوله ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللّهِ وُجُوهُهُم مّسْوَدّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنّمَ مَثْوًى لّلْمُتَكَبّرِينَ﴾ (الزمر 60).كانوا فى الدنيا متكبرين بما لديهم من سطوة وأتباع، لأنهم ينشرون بين العوام أحاديث تطمعهم فى دخول الجنة بغير عمل وتشجعهم على الانحراف والتخلف طالما ضمنوا الجنة وأيقنوا أنهم سيدخلونها بالشفاعة البشرية المزعومة، وأولئك المتكبرون هم أعداء الأنبياء حين يروجون لأكاذيب ما نطق بها أنبياء الله، يقول تعالى ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِيّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَآءَ رَبّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾ ويقول تعالى عن جمهورهم من الناس ﴿وَلِتَصْغَىَ إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاَخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مّقْتَرِفُونَ. أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَماً﴾ (الأنعام 112، 113: 114).
أولئك الكاذبون أعداء النبى سيكون المتمسكون بالحق شهوداً عليهم يوم القيامة، فهم أظلم الناس حين افتروا على الله ورسوله كذباً، يقول تعالى ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمّنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ كَذِباً أُوْلَـَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَىَ رَبّهِمْ وَيَقُولُ الأشْهَادُ هَـَؤُلآءِ الّذِينَ كَذَبُواْ عَلَىَ رَبّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظّالِمِينَ. الّذِينَ يَصُدّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا﴾ (هود 19).أولئك الكاذبون سيكونون خصماً لله تعالى، لأنهم زيفوا الدين الذى أنزله للسمو بالناس وكتموا الحق الذى عجزوا عن تزييفه، لذلك فإن الله تعالى فى محكمته العظمى سيكون خصماً لهم، لن يكلمهم ولن يزكيهم ﴿إِنّ الّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَـَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاّ النّارَ وَلاَ يُكَلّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. أُولَـَئِكَ الّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضّلاَلَةَ بِالْهُدَىَ وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النّارِ﴾ (البقرة 174: 175) .ورب العزة يتعجب من صبرهم على النار.. لأن عذابهم أشد، يقول تعالى ﴿الّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ﴾ (النحل 88).
رابعاً:
قوله تعالى ﴿مَن ذَا الّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ﴾ يفسره قوله تعالى ﴿وَكَمْ مّن مّلَكٍ فِي السّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللّهُ لِمَن يَشَآءُ وَيَرْضَىَ﴾ (النجم 26). أى أن الملائكة هى التى تشفع فى النفس البشرية المستحقة للشفاعة، ولكن بعد إذن الله تعالى ورضاه، والملائكة فى ذلك تنفذ أمر الله، فالله تعالى هو وحده صاحب الأمر كله وله تعالى الشفاعة جميعاً ﴿أَمِ اتّخَذُواْ مِن دُونِ اللّهِ شُفَعَآءَ قُلْ أَوَلَوْ كَـانُواْ لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلاَ يَعْقِلُونَ. قُل لِلّهِ الشّفَاعَةُ جَمِيعاً﴾ (الزمر 43: 44).
وكل فعل تقوم به الملائكة تنفيذاً لأمر الله تعالى ينسبه الله تعالى لذاته حيناً وينسبه للملائكة حيناً، رأينا ذلك فى الشفاعة فى الآيات السابقة، ونراه أيضاً فى الموت، فالله تعالى يأمر الملائكة بقبض نفس الإنسان حين الموت، والله تعالى يقول ﴿اللّهُ يَتَوَفّى الأنفُسَ حِينَ مِوْتِهَا﴾ (الزمر 42) أى أنه يصدر الأمر والإذن، ويقول تعالى أيضاً ﴿قُلْ يَتَوَفّاكُم مّلَكُ الْمَوْتِ الّذِي وُكّلَ بِكُمْ﴾ (السجدة 11). أى أن ملك الموت هو قائد التنفيذ، ويساعده جملة من الملائكة والله تعالى أعلم بهم، يقول تعالى ﴿حَتّىَ إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرّطُونَ﴾ (الأنعام 61). إذن فعل الموت يأتى منسوباً لله تعالى باعتباره صاحب الأمر، ويأتى منسوباً للملائكة باعتبارها صاحبة التنفيذ.. وكذلك الشفاعة.. الله تعالى هو صاحب الأمر والإذن، وعلى الملائكة التنفيذ. ولكن من هم الملائكة الذين يشفعون فى الإنسان المستحق للشفاعة؟
نبدأ القصة من أولها، من خلق الإنسان، يقول تعالى ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ كيف يكون الله تعالى أقرب إليك من حبل الوريد؟ عن طريق الملائكة التى تسجل عليك أعمالك وتحفظها فى سجلات، هى كتاب أعمالك، تقول الآية التالية ﴿إِذْ يَتَلَقّى الْمُتَلَقّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشّمَالِ قَعِيدٌ. مّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ (ق 16، 17: 18). إذن هناك اثنان من الملائكة مقترنان بكل فرد منّا يسجل عليه أعماله وأقواله ويحفظانها، والله تعالى يقول عن الملائكة التى تحفظ أعمال الإنسان ﴿وَإِنّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ. كِرَاماً كَاتِبِينَ. يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾ (الإنفطار 10: 12).والإنسان فى حال حياته لا يستطيع أن يرى هذين الملكين اللذين يحفظان أعماله، ولكنه يراهما مع ملائكة الموت، حين تأتيه سكرة الموت وينكشف عنه غطاء الجسد ويرى الملائكة التى تحفظ أعماله قد أغلقت كتاب أعماله فيتمنى أن يأخذ فرصة أخرى ولكن دون جدوى، ﴿حَتّىَ إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبّ ارْجِعُونِ. لَعَلّيَ أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاّ إِنّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىَ يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ (المؤمنون 99: 100). ويدخل كل منا فى البرزخ ميتا ثم تقوم الساعة ويتم البعث للجميع ، ويفاجأ كل منا وقد تحول الرقيب والعتيد اللذان كانا يحفظان أعماله إلى سائق وشهيد؛ أحدهما يسوقه والآخر يشهد عليه . يقول تعالى ﴿مّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ. وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ. وَنُفِخَ فِي الصّورِ ذَلِكَ يَوْمَ الْوَعِيدِ. وَجَآءَتْ كُلّ نَفْسٍ مّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ. لّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مّنْ هَـَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾ (ق 18: 22).
فى الدنيا كان الإنسان حراً يتصرف كما يريد ولا تملك الملائكة التى تحفظ أعماله إلا أن تسجل أعماله فقط، وفى الآخرة يفقد حرية الإرادة وتستحضره الملائكة التى تحمل أعماله إلى موقف العرض أمام الله تعالى. وهنا يكون أسيراً لما كسبت يداه، أو بتعبير القرآن ﴿كُلّ امْرِىءٍ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ﴾ (الطور 21).
وعند الحساب أمام رب العزة جل وعلا تأتى كل نفس بشرية بمفردها والله تعالى يقول للبشر جميعاً ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىَ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوّلَ مَرّةٍ وَتَرَكْتُمْ مّا خَوّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَىَ مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ الّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ﴾ (الأنعام 94). أى يأتى البشر للحساب فرادى وقد تركوا خلفهم المال والجاه والمناصب والعزوة والأتباع ، وتركوا أيضا أساطير الشفاعات ، وسيرون بأعينهم أولئك البشر الذين أسندوا اليهم الشفاعة وهم يفرون لكل امرىء منهم شأن يغنيه. كل منا يأتى أمام الله تعالى يوم الحساب عبدا فردا ، لا فرق بين أعظم البشر وهم الأنبياء وأحط المخلوقات. كل منهم يؤتى به أمام الواحد القيوم فردا. ويقول تعالى عن ذلك الموقف العظيم ﴿إِن كُلّ مَن فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلاّ آتِي الرّحْمََنِ عَبْداً. لّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدّهُمْ عَدّاً. وَكُلّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً﴾ (مريم 93: 95). كل منهم يأتى وحده نفسا بشرية تدافع عن نفسها وتنال نصيبها ان خيرا فخيرا وجنة ،وان شرا فشرا وجحيما : ( يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (111) النحل ).
الفرد هو الواحد ، اما الشفع فهو الذى يأتى للفرد الواحد يؤيده ويشفع فيه . الفرد الوحيد يحتاج إلى شفيع، يؤيده ويعزز موقفه، وذلك معنى شفاعة الملائكة فى أصحاب العمل الصالح من الأفراد، فكل فرد منا فى هذه الحياة قد وكل به ملك يحفظ ويسجل أعماله . ان كانت أعماله صالحة جىء به أمام الله تعالى يسوقه سائق ويحمل أعماله شاهد أو شهيد : (وَجَآءَتْ كُلّ نَفْسٍ مّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ.) ق 21 ). ( الشهيد ) هنا الذى يحمل العمل . إذا كان العمل صالحا تكون شهادته شفاعة أى لصالح الفرد. أما اذا كان العمل سيئا شريرا فالشاهد الذى يحمل هذا العمل سيكون خصما وشاهدا " على " الفرد.
الخلاصة أن الملائكة التى تحمل العمل الصالح للفرد المؤمن تقدم كتاب أعماله حين يأذن الله تعالى ويرضى، والله تعالى يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، والملائكة التى كانت تحفظ سجل حياة الفرد فى الدنيا باسم رقيب وعتيد، يتحولان لكل فرد إلى سائق وشهيد، أحدهما يسوقه إلى موقف العرض والآخر يشهد له أو يشهد عليه، إذا كان عمله صالحاً فهو يشهد له، أى يشفع فيه بتقديم عمله الصالح بعد إذن رب العزة جل وعلا، وإذا كان عمله سيئاً فهى ليست شفاعة ولكن إدانة لا تنفع ولا تشفع بل تزيد صاحب العمل حسرة ونقمة.
وهكذا فإن شهادة الملائكة التى تحمل العمل الصالح للمؤمن الفائز هى الشفاعة، وبالطبع فهذه الملائكة هى التى تقترن بكل فرد تعلم خباياه وتسجل كل حركة وكل لفظة، ولذلك يقول تعالى عن شفاعة الملائكة ﴿وَلاَ يَمْلِكُ الّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشّفَاعَةَ إِلاّ مَن شَهِدَ بِالْحَقّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ (الزخرف 86). فالملائكة الذين يحفظون الأعمال لكل منا يشهدون بالحق لأنهم يعلمون كل صغيرة وكبيرة عن الفرد الذى رافقوه فى حياته.. ولأن ذلك يكون بعد إذن الله تعالى وأمره فإن الله تعالى يقول ﴿لاّ يَمْلِكُونَ الشّفَاعَةَ إِلاّ مَنِ اتّخَذَ عِندَ الرّحْمََنِ عَهْداً﴾ (مريم 87). فالعهد هو الأمر، يقول تعالى ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَىَ ءَادَمَ﴾ (طه 115). أى أمرنا آدم، ويقول ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَبَنِيَ آدَمَ أَن لاّ تَعْبُدُواْ الشّيطَانَ إِنّهُ لَكُمْ عَدُوّ مّبِينٌ﴾ (يس 60). فأوامر الله تعالى أن لا نعبد الشيطان، وقد عهد الله لملائكة الأعمال أى أمرهم وأذن لهم بالشفاعة أى تقديم العمل عند الحساب لأولئك الذين آمنوا وعملوا الصالحات.. وذلك هو معنى شفاعة الملائكة، وهى الشفاعة الوحيدة المسموح بها فى اليوم الأخر طبقا للقرآن الكريم ..
خامساً:
حدثت هذه القصة فى المدينة فى عصر الرسول عليه السلام، سرق شاب درعاً وشاع أمر السرقة وصارت فضيحة للشاب السارق، وأحس أهله بالعار فاجتمعوا ليلاً ليتداركوا الفضيحة، وانتهوا إلى قرار، خبأوا الدرع المسروق فى بيت يهودى برئ، ثم ذهبوا فى الصباح للنبى يدافعون عن ابنهم (المظلوم) وتم العثور على الدرع المسروق فى بيت اليهودى واقتنع النبى ببراءة الشاب ودافع عن براءته.. وبذلك تمت تبرئة المجرم وتمت إدانة برئ مظلوم..ولأنها قصة إنسانية تكرر فى كل زمان ومكان، فإن القرآن نزل يوضح الحق وينصف المظلوم ويثبت جريمة السارق ويضع القواعد، ويحول الحادثة المحددة بالزمان والمكان والأشخاص إلى قضية عامة فوق الزمان والمكان، قضية البرئ المظلوم والمجرم صاحب النفوذ الذى يفلت بجريمته. وبدأت الآيات بعتاب النبى، تقول له ﴿إِنّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ بِمَآ أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُنْ لّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً. وَاسْتَغْفِرِ اللّهِ إِنّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رّحِيماً. وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ مَن كَانَ خَوّاناً أَثِيماً﴾ ولا شك أن أولئك الناس كانوا من الصحابة المقربين للنبى الذين كانوا يتمتعون بتقدير خاص لديه، ولكن لأنهم اجترءوا على تبرئة ابنهم المجرم واتهام إنسان (يهودى) برئ فقد جعلهم الله من الخونة الآثمين.. وتلك عظمة الرقى التشريعى فى الإسلام، فالبرئ له حقوقه حتى لو كان يهودياً والمجرم مستحق للاحتقار هو وأهله الذين يعاونونه حتى لو كانوا من أقرب أصحاب النبى إليه.ثم يقول تعالى يصف تآمر أولئك (الصحابة) ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيّتُونَ مَا لاَ يَرْضَىَ مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً﴾ أى أنهم كانوا يراعون الناس ولا يراعون رب الناس جل وعلا.. تآمروا ليلاً على اتهام برئ ليبرئوا ابنهم المجرم، وقد نسوا أن الله تعالى معهم يسمع نجواهم ومحيط بكل ما يعملون. ثم يتوجه العتاب للنبى ولهم فيقول تعالى ﴿هَا أَنْتُمْ هََؤُلآءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً﴾؟؟!! يعنى إذا كنتم تجادلون وتدافعون عنهم فى الدنيا فهل يستطيع أحد منكم أن يدافع عنهم أو يشفع فيهم يوم القيامة، وهل يستطيع أحد منكم أن يكون وكيلاً عنهم أمام الله، والاستفهام استنكارى.. يعنى أن الله تعالى يستنكر منذ البداية وجود الظلم ، فقد أنزل الكتاب لتأسيس العدل وليقوم الناس بالقسط، ولكن الذى حدث أن الناس لم يكتفوا بنشر الظلم فى الدنيا بل وتصوروا يوماً للحساب فى الآخرة يقوم أيضاً على الوساطات والشفاعات حتى يستطيع الذى نجا بظلمه فى الدنيا أن ينجو أيضاً فى الآخرة.. ولذلك فإن الله تعالى بعد أن عاتبهم- ومنهم النبى- بأنهم إذا كانوا يجادلون عن الخونة فى الدنيا فلن يستطيعوا الدفاع عنهم فى الآخرة.
وبعدها يضع الله تعالى القواعد التى على أساسها تتم عدالة الحساب فى الآخرة حيث لا مجال للشفاعة أو التوسط أو المحاباة، فيقول تعالى ﴿وَمَن يَعْمَلْ سُوَءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رّحِيماً﴾ أى أن المذنب إذا استغفر الله غفر الله له، وحينئذ لا حاجة لوسيط خارجى، عليه أن يتوب والله تعالى يتوب عليه، أى أنه مسئول عن نفسه، إن تاب فالله تعالى غفور رحيم. وتؤكد الآية التالية هذه الحقيقة ﴿وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنّمَا يَكْسِبُهُ عَلَىَ نَفْسِهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً﴾ أى فالمسئولية فردية ولا يغنى أحد عن أحد، والله تعالى (عليم) بكل ما يحدث فى العالم (حكيم) فى كل أحكامه وقضائه وتشريعاته. وتقول الآية التالية ﴿وَمَن يَكْسِبْ خَطِيَئَةً أَوْ إِثْماً ثُمّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مّبِيناً﴾ أى فالذى لا يكتفى بالإثم ولكن يضيف عليه أن يلصق الإثم ببرئ ليفلت هو إنما اكتسب مع الإثم بهتاناً عظيما.. فالعقاب على قدر الجناية..
وفى النهاية يقول تعالى للنبى ﴿وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمّتْ طّآئِفَةٌ مّنْهُمْ أَن يُضِلّوكَ وَمَا يُضِلّونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً﴾ (النساء 105: 113) أى فلولا الوحى وما نزل من الكتاب لاستطاعوا خداع النبى وتضليله، ولكن الله تعالى بفضله على النبى أخبره بما لم يكن يعلم بتآمر أولئك الصحابة الخونة المخادعين الذين كذبوا على النبى ليبرئوا ابنهم بالباطل ويلصقوا الجريمة ببرىء ، وهم فى الحقيقة لم يخدعوا إلا أنفسهم، وما أضلوا غيرهم.
وهكذا لم يتحدث القرآن عن فلان السارق وفلان البرئ وأسرة الجانى وزمن الحادثة وتفصيلاتها، وإنما تحولت الحادثة التاريخية الى قضية عامة نراها فى كل مجتمع لتكون حجة على أصحاب النفوذ الذين يستغلون نفوذهم والواسطة أو الشفاعة فيهربون من العقوبة على جرائمهم ويضعون الأبرياء مكانهم فى السجون ، وتلك احدى أهم الرذائل التى تنتشر فى بلاد " المسلمين " الذين آمنوا بالشفاعات والوساطات فى الدين وفى الدنيا فخسوهما معا، ولذلك تمتلىء السجون فى بلادنا بالمظاليم حتى يقول المثل الشعبى "ياما فى الحبس مظاليم".
والآيات تنفى أن كل الصحابة أطهار بررة، فمنهم السابقون الأطهار ومنهم من خلط عملا صالحا وآخر سيئا ، ومنهم منافقون، ومنهم خونة متآمرون، وذلك الوصف ليس من عندنا ولا نجرؤ على قوله إلا من خلال ما قاله رب العزة فى الآيات السابقة ، استرجع معنا ماقاله تعالى عنهم فى هذا السياق :" ( وَلاَ تَكُنْ لّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً") ـ ( "وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ مَن كَانَ خَوّاناً أَثِيماً" ـ يَسْتَخْفُونَ مِنَ النّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ) ـ ( وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمّتْ طّآئِفَةٌ مّنْهُمْ أَن يُضِلّوكَ وَمَا يُضِلّونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ )". نقول هذا حتى لا تتقافز أمامنا الماعز غاضبة تتهمنا بأننا الذين نهاجم الصحابة .ان الذى ذكر قصص الصحابة التى نخجل منها الآن هو الله تعالى الذى لا معقب لحكمه.. وعليه فإن إضفاء العدالة على كل الصحابة أمر يخالف العقل ويجافى القرآن الكريم.
والآيات تثبت أن النبى بشر يستطيع الآخرون خداعه وتضليله، إلا أن عصمته بالوحى، إذ يأتى الوحى يوضح له الحق ويأمره بالاستغفار من الذنب، وعن عصمة النبى بالوحى فقط يقول له ربه تعالى ﴿قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنّمَآ أَضِلّ عَلَىَ نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيّ رَبّي﴾ (سبأ 50). وإضفاء العصمة المطلقة للنبى تأليه للنبى، فالله سبحانه وتعالى هو وحده المنزه عن الخطأ، وهو الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
فى موضوعنا عن الشفاعة ، فالآيات تثبت أن النبى لن يستطيع أن يجادل عن أحد يوم القيامة أو أن يشفع فيه، فالمسئولية تقع على كل فرد، إذا تاب تاب الله عليه، وإذا عصى ولم يتب فالعقاب على قدر الجريمة.. والله تعالى يقول ﴿مَن يَعْمَلْ سُوَءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً﴾ (النساء 123). أى ولا يجد له من دون الله شفيعاً. ولذلك فإن الذين ارتكنوا فى الدنيا على شفاعة البشر فإنهم سيقولون فى النار ﴿وَمَآ أَضَلّنَآ إِلاّ الْمُجْرِمُونَ. فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ. وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ﴾..!!
وموعدنا أمام الله تعالى يوم القيامة ليحكم بيننا فيما نحن فيه مختلفون..